أحدهم وصل للتوّ من شمال القطاع إلى جنوبه، بعد أن فصلتهما آليات وقوات الاحتلال الاسرائيلي مع بداية العملية البرية.
بدا الرجل مرتعباً، بلا ملامح، وجهه قد خطف شيء ما لونه. كنتُ رامياً بجنبي على سيارة أخي في انتظار شحن بطارية الموبايل التي فرغت تماماً من طاقتها، تاركاً ضوء الشمس يغسلني من تعب تسلل إلي.
جاء الرجل باتجاهي، سألني متلعثماً:
- بلاقي هون محل أنام فيه بس، المكان أمان هون؟
صادف سؤاله عن الأمان سقوط صاروخ بغتة على هدف ليس بالبعيد منّا، وتشكلت سحابة دخان حجبت ضوء شمس الصباح.
بعد أن هدأ قلبي من رجفته إثر الصوت فقط، نظرت للرجل مبتسماً، لكن لم يبتسم هو لي، قال:
- هادا ولا إشي يا عمي، هاد مزح بالنسبة لشو عشنا.
- من وين يا عم؟
- من حي الزيتون، وصلت قبل ساعة.
- كيف؟
سألته مستغرباً. فلم يعد الأمر سهلاً مع وجود الدبابات على الطرق الواصلة بين غزة والجنوب، وشخصياً لم أصادف من استطاع القدوم منذ أن تم فصل القطاع إلى نصفين بقوة السلاح من السماء والأرض والبحر.
أحدهم وصل للتوّ من شمال القطاع إلى جنوبه، بعد أن فصلتهما آليات الاحتلال الإسرائيلي، بدا الرجل مرتعباً، بلا ملامح، سألني متلعثماً "بلاقي هون محل أنام فيه بس، المكان أمان هون؟ وصادف سؤاله عن الأمان سقوط صاروخ على هدف ليس بالبعيد منّا
- كيف وصلت يا عم؟
- مشي.. مشيت من الزيتون في شوارع فرعية لحتى وصلت دوار دوللي، ومن هناك لقيت عرباية كارو، وركبت مع الراكبين لحوالي ثلاثة كيلو متر تقريباً على شارع صلاح الدين، وبعدها نزلت ومشيت.. مشيت.. مشيت.
- بس في دبابة بتقطع الطريق، كيف تجاوزتها؟
- دبابات مش دبابة، والجثث هناك كثيرة كثيرة، وبدت تتحلل وما في حدا مسترجي يوصلهم.
- تجاوزت الدبابات مشي على رجليك؟
- لا يا عم، قبل ما أصلها وقفتلي سيارة فيها عيلة، وركبت معهم، عند الدبابات وقفت السيارة ونزلنا كلنا، ورفعنا إيدينا، والرجال رفعوا ملابسهم عن الخاصرة، كلنا عملنا هيك من الرعب والخوف، وعيوننا بتتمرجح بين الدبابات والجثث، والله الخوف أكلنا أكل يا عمي، ظلينا رافعين إيدينا وندور حولين حالنا، ونوقف وندور ونرجع نوقف وندور، وبنخطف نظرات لبعضنا وللجثث زي اللي بنسرق...
وصف الرجل حالة الانتظار والدوران والذعر السابقة بين الجثث والدبابات بأنها استمرت لساعة، قبل أن يسمع المرعوبون صوتاً لعله من إحدى الدبابات يقول لهم "يلا روخو"، يكمل:
- ما شفنا جنود على الأرض، شفنا جثث.. جثث كثيرة على جنبات الطريق، بعضها بدا يتحلل.
نظر إليّ، وبصوت خافت، قال لي كأنما يستودعني سراً: "عطشان، ما في شربة مي؟"
صمت قليلاً، وشاطرته الصمت، ثم نظر إليّ، وبصوت خافت، قال لي كأنما يستودعني سراً له
- عطشان، ما في شربة مي؟
ناديت على صاحب بسطة المشاريب القريب:
- اتنين قهوة ودبر قزازة عبيها مي حلوة بحياة إمك.
ثم نظرت إلى الرجل وسألته
- أكلت شي؟
- والله ما أكلت شي من يومين.
- أنا كمان ما أفطرت، بنفطر مع بعض.
في انتظار زجاجة الماء، شرح لي الرجل كيف أنه بالأمس صلى صلاة الفجر وخرج من حارته، أو ما تبقى منها، ووصل فجر اليوم، الطريق الذي يأخذ ساعة على أعلى تقدير، أخذ معه أربعاً وعشرين ساعة من الرعب والتعب والرجاء كما يقول.
حضن زجاجة الماء بين يديه كأنما امتلك العالم، وشرب حتى عادت الحياة شيئاً فشيئاً إلى وجهه، ابتهجت كل خلية فيه، أشرقت عيناه بالحمد والشكر لله. ثم جاء ابن أخي بما تيسر من فطور، قال لي:
- كُل إنت، والله ما بدي غير محل أنام فيه.
- بالأول ناكل، ولا تقلق، بندبر موضوع النوم بعد الأكل.
"وين عيلتك؟" سألته مستغربا أنه وحده، أجابني "عيلتي كلهم الحمد لله بخير، اطمنت عليهم ودفنتهم قبل ما آجي، صاروا عند ربهم". صمتت، ليس لدي كلمات مواساة، كل الكلمات فقدت معناها مع هذا الجنون الذي نعيشه
استكملنا حديثنا وسألته هل الطريق آمن بعد تجاوز الدبابات. و"أحوال الطرق" إن صحّت تسمية طرق الموت والنزوح كذلك هي من الأمور التي يسأل عنها الغزاويون هذه الأيام كثيراً. فبطبيعة الحال يملك من نجا طريق أو طريقة للوصول، الأمر الذي قد يعني النجاة. يقول إن الطريق أصبحت أفضل كثيراً بعد الدبابات، ولكن العائلة اللي نزح معها كانت غايتها المنطقة الوسطى، فنزل شاكراً لهم معروفهم، ثم أكمل الطريق في شارع صلاح الدين مشياً، وقتها بدأ الغروب، ثم الظلام. يقول:
- كنت بمشي شوي وبرتاح شوي وبرجع بكمل مشي، ومن وقت للثاني بسمع أصوات قصف ما بدري من وين، تقريباً في نص الليل لقيت حالي على شارع السطر الغربي لخان يونس، ارتحت تحت شجرة هناك وكملت المشي حتى وصلت لهون، عندي معارف من خان يونس، بدي أحاول أوصلهم بعد ما أرتاح شوي، لأنه ما معي موبايل أتصل بأحد ولا حافظ أرقام.
- عيلتك بقيت هناك أو سبقتك لهون؟
وين عيلتك؟
سألته مستغربا أنه وحده
- عيلتي كلهم الحمد لله بخير، اطمنت عليهم ودفنتهم قبل ما آجي، صاروا عند ربهم.
صمتت، ليس لدي كلمات مواساة، كل الكلمات فقدت معناها مع هذا الجنون الذي نعيشه. ناديت أحد المتطوعين في جمعية الهلال الأحمر، باختصار أخبرته بحالة الرجل، ورجوته تدبير فرشة وغطاء ومكاناً من أجل أن ينام، لم يقصّر، عاد واصطحب الرجل إلى المتنزه التابع للجمعية بعدما وجد مكاناً له هناك، في ظل ازدحام كبير من النازحين الذين تهدمت بيوتهم من شرق خان يونس وشمال الوادي ومن كل مكان في قطاع غزة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 5 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 15 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع