شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
يوميات من غزة (18)... لهذا السبب النزوح إلى الطابق الثالث أفضل من الأول

يوميات من غزة (18)... لهذا السبب النزوح إلى الطابق الثالث أفضل من الأول

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الثلاثاء 12 ديسمبر 202310:55 ص

هل تعرفين يا لمار أكثر ما يميز الوجود في غزة؟

ما يميزه هو هو أنك لا تسمعين إلا اللهجة الغزّية، تحيطك من كل جانب، تدخل مسامك من الأنف ومن الفم ومن الأذنين بالطبع، وكذلك يفعل الفلفل الغزيّ؛ في المستشفى أصبح الفلفل الأحمر المطحون عملة للمقايضة برغيف خبز أحياناً، وبكمشة من السكر في أحيان أخرى. تعرفت هناك على شباب كان يجلبون لي قليلاً منه مخبأً في زجاجة بلاستيكية ملفوفة بكيس أسود، كأنها ممنوعات يتم تهريبها من يد لأخرى.

في ممرات المستشفى 

لا أذكر كم مرة جرى ريقي لدى رؤية لون الفلفل وهو يتوسط قطعة خبز في يد أحدهم، صرت لا أستحي من طلب شيء أشتهيه، وهل هناك مشتهى في ظل جفاف المعدة غير الفلفل الأحمر؟ أينما كنتُ أمر في المستشفى أو في الخارج الأشبه بمحطة قطار في رمسيس حيث الباعة من كل صنف ولون.

نزلاء الطابق الأول من النازحين هم من يتلقون الإصابات الواردة للمستشفى، حيث يغطي الرماد وآثار القصف الوجوه التي تتشابه ملامحها إلى حد مرعب. 

كنت أسمع الشباب ينادونني خالتو أو عمتو... في البداية كنت أنظر شزراً لمن يخاطبني بهذين اللقبين، خاصة أن شباباً قد أكبرهم بعقد من الزمن لا أكثر يخاطبونني احتراماً هكذا، لذا كنت أتغاضى قليلاً وأستفز كثيراً، لكن الرد الحاد كان على من يخاطبني يا حجة! هل هززت لك سريرك أم تراني أمشي على عكازين؟

الحرب يا حبيبتي أفقدتني رؤية غزة كما أتمنى، لكني لن أسمح لها أن تضيف إلى عمري أعمارا لا تخصني. 

الطابق الأول في مستشفى النزوح 

كنا نظن حالنا سيئاً يُرثى له بسبب كثرة الأطفال والعائلات في الطابق، لكنني كلما نزلت طابقاً اكتشفت كم نحن محظوظون بهذه الإقامة، الكارثة الأكبر تكمن في الطابق الأول، ليس فقط بسبب تكدس العائلات إلى درجة أن "بيت الدرج" كما نطلق عليه هنا وهو المنطقة الضيقة تحت مصطبة الدرج صار مأوى لعائلة تربو على عشرة أفراد. الأقسى أن نزلاء ذلك الطابق من النازحين هم من يتلقون الإصابات الواردة للمستشفى من اشتباكات بالخارج أو الناجين من قصف، وهذا هو الرعب الحقيقي. حينما يغطي الرماد وآثار القصف الوجوه، تتشابه الملامح إلى حد مرعب، خاصة ملامح الأطفال. 

بعض الشباب في المستشفى ينادونني خالتو أو عمتو احتراماً، لذا كنت أتغاضى قليلاً وأُستفز كثيراً، لكن الرد الحاد كان على من يخاطبني يا حجة... الحرب يا حبيبتي أفقدتني رؤية غزة كما أتمنى، لكني لن أسمح لها أن تضيف إلى عمري أعماراً لا تخصني  

كم مرة صاح أحدهم هذا حفيدي، له نفس الضحكة، هذا ابن اخي عرفته من قميصه الذي كان لي، هاتان عينا ابنتي وتلك أظافرها، بعد قليل من التفحّص وتقليب الشعر والأظافر واليدين والألبسة كنت تسمع تنهيدة ارتياح يعقبها في كثير من الحالات بكاء صامت أو نحيب. 

الطابق السادس 

أما سكان الطابق السادس -وهو طابق في طور البناء- فمن أنجب منهم فقد كسب ذرية كما نقول هنا، الحياة هناك رعب مجسد، السماء فوقك لكنها سماء غير السماء، سماء الطابق السادس لا تضيئها النجوم ولا يزينها القمر بل تنيرها القنابل الفوسفورية والحرارية التي يتم إطلاقها كإنارة قادمة من الجحيم، هم لا يسمعون أصوات القصف فقط لكنهم يرونه ويشتمونه في كل لحظة في الليل أو النهار ولا شيء يحميهم من الانزلاق من طرف السطح غير بضعة عمدان من الحديد تقي الساكنين وغالبيتهم أطفال ونساء خطر السقوط. 

