لا يزال سقوط النظام السوري السريع يثير أسئلة كثيرة، خصوصاً الانهيار العسكري في معركة حلب. لعبت عوامل عديدة أدواراً متباينة، منها ما يتعلّق بانشغال روسيا بحرب أوكرانيا، واطمئنان دمشق لاستقرار حدود أستانا، وداخلياً وهو الأهم؛ ترهّل المؤسسة العسكرية للنظام وتفشّي الفساد فيها تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة، فظهر ما يعرف بـ"التفييش" وهو دفع الجنود مبالغ مالية لمسؤولي وحداتهم لإعفائهم من الحضور إلى ثكناتهم العسكرية، ووصل الحال إلى أن يبيع الجنود "مازوت" دباباتهم وآلياتهم العسكرية في بعض قرى الريف الحلبي.
على الجانب الآخر، كان أبو محمد الجولاني يخطّط لهذا الهجوم بصمت لنحو عام ونصف العام حسب مقرّبين منه، وشملت خطّته زراعة خلايا سرية داخل حلب، بالتنسيق مع ميليشيا عشائرية موالية للنظام من قبيلة البكارة، هي "لواء الباقر"، فكيف تمت هذه العملية ومن هم الذين عملوا عليها؟
في شتاء عام 2013، التقيت الشيخ نواف البشير شيخ قبيلة البكارة في إسطنبول بتركيا. كان البشير يقلّب أوراقه غاضباً، ويتمتم: "أين كان هؤلاء الذين يتحدّثون باسم الثورة الآن عندما كنت أنا في الأمانة العامة لإعلان دمشق منذ 2005". بدا البشير ناقماً على قادة المعارضة الذين "ارتهنوا للخارج"، حسب قوله. في ذلك الحين كان بيت من قبيلتِه البقارة (البكارة) في ريف حلب، يقوده حسين الحسن المرعي العلوش، قد اتخذ موقفاً معاكساً وتحالف مع النظام، ليُقتل مع ابنه علي خلال اقتحام المعارضة شرق حلب صيف 2012.
في شتاء عام 2013، التقيت الشيخ نواف البشير شيخ قبيلة البكارة في إسطنبول بتركيا. كان البشير يقلّب أوراقه غاضباً، ويتمتم: "أين كان هؤلاء الذين يتحدّثون باسم الثورة الآن عندما كنت أنا في الأمانة العامة لإعلان دمشق منذ 2005". بدا البشير ناقماً على قادة المعارضة الذين "ارتهنوا للخارج"، حسب قوله
وكعادة العشائريين الذين تحرّكهم الثارات والنكايات، أسّس ابنه الناجي، خالد المرعي، ميليشيا "الباقر" العشائرية للانتقام من قتلة والده، وقد انضمّ إلى قوات "الدفاع الوطني" الموالية للنظام، مستفيداً من علاقات قديمة له مع حزب الله اللبناني خلال إقامته في لبنان قبل الثورة السورية.
كان نواف البشير رقماً صعباً داخل سوريا بحكم ثِقله العشائري وعضويته في الأمانة العامة لـ"إعلان دمشق"، وعقدت عدّة جلسات للمعارضة في مضافته بدير الزور. ولكن بعد أن سجنه النظام نحو شهرين في عام 2011 ومغادرته سوريا، لم يجد خارج سوريا مكاناً يطمح إليه في قيادة مؤسّسات المعارضة، ولم تفلح محاولاته لفتح خطوط تواصل ودعم من الدول الراعية لمؤسسات الثورة كقطر والسعودية، فاتجه في عام 2015 للتنسيق مع الأتراك والأمريكيين وأسّس قوات عشائرية تسمى "جيش القبائل" واهتم بقتال تنظيم داعش. لكن قلة الملتحقين بفصيلِهِ وتعرّضه لكمائن متكرّرة من "داعش" أجهضا مشروعَه وجعلا الأتراك والأمريكيين يبتعدون عن دعمه أيضاً. وهنا بدأ بالتلفّت إلى الوراء، نحو دمشق، وبدأ يطرح نفسه كعلمانيّ ويقول عن نفسه في بعض الجلسات إنه أقرب للنظام السوري من جبهة النصرة و"داعش"، وهكذا في عام 2016 عاد لحضن النظام وأسّس ميليشيات عشائرية موالية لقتال "داعش".
وفي عام 2016، بلغ حنق نواف البشير تجاه قادة المعارضة ذروته، فاتصل بابن قبيلته خالد المرعي قائد "لواء الباقر" ليؤمّن عودته من تركيا إلى "حضن النظام" في دمشق، ويتحوّل من قيادي في المعارضة إلى مؤسس ميليشيا عشائرية موالية لدمشق تُدعى "أسود العشائر".
