"ألف حاضر ولا سامع. ألف صافن ولا فاهم. شاب ولّا بنت هالكائن؟ جنس تالت ورابع وعاشر"؛ هذه الكلمات مستقاة من أغنية الرابر إنانا، التي لم تُنشر بعد، ويعبّرون من خلالها عن هويتهم الجنسية والجندرية. فهم، أي إنانا، يستخدمون "هم" في وصفهم، وهو الضمير المحبب الذي يحررهم من المعايير التي يفرضها المجتمع.
لإنانا قصة تشبه لوحة الأحجية المبعثرة، وكلما مرت السنوات وضحت الصورة، وتشكلت الهوية الثابتة وشخصية الرابر التي اختارت برلين محطةً للعيش والفن والمستقبل.
من الشام حيث وُلدوا في العام 1995، إلى برلين في أوائل العشرينات من العمر، يعيشون اليوم قسوة الحرب على غزة بكل تفاصيلها من برلين.
بين القمع والتهديد
برغم أنها احتضنتهم، وفتحت أبوابها لهم، إلا أن برلين تشكّل اليوم السجن الأكبر بالنسبة لإنانا: "لماذا نحن هنا إذا كان القمع يُمارَس علينا كما في البلاد التي خرجنا منها؟".
في برلين ينتفض العديد من الرابرز لدعم غزة، لكنهم باتوا تحت التهديد، حسب وصف إنانا: "اليوم نحن كرابرز عرب نحاول الضغط حسب قدراتنا وموقعنا، كلّاً حسب موقعه السياسي أو الفني أو الاجتماعي، والأهم حسب وضعه في البلاد من ناحية الإقامة والجنسية واللجوء. أما الوضع بالنسبة لي شخصياً فسيئ جداً، وهو أسوأ مكان يمكن التواجد فيه في ظل ما يجري من تعتيم وقمع وتشويش وبروباغندا للجانب الإسرائيلي. نحاول القيام بأقصى ما يمكن، ننظم المظاهرات ونشارك فيها. نحاول نشر الوعي وتثقيف الناس حول القضية الفلسطينية ونشر الحقيقة والمصادر على مواقع التواصل الاجتماعي وتوجيه الناس حول كيفية المساعدة".
"هل نشهد للحق أو نصمت كي نضمن عيشنا؟ هل سنواجه الترحيل؟ هل يمكننا السكوت أمام حقارة هذا العالم؟ إن فنّي وثورتي هما عن الحرية. اكتشفت في هذه الحرب أن مفهوم الحريات وحقوق الإنسان في هذه البلاد يتجزأ"
ولإنانا رأي صارم في ما يحدث حالياً من ظلم وقهر في غزة، وفي انعكاس ذلك على بعض الناس في بلاد الاغتراب: "ألبومي الجديد مموّل من جهة مانحة أصدرت بياناً داعماً لإسرائيل، فهل نشهد للحق أو نصمت كي نضمن عيشنا؟ هل سنواجه الترحيل؟ هل يمكننا السكوت أمام حقارة هذا العالم؟ إن فنّي وثورتي هما عن الحرية. اكتشفت في هذه الحرب أن مفهوم الحريات وحقوق الإنسان في هذه البلاد يتجزأ".
ويضيفون: "نحن اليوم كفنانين/ ات مقيمين/ ات ولاجئين/ ات في برلين، أصبحنا تحت المراقبة ووجودنا مهدد بحسب حجم دعمنا للقضية الفلسطينية، وحساباتنا الشخصية مراقبة، وأنا متأكدة من أننا أصبحنا على القائمة السوداء، ولن نتلقى أي منح جديدة. أنا بكل بساطة أطالب بالحرية، ووقف الحرب على شعبي وناسي. أنا أفضّل أن أعيش في الفقر على أن أناصر الظلم".