هناك ينامون على فرشات متهرئة، حيث لا يوجد بذخ ولا رفاهية قد يمتلكها المقيمون في الطوابق السفلية، لم أفهم للحظة كيف يمكنهم ممارسة الحياة هناك في "الطل" حيث تصحو عيونهم على الدمار والعمارات المقصوفة والبيوت المهدمة والشوارع المحفورة بفعل القذائف التي تتساقط كالذباب على غزة، يبدو أن غزة هي قطعة حلوى كبيرة وإلا فلماذا يسقط فوقها كل هذا الذباب؟  

سماء الطابق السادس لا تضيئها النجوم بل تنيرها القنابل الفوسفورية والحرارية، ولا شيء يحميهم من الانزلاق من طرف السطح غير بضعة عمدان من الحديد تقي الساكنين وغالبيتهم أطفال ونساء خطر السقوط 

يحب الأطفال الحلوى كثيراً، تعلمين هذا يا حبيبتي فأنت منهم، والأطفال هنا ترضيهم أية قطعة حلوى حتى لو انتهت مدة صلاحيتها كحال كثير من المساعدات التي وردتنا إلى المستشفى، لكن الحلوى على ندرتها وقلة جودتها بدأت بالتناقص تدريجياً من أيدي الباعة أمام المستشفى حتى أصبحت عملة نادرة، يلزم الأطفال الكثير من الطاعة كي يكسبوها كمكافأة، لا ضير في ذلك فقد استعاض الناس بساندويتشات المربى والحلاوة الطحينية كنوع من الحلوى، يحضر حينما يحضر الخبز لكنه لا يغيب عند غيابه. 

فقدان الشعور بالوقت 

كنا نحو خمسة عشر ألف نسمة في مباني المستشفى المتلاصقة، نزيد وننقص حسب القصف في الخارج والتهديدات المستمرة بقصف المستشفى على رؤوسنا، كنا قرية صغيرة موزعة على طوابق وأبنية، غرباء كنا وأقرباء وأحبة صرنا، لتمضية الوقت كان الجميع هنا يتعرف عمن يتوسم فيهم صفات مشتركة معه ولطريقته في الحياة، لكن الأمر لا يمنع أن نصاحب أشخاصاً لم نكن لنظن أن هناك مكاناً من الممكن أن يجمعنا بهم.

الحال في المستشفى وضعنا على خط مستقيم واحد، نقف عليه باتجاه عقارب الساعة وكلنا نلف معها، جيراننا لحسن الحظ كانوا ممن يسكنون حينا "تل الهوا" لكن المعرفة كانت في الأوضاع الطبيعية تقتصر على الرجال من جهة، وعلى النساء من جهة أخرى. 

حمل عمّكِ محمود ابنه الوحيد على كتفه وذهب ليدفنه تحت القصف، أحمد الذي كان قد أتم للتو عامه الـ21 كان قد اشتهى كوباً من القهوة لكنه عاد وظرف القهوة في جيبه والرصاصة في رأسه

ليس من الشائع في مدينة محافظة كغزة تتكتم على عريها الداخلي بملابس فضفاضة أن يجلس الشباب جنباً إلى جنب بجوار الفتيات، فما بالكِ بالحديث معهم والنوم متجاورين، لا يفصل بينهن وبين الشباب لا ساتر ولا ستارة. 

لا أعرف الكثير عن كل واحد منهم، لكن المعايشة على مدار شهر إلا يوماً واحداً تعلمك الكثير عن البشر، خاصة وأنتِ ترينهم كما في البيت دون رتوش أو أقنعة خارجية لحفظ ماء الضعف أو الانكسار أو الشر في بعض الأحيان.

بالمناسبة هل أخبرتكِ من قبل يا لمار أن الأيام هنا لا تجري مثلما تجري في الخارج، وأن الوقت هنا مطاطي، يمتد ويتقلص حسب أحداث النهار، ظننت سابقاً أننا قضينا في المستشفى ثلاثة وعشرين يوماً لكنها كانت تزيد على ذلك، دخلنا المستشفى في الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر وغادرناه في الثاني عشر من تشرين الثاني/نوفمبر، يومها حمل عمك محمود ابنه أحمد البكر الوحيد على كتفيه وذهب ليدفنه تحت القصف.

أحمد الذي كان قد أتم للتو عامه الواحد والعشرين كان قد اشتهى كوباً من القهوة لكنه عاد وظرف القهوة في جيبه ورصاصة اخترقت رأسه، هل قلت لك كيف سال خيط من الريق من طرف فمه؟ 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image