"الحاج باقر"
وهكذا توحّد اثنان من كبار بيوتات قبيلة "البكارة" في صفّ النظام، وأصبح خالد المرعي "الحاج باقر"، الذي كان والده مختار باب النيرب بريف حلب قبل الثورة؛ من أعمدة قوات النظام في حلب. ويبدو أن إقامته في لبنان وعلاقة المصاهرة التي أقامها مع عائلات شيعية مقرّبة من حزب الله اللبناني، دفعته إلى تبنّي سياسات مذهبية في ريف حلب، بتشجيع التشيّع وإقامة الحسينيات في بيئة سنية ، ليجمع عصبة القبيلة مع عصبيّة المذهب، ويصبح فصيله "الباقر" من أشد المرتبطين بالحرس الثوري الإيراني.
لعبت الأواصر العشائرية دورها مجدّداً، وسينتج عن ذلك إبرام اتفاق سري بين "الحاج باقر" والجولاني، لإدخال خلايا سرّية إلى مناطق النظام في حلب، بانتظار هجوم "تحرير الشام".
لكن تقلّب ولاءات العشائريين لا يقلّ حدّةً عن تقلّب الدهر وتبدّل الزمان. ففي 2023، وبعد نحو 11 عاماً من قتاله إلى جانب النظام وتقديم العشرات من اخوانه وأقاربه ضحايا في معاركه، تتصاعد نقمة "الحاج باقر"-خالد المرعي- ضد النظام وأجهزته الأمنيّة، ويمر بحالة تبدّل في الولاءات، مشابهة لما مر به الشيخ نواف البشير في 2016، ويقرّر أن يفتح خطوط اتصال مع الجولاني. فمن كان همزة الوصل؟
تحوّل خالد المرعي وعودته للتقارب مع المعارضة كان له عدة أسباب، بعضها في إطار خلافات مع أجهزة أمنية قامت بالتدقيق في نشاطاته التجارية، في وقت كان يمر النظام بظروف اقتصادية ضاغطة، بحيث تقلّصت الميزانية المخصّصة للميليشيات الرديفة المنضوية في الدفاع الوطني، إضافة إلى استمالته من أبناء قبيلته في البكارة في جانب المعارضة، وقد قام بهذا الدور أبو أحمد زكور.
لم يجد خالد المرعي أفضل من ابن قبيلته البكارة أبو أحمد زكور "جهاد الشيخ"، القيادي السابق في "تحرير الشام"، كوسيلة اتصال مع المعارضة، وابتداءً من شتاء 2023 بدأت تعقد اجتماعات بين ممثلين عن "الحاج باقر" وبين الحاج زكور في بلدة سرمدا، بريف إدلب، لكن في هذا الوقت كان زكور منشقّاً عن "تحرير الشام".
زكور... رفيق مسيرة الجولاني من أيام القاعدة بالعراق
أبو أحمد زكور، كان من الشباب الذين نفروا من القتال في العراق بعد الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، وقد انضم إلى تنظيم القاعدة بزعامة الزرقاوي كما فعل الجولاني، وبعد عودته من العراق اعتُقِل في سجن صيدنايا منذ 2004 حتّى 2012، وعندما أُطلِق سراحه التحق برفيقه الجولاني في جبهة النصرة وأصبح نائب والي حلب، واستمرت مسيرته مع الجولاني حتّى وضعته الولايات المتحدة في قائمة عقوباتها، ولكن الخلافات تصاعدت بين زكور والجولاني في 2023 وأعلن زكور انشقاقه، لكن ما كان يجري في السر بعد منتصف 2024 هو جهود للمصالحة بين زكور والجولاني من جهة، وفتح قنوات تنسيق بين "الحاج باقر" -خالد المرعي- وابن قبيلته أبو أحمد زكور.
كان نواف البشير رقماً صعباً داخل سوريا بحكم ثِقله العشائري، وعقدت عدّة جلسات للمعارضة في مضافته بدير الزور. ولكن بعد أن سجنه النظام نحو شهرين في عام 2011 ومغادرته سوريا، لم يجد خارج سوريا مكاناً يطمح إليه في قيادة مؤسّسات المعارضة
وهكذا لعبت الأواصر العشائرية دورها مجدّداً، وسينتج عن ذلك إبرام اتفاق سري بين "الحاج باقر" والجولاني، لإدخال خلايا سرّية إلى مناطق النظام في حلب، بانتظار هجوم "تحرير الشام".
الخلايا السرية تقتل الجنرال الإيراني وتفتح الطريق للجولاني
قبل نحو شهر من هجوم "تحرير الشام" على حلب، أدخل خالد المرعي خلايا من "تحرير الشام" ومنحها هويّات "لواء الباقر"، قامت هذه الخلايا بالانتشار في مواقع "لواء الباقر"، داخل حلب، وهي: النيرب، والمرجة، ومطار حلب، ومقرّات الراموسة، والحمدانية، ومحيط مدفعية الزهراء، وفي ريف حلب الغربي في بلدة كفر تعال.