ويكملون: "اليوم أتعذب وأعيش بالحد الأدنى، لكنني أفضّل أن أعيش بفقر على أن أصبح غنيّةً ومتواطئةً مع الإرهاب المسقَط على شعبي. أعرف اليوم فنانين/ ات يقومون/ ن بدعم القضية الفلسطينية بطريقة سرّية كي يحموا/ ين أنفسهم/ نّ، ولكن قمة الأنانية أن نتفرج على المجزرة ولا نحرّك ساكناً. أين أصبحت الإنسانية اليوم؟".
الحياة في سوريا
بالعودة إلى طفولة إنانا، فلم تكن سهلةً على الإطلاق: "لم تكن لديَّ عائلة مثالية ولا أذكر أننا اجتمعنا لتناول الغداء إلا نادراً. كانت أختي الكبيرة هي الداعم الأساسي لي، وكانت هي أول من عَلِمت بميولي عند عودتها إلى الشام، إذ في طفولتنا قرر أبي أن يرسلها مع أختي الثانية إلى طرطوس لتعيشا مع عمتي لمدة ثماني سنوات، فصار تباعد كبير بيننا ظهر عند عودتهما. لكن في المقابل، لعب أبي دوراً كبيراً في تكوين شخصيتي، وبرغم رفض المحيط لتصرفاتي (شخصيتي التي لا تمثل المفهوم النمطي للإناث)، إلا أن أبي كان متقبّلاً للأمر، ويعدّني بمثابة ابنه. علّمني كيف ألعب بالطابة، وركوب الدراجة، وكان يعتمد عليّ في الكثير من الأمور، ويعمل جاهداً لتثقيفي، وكان مصرّاً على أن أكمل في معهد الموسيقى برغم أنني كنت أكره الموسيقى الكلاسيكية، وأفضّل الروك أند رول. لكنني أكملت في المعهد مقابل أن يعلّمني عزف الأغاني على الغيتار، وأذكر كيف كان يقرأ لي قصص التاريخ وغلغامش قبل النوم. زرع أبي القوة في داخلي حتى لو بشكل غير مقصود".
"قمة الأنانية أن نتفرج على المجزرة ولا نحرّك ساكناً. أين أصبحت الإنسانية اليوم؟"
شكّل المسرح والموسيقى حياة إنانا، فهو بمثابة عالم آخر يهيمون به ويحررهم من قيود مفروضة: "منذ أن كنت في الخامسة من عمري، بدأت بتعلّم الموسيقى. كان هذا تقليداً عائلياً، إذ إن كل أطفال العائلة يجب أن يتعلموا الموسيقى، كما تعلمت في معهد تياترو لفنون الأداء منذ سن العاشرة وحتى السابعة عشرة من عمري، وشاركت في مسرح الأطفال وبرامج التلفزيون، وبصراحة كنت أميل إلى التمثيل لأؤدي أدوار الكثير من الشخصيات التي أحبّها، وعندما قدّمت للمعهد العالي للفنون المسرحية، قوبلت بالرفض بحجة أني 'سمينة وشايفة حالي'، فألغيت فكرة التمثيل من حياتي برغم موهبتي الواضحة للجميع، فتخصصت في الأدب الإنكليزي في العام 2013، كما فعل أهلي وخطوت نحو الاحتراف في الموسيقى أيضاً".
احتلت الحياة الفنية جزءاً مهماً من حياة إنانا، تشكلت معها أولى مراحل الوعي، وفي عمر الثامنة عشرة أصبح الحلم واقعاً: "كانت المرحلة انتقاليةً فنياً. كنت قد تخرجت من معهد تياترو ومعهد الموسيقى، وبدأت بالغناء في أحد المقاهي التي تقيم حفلات موسيقيةً في العادة. كانت تجربةً مهمةً قبل أن تكون محطتي الأخيرة في برلين في العام 2015، الذي شكّل انتقالي إليها تحولاً مصيرياً في حياتي الفنية وهويتي ومجتمعي وانفصالي عن أهلي وعن مجتمع رفضني وعنّفني".
