لطالما شكل الفضاء الفني متنفساً للمبدعين/ ات للتعبير عن أنفسهم/ نّ بصور جمالية متنوعة تحمل رسائلهم/ نّ إلى المتلقّين، لكن العمل الفني في فضاء مجتمع الميم-عين شكل رمزيةً وأبعاداً مضافةً إلى قيمته الجمالية الإبداعية لما حمله الفن الكويري من سمات أساسية، ولانطلاقه على يد فئة لا تزال تناضل للحصول على حقوقها وتبحث عن عالم جديد أكثر عدالةً وانفتاحاً وقبولاً للآخر.
أربع حكايات يرصدها رصيف22، عن فنانين/ ات كويريين/ ات وجدوا/ ن في الفن لغةً لهم/ نّ وطوق نجاة من محيط قاسٍ.
الفن في مواجهة العنف
عدسة مثبتة على ممر، تُظهر هادي موصللي فجأةً كمتحرك وحيد في بيت خالٍ من الحياة، وهو يرقص بعيون ثابتة فيها الكثير من التحدي على صراخ مجموعة دينية معادية لمجتمع الميم-عين.
قال هادي لرصيف22: "بالفن نثبت وجودنا وأفكارنا ونُسمع صوتنا، إنه طريق سلمي لتغيير الأفكار التقليدية ومواجهة كل من يريد شطبنا من الفضاء العام".
اختار موصللي أن يردّ على العنف وهو يحوّل صرخات الكراهية إلى جزء من عمل فني، رافضاً الخوف والخضوع وأن يُسلب منه حقه في الوجود والتعبير.
"بالفن نثبت وجودنا وأفكارنا ونُسمع صوتنا، إنه طريق سلمي لتغيير الأفكار التقليدية ومواجهة كل من يريد شطبنا من الفضاء العام"
ينهي ابن مدينة طرابلس اللبنانية لوحته الفنية الراقصة، شاهراً إصبعه الوسطى في وجه العنف الذي يتعرض له مجتمع الميم-عين في لبنان، خاصةً في الآونة الأخيرة: "إن العمل الفني هو وسيلتي لإعلان وجودي والمطالبة بحقوقي الأساسية في الحياة والأمان والحماية والحرية الفردية، وهو أيضاً ردّي على كل تلك المجموعات التي تحاول أن تصادر ما بقي من حياة فينا''.
منذ العام 2012، انتقل موصللي نحو عالم الموضة وأخرج العديد من الأفلام التجريبية، وفي العام 2014، أطلق أول فيلم وثائقي له عن نهاية حياة جدته، ثم أسس وحدة الإنتاج H7O7 التي يتمثل هدفها الرئيسي في تمكين صناعة الأفلام والصور والترويج لها، وفي العام 2018، أكمل مشروعاً تجريبياً حول مرض المهق "الإيجابي"، وتم عرض الصور في اليونسكو وقاعة مدينة باريس ومعرض بيروت للفنون أيضاً.
بالإضافة إلى ذلك، قام هادي موصللي بإخراج أفلام عدة حول المرأة والقضايا الكويرية، نالت جوائز من بينها (Bellydance Vogue) (Les fleurs du mâle)
تعليقاً على هذه النقطة، قال هادي: "تحاول عدستي دائماً خلق عوالم صورية حسية وممتعة من الناحية الجمالية مع المزج بين التجريبي والوثائقي والأزياء والخيال".
متفائلاً بالمستقبل، يقدّم هادي عرض دراغ "سلمى زهور"، الذي يُظهره بطلاً/ ةً خيالياً/ ةً و مخلوقاً/ ةً غامضاً/ ةً يغطي وجهه دائماً في بحثه عن عالم حرّ وأكثر عدالةً.
واللافت أن صور سلمى غالباً ما تكون محملةً بالرسائل الرمزية، فهي دائماً تحاول مزج عدداً من الأشياء والأجناس والفنون والأنماط، لتظهر مبتعدةً عن النمطية في الفضاء الكويري: سواء عبر مقاطع الفيديو أو رقصات العروض الحية، وتخلط سلمى بين الموضة والموسيقى، مؤكدةً حقها في امتلاك جسدها ونزع وصاية الآخرين عليه.
غالباً ما تتقاطع القضايا النسوية مع القضايا الكويرية في أعمال هادي، وتأخذنا الرموز والإشارات إلى الفكر والسياسة والدين والأخلاق ويشتبك فيها الخاص مع العام، مقدّماً حالات وصراعات داخليةً وبخط موازٍ يظهر تأثرنا بما يحيط بنا في عوالم مختلفة ودوائر اجتماعية متعددة.
وبرغم أن هادي موصللي يصف نفسه بأنه "رجل بقبعة أو بقبعات كثيرة"، وهو تعبير فرنسي عن الإنسان الذي يكون محكوماً بتصورات وأفكار مسبقة، لهذا يحاول موصللي دائماً التمرد وكسر تلك القوالب النمطية التي لا تلاحق هويته الجندرية فحسب، وإنما أيضاً أفكاره والمكان الذي يأتي منه.
بوابة خلاص من جحيم الحرب
في منطقة تعاني من الحرب ومن فائض عنفي تمارس فيها السلطات قمع الحريات، كان الفن الكويري بالنسبة لسارة خياط، مثل نسيم بارد في يوم صيفي، مقدّماً ألواناً صارخةً تكسر الثنائيات النمطية وتزرع الأمل والبهجة وإن حاولت السلطة تغطيته بلون أسود كما فعلت مع شاب دمشقي رسم قوس قزح في مكان عام.
