من الصعب، أو من المستحيل، تفوّق أحد على الرئيس السوري الفارّ بشار الأسد، بالسوء على سوريا والدول الإقليمية والدولية. مع ذلك، يتكاثف الضباب بدلاً من تبدّده في الفضاء السياسي السوري، بعد انهيار نظام الأسد صبيحة الثامن من كانون الأول/ديسمبر الحالي، منهياً، وبشكل مفاجئ، خمسة عقود من حكم العائلة الدموي والشمولي في سوريا. وفي حدثٍ أثار ابتهاجاً بعموم الجغرافية السورية، يثير أيضاً حالة من عدم اليقين تجاه مستقبل البلاد المضطربة أصلاً.
فمع خروج سوريا والسوريين من نفقها الطويل المظلم، يراود السوريين حلم مفعم بالأمل إلا أنه غير مؤكد، حيث تختلط رسائل الحكم الجديد أحياناً وتتناقض في أحيان أخرى، وما بينهما غياب شبه تام لتلافي أخطر ما قد تواجهه سوريا، بعد سنوات الاحتراب والاستقطاب الحاد.
ففي الوقت الذي ينثر الحكم الجديد، على المجتمعات المحلية المتمايزة والأطراف الدولية، ضمانات موثوقة نسبياً تجاه الأقليات، تجهل حكومة دمشق أو تتغافل عن أن أولى الضمانات يجب تقديمها للأكثرية التي مورست بحقها جرائم وانتهاكات فاقت الكوابيس، وهي من يحتاج طمأنتها لجدية محاسبة المجرمين بحقها، وبدون ذلك فإن القصاص والانتقام الفردي سيشكلان كرة ثلج تتدحرج نحو هاوية الاقتتال المحلي والحرب الأهلية.
ورغم كراهة استخدام تعابير أضحت متلازمات دولية ومحلية أيضاً لبناء الأنظمة السياسية لدولنا الشرق أوسطية في عصر المواطنة والحقوق المتساوية، إلا أن الاسترسال في تطمينات الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية والجندرية، كبوابة للاعتراف الدولي، مع رفع العقوبات المفروضة على سوريا، قد تؤدي لنتائج عكسية وكارثية على السلم الأهلي، في ظل أطنان الانتهاكات الممارسة بحق أكثرية عابرة للأديان والأعراق والمذاهب لا باك عليها.
الاسترسال في تطمينات الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية والجندرية، كبوابة للاعتراف الدولي، مع رفع العقوبات المفروضة على سوريا، قد تؤدي لنتائج عكسية وكارثية على السلم الأهلي، في ظل أطنان الانتهاكات الممارسة بحق أكثرية عابرة للأديان والأعراق والمذاهب
فالمأساة السورية لم تكن نتاج حساسيات دينية أو عرقية أو مذهبية، وإنما نتاج إجرام نظام استبدادي سادي ضاعفهما في مواجهة معارضيه، وعلى ذلك، فإن قفز الأمم المتحدة والقوى الإقليمية والدولية الفاعلة على أس المشكلة للحديث عن حقوق المرأة والأقليات لا يبشّر بحلول واعدة للمسألة السورية، ولا يمنح الطمأنينة بألا تستخدم هذه الشعارات البرّاقة بوابة لتقاسم النفوذ في الساحة السورية، بجانب مقايضات تفضي لحكم توافقي يطوي تطلعات السوريين إلى الحرية والديمقراطية مع الحكم الرشيد.