وعن الانتقال من سوريا، يجيبون: "كان الخروج من سوريا أقرب إلى المستحيل، لكن الحلم تحقق وشكل الانتقال من سوريا إلى برلين نقطة تحول من مجتمعَين متناقضَين، وكنت أفكر في الأمان حينها، وفي أن أعيش هويتي الجندرية كما أحبّ، لكنها لم تكن حقيقة برلين كما كنت أظن، بل واجهت الهوموفوبيا والعنصرية من المجتمع هناك".
بالنسبة لإنانا، لم تكن الحياة في برلين سهلةً على الإطلاق: "كنت في أوائل العشرينات عندما وصلت إلى برلين. كانت خبرتي في الحياة قليلةً، فما واجهته في برلين كان نفقاً أسود. عام ونصف من الحياة التي أستطيع وصفها بـ'المدينة من تحت الأرض'، فهي المدينة التي إما أن ننجو منها أو نضيع فيها نهائياً. كانت اكتشاف حياة جديدة ومختلفة عمّا كنت أعيشه في سوريا. كانت مغامرةً بالنسبة لي، ووصلت إلى مرحلة الخطر، لكنني تخطيت هذه المشكلة بمساعدة صديقتَين لعبتا دوراً مهماً في حياتي الاجتماعية والفنية، وبدأت بتلقّي العلاج وجلسات الدعم النفسي التي ساعدتني كثيراً على إيجاد التوازن في حياتي".
الراب... فن يجسّد حياتنا
بعد سنوات من المحاولة، خُلقت الفرصة صدفةً، وفق قول إنانا: "لم يكن اكتشاف أي فن أريد سهلاً، فبعد أربع سنوات طوال من التقلبات والعقبات، أذكر أنه خلال كانون الثاني/ يناير، حلمت بأنني عدت إلى سوريا. كان هذا الحلم يتكرر في التوقيت ذاته سنوياً، فقررت أن أكتبه كي أتخلص من تأثيره علي، لكنني اكتشفت أنها كلمات أغنية وأكثر من حلم، وكانت أولى أغنياتي التي سارعت إلى وضع الموسيقى عليها، وأنجزتها ونشرتها على إنستغرام، ولاقت إعجاباً كبيراً، وتلقيت عروضاً كثيرةً، خاصةً في فترة كورونا. كانت فرصةً للكتابة والتعاون مع موسيقيين وتسجيل أغنيات جديدة. أحببت كيف التقطت موهبتي، واكتشفت صوتي بعد سنوات من المحاولة. خُلقت الفرصة صدفةً".
ويضيفون: "المشهد العربي لم يكن مُرحّباً بي وحوربت كثيراً. كانت حرباً من جميع الجبهات، وحاولوا أن يحبطوا معنوياتي تحت مسمى 'أنّي فتاة' لا أستطيع أن أغنّي الراب، كما أن أسلوب الراب وطريقتي في الكلام لم يكونا مفهومين بالنسبة لهم، عكس الأجانب الذين رحّبوا بتجربتي ودعموني من منطلق أني فتاة كويرية عربية وتغنّي الراب، ما أدى إلى نوع من الاستهجان".
ولعلّ أعظم التجارب التي دعمت إنانا، كانت عندما تمت دعوتهم للمشاركة في حفل مباشر للكويريين: "كانت مشاركتي الأولى كرابر، وكان الجوّ حماسياً والموسيقى صاخبةً والجمهور أحبّ ما قدّمتُ بقوة برغم أنه لم يفهم معظم الكلام، لكنه كان متحمساً للموسيقى ولطاقتي على المسرح، وسألت يومها: 'هل هذا حقيقي؟'، فقررت أن أخوض باحترافية أكبر، وقدّمت عروضاً أكثر وشاركت في المزيد من الحفلات".