قامت هذه الخلايا، تحت حماية خالد المرعي، برصد مقرّات قوات النظام في المدينة وجمع معلومات عنها وإرسال هذه المعلومات إلى "تحرير الشام". وعند وصول قوات الجولاني إلى حلب، انقلب "لواء الباقر" بإمرة "الحاج خالد المرعي" على النظام. وكانت أول عملية نُفّذت هي عملية قتل المستشار الإيراني كيومرث بور هاشمي. ويقول الصحافي السوري همام عيسى، ابن قبيلة البكارة والمقرب من قياداتها، إن قتل الجنرال الإيراني جرى بعد استدعائه من قبل خالد المرعي لأحد مقرّات "لواء الباقر"، وإبلاغ خلايا "تحرير الشام" بعد قدومه لاغتياله.
وبعد اغتيال الجنرال الإيراني، تعاونت عناصر "لواء الباقر" مع قوات "تحرير الشام"المقتحمة لحلب واعتقلت عدداً من عناصر النظام أو منعتهم من الخروج من مقرّاتهم، ومن تلك الفصائل الموالية للنظام التي فوجئت بذلك ميليشيا عشائرية أخرى لـ"العساسنة" بقيادة عماد الحومد.
وقد قصفت قوات النظام مضافة (مقر استقبال الضيوف) الحاج خالد المرعي في حلب، بعد اكتشاف "خيانته" لها، وقُتِل في هذا القصف العديد من أبناء "لواء الباقر".
وكما انتقل الشيخ نوّاف البشير من ضفة المعارضة إلى ضفة النظام وتعاون مع ابن قبيلته البكارة خالد المرعي، عاد الشيخ البشير لصفوف المعارضة بالتنسيق مع ابنَيْ قبيلته، خالد المرعي وأبو أحمد زكور.
"التفييش"
وبحكم تركّز مقرّات "لواء الباقر" داخل حلب، عدا مقرٍ في كفر تعال، كان دورها في إدخال قوات "تحرير الشام" محدوداً، ذلك أن الاشتباكات الأساسية التي واجهتها "تحرير الشام" في طريقها إلى حلب وقعت في الريف الغربي لحلب، خصوصاً في خان العسل وخان طومان والفوج 46، وهي مناطق لم يكن لتعاون "لواء الباقر" دور فيها.
الجنود "الفضائيون" في الموصل و"المفيّشون" في حلب
لكن الخلايا السرية التي أدخلها الجولاني بالتعاون مع "لواء الباقر"، لم تكن سوى عامل من العوامل التي أسهمت في هذا السقوط المفاجئ لحلب في أيدي فصائل المعارضة المسلحة، والذي كان بسبب عوامل مختلفة من الترهّل والفساد وما يعرف بـ"التفييش".
وكما في قصة الجنود "الفضائيين" في الموصل العراقية يوم سقوطها أمام تنظيم داعش عام 2014، كان "التفييش" النسخة السورية في حلب، ويقضي بدفع الجندي راتبه أو أكثر للضابط المسؤول عن وحدته العسكرية نظير عدم التحاقه بالدوام، فالجندي السوري في الفرقة السابعة مثلاً كان يدفع 200 ألف ليرة سورية للضابط (نحو 40 دولاراً)، لكي يتفرّغ لعمل يؤمّن له مصدر دخل أعلى.
انتشرت هذه الظاهرة بشدة في العامين الأخيرين بحيث وصلت نسبة الجنود الحاضرين في وحداتهم العسكرية إلى نحو 20 إلى 30% فقط من عدد الجنود. قال لي قيادي محلي حلبي في تحرير الشام اقتحم مقراً للقوات الخاصة في هنانو بحلب، قوله إن عدد الجنود الحاضرين لم يكن يتجاوز 20 من أصل 150 كان يفترض أن يكونوا منتظمين في وحدتهم العسكرية.
الأوضاع المادية الخانقة التي تعيشها سوريا في السنوات الأخيرة خلقت ضغوطاً هائلة على المؤسسة العسكرية أيضاً، خصوصاً على أضعف حلقاتها الجنود والضباط، لدرجة أن جنود النظام كانوا يبيعون مازوت دباباتهم وآلياتهم العسكرية، وهذا ما أكده لي سكان محليون في عندان وريف حلب
ضباط الجيش السوري يبيعون "مازوت دباباتهم"
الأوضاع المادية الخانقة التي تعيشها سوريا في السنوات الأخيرة خلقت ضغوطاً هائلة على المؤسسة العسكرية أيضاً، خصوصاً على أضعف حلقاتها الجنود والضباط، لدرجة أن جنود النظام كانوا يبيعون مازوت دباباتهم وآلياتهم العسكرية، وهذا ما أكده لي سكان محليون في عندان وريف حلب.
تضافر مع هذا كله شيوع حالة من الاطمئنان لدى النظام لوجود اتفاقات أستانا التي أشاعت جوا من هدوء الجبهات مع "تحرير الشام"، إضافة لانشغال الروس في الحرب مع أوكرانيا. وبينما كانت النار تحت الرماد، كان الجولاني يحضر لهذا الهجوم منذ أكثر من عام ونصف العام، لكنه اضطر إلى تأخير انطلاقته لما بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، حتّى لا يُحسب هجومه في خانة "إضعاف جبهة مساندة غزة"، حسب ما ذكره مقربون من الجولاني لي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...