ومع تصّدر واجهة المشهد السوري من قبل منظمة مصنّفة على قوائم الإرهاب لدى العديد من المنظمات الدولية والقوى العالمية، قد تفرّخ هذه المعضلة أزمات فرعية لا يحمد عقباها، في حال ذهاب هيئة تحرير الشام مع هذا التوجّه، بهدف رفعها عن قوائم الإرهاب. وإلى جانب المطالب الدولية بصيانة حقوق أقليات أثبتت الأيام الماضية عدم التجاوز على حقوقها، تطالب المعارضة التقليدية اعتبار قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 ركيزة الانتقال السياسي في سوريا، وهو ما تجاوزته الأحداث فعلياً، نتيجة سقوط أحد طرفيه عسكرياً، وسقوط طرفه الآخر واقعياً، إلا أن هذه المعارضة مصرّة على المحاصصة بالسلطة الجديدة، وغالباً ما ستعمل علناً أو من وراء الكواليس على خلق تحديات جديدة أمام عملية انتقال سياسي لا ترضي طموحاتها الجمعية أو الفردية، مع صبّ جهودها على عكس التوجه الإقليمي والدولي للاعتراف بالحكم الجديد في دمشق، ما يضاعف أزمة نيل الاعتراف الدولي من قبل الحكم الجديد. بجانب فتح صراعات سياسية لحسابات شخصية، تشكل مدخلاً لتدخلات إقليمية ودولية تُعنى بأجندتها الخاصة ولا تُعنى باستقرار سوريا أو مصلحتها.
من جانبها، فإن سلطة دمشق، التي تتشكل من فصائل متباينة بالمصالح والأيديولوجيا، لا تبدو معنية بإطلاق مسار انتقال سياسي يلبي تطلعات السوريين، بقدر عنايتها بتوسيع مساحة قبضتها على دفّة القرار السوري، وصولاً لهيمنتها على كامل القرار، كما أن توافقها قد لا يدوم طويلاً، بعد زوال هدفها المشترك، بجانب جهود محتملة من قبل هذه الفصائل منفردة لتعزيز مكاسبها السياسية والميدانية، بما يؤدي لإعادة تشكيل الدولة السورية بطريقة تقاسم الغنيمة من قبل مخلّصيها من براثن مغتصبها، أو جعلها رهينة لدى أحدهم.
ولعل الجهود المعلنة من قبل قائد إدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع، لإعادة هيكلة وزارة الدفاع قد تكشف صحة هذا التقدير من عدمه، ما قد يؤدي لإعادة تدوير عجلة الحرب السورية بين شركاء الأمس، إضافة لفلول النظام البائد التي ستعيد تنظيم صفوفها في مثل هذه الظروف، وتالياً تهديد وحدة الدولة السورية فعلياً.
بالمحصلة، حتى مع توافق هذه القوى فيما بينها، تثور العديد من الأسئلة حول قدرتها على التوافق على نظام ديموقراطي فشلت بتطبيقه حينما كانت تمثل حاضنتها الشعبية ومجتمعاتها المحلية الضيقة، وهي التي تتسابق حالياً لتعبئة فراغات السلطة برجال الولاء بدلا عن الأكفاء أو التكنوقراط، والفئة الأخيرة هي الأجدر والأوثق لقيادة مرحلة الانتقال السياسي في مثل هذه الظروف. كما أن إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، إن تمت بسلاسة، ستؤدي إلى بناء جيش هش وغير متجانس، موزّع التوجهات، وبعيد كل البعد عن المعايير الحديثة لبناء المؤسسات العسكرية. وتتعقد المسألة مع وجود جنسيات غير سورية تحمل السلاح ضمن فصائل تتماهى مع هيئة تحرير الشام، رغم استقلاليتها، ما يطرح الأسئلة حول إمكانية دمجهم بوزارة الدفاع المأمولة، أم تجنيسهم بعد تجريدهم من السلاح.
أما ما يخص وحدة الدولة وإعادة فرض سيادتها على كامل الجغرافية السورية، تكشف المغازلات المتبادلة بين قائد إدارة العمليات العسكرية وقيادات قوات سوريا الديمقراطية (قسد) عن تفاهمات ضمنية بين الطرفين، ستتحوّل عاجلاً إلى مفاوضات علنية بأرضية نجاح عالية، في ظل حاجة كلا منهما للآخر لأسبابه الخاصة، ولتجّنب ضرورة الصدام بينهما، وفي ظل مفاوضات تركية كردية سابقة ومتقدمة ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية، قد تبلغ نهايتها المرضية في المنظور القريب، ما لم تتشدّد أنقرة بشروطها بعد إمساك شركائها المحليين بالسلطة في دمشق.