ويتابعون: "قررت كإنانا أن أعطي المساحة لنفسي، وأكون على طبيعتي، وأقدّم الفن الذي أحبّ، وخلقت الهوية الفنية التي تشبهني، وبرغم كل التحديات التي واجهتها اليوم في الطريق الذي اخترته، أكتب كثيراً، وأغنّي، وأخترع الموسيقى، وأقدّم عروضاً، وحتى تعرضت للهجوم والاعتراض على هويتي الجندرية والجنسية، وما شهرني أكثر هو عدم وجود منافسين ومساحة أمان للمجتمع الكويري، ففكرة أن أكون 'كوير'، و'رابر' عربياً، وأن أتكلم عن ميولي وأصنع الفن حول الكوير نادر جداً، وأنا حالياً بصدد إصدار ألبوم خاص 'كوير'".
دعم بعضنا البعض
لماذا اخترتم الراب تحديداً؟ وكيف تدعمون مجتمع الميم-عين من خلال هذا الفن؟ يجيبون: "لم يكن الراب تعبيراً خاصاً بي فقط، بل كان صوتاً لكثير من الكويريين العرب. كنت أتلقى رسائلهم ومحبتهم، ويتابعونني ويصدّقون ما أقول وما أقدّم لهم، فطبعاً هذا زاد من مسؤوليتي، وأعدّه جزءاً من دعمي لمجتمع الميم-عين، فالناس بحاجة إلى الأمل، وما يغصّ في نفسي اليوم، أنني لو كنت في الرابعة عشرة من عمري وعلمت بوجود شخص آخر يلعب دوري نفسه الآن حينها، ويقدّم الدعم للكويريين كما أقدّمه، لكنت اختصرت الكثير من الوجع والصدمات والخيبات، لكنني أقدّم للآخرين تجربتي عبر الفن كي لا يمرّوا بتجاربي المؤذية، ويحلموا ويحبوا ويبدعوا، فالفن هو الوسيلة الوحيدة التي أستطيع أن أقدّمها للكويريين/ ات في العالم العربي".
"رغم كل التحديات التي واجهتها اليوم في الطريق الذي اخترته، أكتب كثيراً، وأغنّي، وأخترع الموسيقى، وأقدّم عروضاً، وحتى تعرضت للهجوم والاعتراض على هويتي الجندرية والجنسية، وما شهرني أكثر هو عدم وجود منافسين ومساحة أمان للمجتمع الكويري، ففكرة أن أكون 'كوير'، و'رابر' عربياً، وأن أتكلم عن ميولي وأصنع الفن حول الكوير نادر جداً"
وعن الألبوم الأخير، يقولون: "ما حاولت قوله في الألبوم الأولvisibility وعنوانه "كوير"، أنه لا يجب تجاهلنا، نحن هنا، أوقفوا تهميشنا، وإنكارنا وعدّنا غير موجودين وسنعيش حياةً فاشلةً أو معدومةً، وقدّمت هذه الأفكار بلغة بسيطة واضحة وعلى طريقتي، كانت هذه محاولةً لنشر معرفتي وتجربتي الشخصية من خلال الموسيقى، ولتشجيع الأفراد ليحلموا ويتخيّلوا حقيقةً مختلفةً يتمنونها كي يصلوا إلى ما يريدون كما وصلت برغم اختلافي. هم لديهم أحلامهم أيضاً وأشجعهم على تحقيقها من خلال الفن الذي أقدّمه".
ويختمون حديثهم بالقول: "ما أطمح إليه اليوم هو خلق قاعدة بيانات وموارد وشبكة تواصل، تضمّ جميع الفنانين/ ات الكويريين/ ات حول العالم، كجهة دعم لبعضنا تساعدنا على الوصول والإبداع والنجاح على مختلف الصعد، وأن نضع حدوداً للتنمر والهوموفوبيا والهجوم الذي نتعرض له جميعاً في حياتنا وعملنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...