ويشكل المشهد السوري الحالي بيئة مثالية لعودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لاسيما بعد انسحاب قوات النظام البائد من نقاط التماس التي كانت تغطيها في أجزاء من البادية السورية حيث ينتشر أعضاء التنظيم الإرهابي، مع عجز قوات الحكم الجديد عن تغطية هذه النقاط، نظراً لقلة عددها مقارنة بالواجبات الضخمة العاجلة الملقاة على عاتقها حالياً. ورغم خسارة داعش بسقوط الأسد جاذبية مهمة لكسب اتباع ومؤيدين، إلا أن مؤشرات التسامح الديني والمذهبي التي غطت الفضاء السوري بعد زوال النظام قد يسدّ لها هذه الثغرة، لاسيما بعد الكم الهائل من الجرائم التي ارتكبت تحت مسميات عرقية/دينية/مذهبية مزعومة، وقد تلجأ داعش لإعادة ترويجها للدعاية لنفسها كحامية للدين والمذهب.
يشكل المشهد السوري الحالي بيئة مثالية لعودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لاسيما بعد انسحاب قوات النظام البائد من نقاط التماس التي كانت تغطيها في أجزاء من البادية السورية حيث ينتشر أعضاء التنظيم الإرهابي، مع عجز قوات الحكم الجديد عن تغطية هذه النقاط
كما أن تحولات الهيئة وقائدها أبو محمد الجولاني، الذي بات يعرف باسم ولادته أحمد الشرع، تمنح داعش باباً لاستقطاب شخصيات متشدّدة، معارضة لهذه التحولات ضمن الهيئة والفصائل المتشدّدة المنضوية تحت لوائها، بما قد يؤدي لخلخلة داخلية أو انشقاقات في صفوف النواة الصلبة للحكم الجديد، حيث سيجد هؤلاء صعوبة في استيعاب التحولات الجديدة، والطروحات المعلنة لبناء الدولة، المتعلقة بالانتخابات وصياغة الدستور وحقوق المرأة والأقليات، مع انفتاح على الدول الغربية وتنظيم العلاقة مع المجتمع الدولي. لذا، فإن أكبر تحديات حاكم سوريا الفعلي تأتي من صفوف المجاميع التي يقودها ويمثلها قبل غيرها من المجاميع العسكرية والمدنية الطامحة.
لكن من أي دستور وتصريحات فضفاضة يتخوّف هؤلاء، بعد أن أثبتت الأيام الماضية تجاهل الأسس الدستورية الخاصة بإدارة مراحل الانتقالية السياسي في الحالات المماثلة، مع تقزيم تام للدستور، من خلال إعلان حكومة تفتقر للأهلية الدستورية والقانونية عن تجميد الدستور القائم وتشكيل لجنة لمراجعته وتعديل بعض مواده. ما يؤشر لانعدام الرؤية لدى سلطة دمشق الناشئة حيال القواعد السليمة لبناء الدول الحديثة، مع الإصرار على البقاء في حيز الجماعة وتوافقات قوى الأمر الواقع.
ومع تركيز العالم الغربي على تراجع الدور الروسي والإيراني في سوريا، تبدو نوايا إدخال سوريا في ساحة الاستقطاب الدولي بين الدول الغربية من جهة، وروسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية من جهة أخرى، وهو ما قد يؤدي لإطالة حالة عدم الاستقرار، وربما لإشعال حرب الوكالة ثانية على الأرض السورية.
أثبتت الأيام القليلة الماضية قدرة الحاكم الفعلي لسوريا على جذب الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، مع حسّ سياسي واعٍ لإدارة المشهد السوري الحالي، بخلاف سابقيه ممن تصّدروا واجهة معارضات نظام الأسد البائد. لكن هل ستكون لدى أحمد الشرع إرادة حقيقية لتنفيذ عملية انتقال سياسي، تفضي لانتخاب هيئة تأسيسية أو برلمانية تؤسس لحكومة سوريا الجديدة؟ وفي حال الإيجاب، هل سيتمكن الشرع من تجاوز حقول ألغام دهاليز السياسة وأوكارها، مع القنابل الموقوتة أعلاه؟
الأيام والأشهر القليلة القادة ستجيب على ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...