بشعرها الأحمر المنسدل تحت أشعة الشمس المنعكسة من شباك غرفتها الواسع، روت خياط لرصيف22، كيف فتح لها الفن باباً سرّياً للسعادة بالرغم من قسوة المحيط: "لقد منحني هذا الفن القوة للمشاركة في الثورة السورية ضد قمع السلطة وأصبح ملاذي وسندي لأستمر في الحياة حين خرجتُ من دمشق".
"رسوماتي وألواني محاولة لتحرير المرأة من الأدوار النمطية لها في ظل النظام الأبوي والمجتمعات الذكورية لتمكين النساء وتوسيع خياراتهنّ في الحياة والحب"
نفّذت سارة العديد من التصميمات والرسوم الخاصة بالمعتقلات السوريات، ودعمت برسومها الحراك النسوي السوري، ما خلق لديها شعوراً باستمرار الفعل الثوري النضالي عبر ممارسة الرسم حتى حين أصبحت بعيدةً عن سوريا.
تناضل سارة من أجل القضايا الكويرية والنسوية وتحقيق العدالة للنساء، وتعلّق على ذلك لرصيف22: "رسوماتي وألواني محاولة لتحرير المرأة من الأدوار النمطية لها في ظل النظام الأبوي والمجتمعات الذكورية لتمكين النساء وتوسيع خياراتهنّ في الحياة والحب".
تجهز سارة اليوم مشاريع فنيةً جديدةً ضمن الطيف الكويري المتنوع لمساعدة جميع الأفراد على فهم وتقبل أنفسهم.
يستهدف أحدث مشاريع سارة، أفراداً من مجتمع الميم-عين في السويد، وهو البلد الذي تستقر فيه الآن وتصفه بالأقرب إليها لكونه يمنحها الأمان والراحة والإحساس بتقبل الآخرين وترحيبهم بها وتعاملهم بودّ معها، بعد أن عاشت عدم الاستقرار في تركيا.
واللافت أن مشروع سارة يجعل أفراد الميم-عين يعبّرون عن طفولتهم بالرسم كوسيلة تفريغ نفسي، خاصةً أنها تعدّ أن كل شيء يبدأ من مرحلة الطفولة: "قديش الطفل يلّي جواتنا عم يتعذب بسبب الجهل يلي كان عم يُمارس علينا".
أرشيف لحفظ الذاكرة واستعادة المكان
"الفن هو استراحة من العنف بكل أشكاله، وهو أيضاً علاج الآثار المؤلمة التي تركها العالم الخارجي كندوب على الروح والجسد"؛ هذا ما قاله حمزة أبو حمدية، وهو فنان وناشط أردني من مواليد عمّان، تخرج كمهندس معماري وعرض مشروعه للتصوير الحضري "عمان حمزة" في جلسات الربيع في الأردن (2016)، موثّقاً العمارة في عمان وباحثاً في عدسته عن زوايا البناء وخطوطه بعيون كويرية.
وجد حمزة في التصوير فضاءً يساعده على مواجهة أسئلة الهوية والانتماء ويعزز تمرّده على التصنيفات الاجتماعية والطبقية: "الفن بالنسبة لي جزيرة وحديقة تساعدان على حوار داخلي مع النفس وتوصلان الإنسان إلى سلام داخلي".
سجّل حمزة "بودكاست" على صوت في العام 2020، وشارك في مؤتمرات ودروس وندوات في الأردن وفرنسا حول الهندسة المعمارية والمدن والفضاء والسياسة العامة وعلم الاجتماع، كما شارك في معرض "آرتشيف Artchives" في باريس في أيار/ مايو 2023، عبر صور لمباني عمان التي حبس ظلالها في كاميراه، محاولاً إعادة إنتاج المكان الذي يراه كفضاء مفتوح للجميع: "عبر تصوير بيوت عمان وعمارتها، أردت أن أستعيد مكاناً حاول المجتمع والعائلة والدولة حرماني منه بسبب الاختلاف في الهوية الجندرية".
"نحب الجمال والبهجة والألوان ونسعى بكل طاقتنا إلى إنتاج الحياة بصورة أفضل تحسّن من الواقع القاسي المحيط بنا مثل آلة تأخذ الوجع والحزن وتطحنه في داخلها لتعطي فرحاً وحباً"
لا يُغفل حمزة الإشارة إلى جذوره الفلسطينية التي في الخليل، مؤكداً أن الاحتلال الإسرائيلي وحالة النزوح والإبعاد القسريين لم يستطيعا أن يقطعا علاقة المبعدين بأرضهم برغم المسافات ولم يستطيعا أن يلغيا الذاكرة والشعور الشعبي بامتلاك المكان، مع إجبار مجتمع الميم-عين في العالم العربي على الاختفاء وإقصائه من الفضاء العام ومحاولات إسكات الأفراد ونزع المكان العام منهم وتأثير كل ذلك على الذاكرة وعلى التاريخ الكويري في المنطقة العربية.
وعليه، فإن الفن الكويري بالنسبة لحمزة قادر على تقوية الصلة بالمكان وهو يمنح القدرة على إعادة بناء الذاكرة الكويرية وترميم علاقتها مع الفضاء العام وإيقاف محاولات سلب المكان من المجتمع الكويري.
وعن هذه النقطة، قال حمزة: "بالفنون نستطيع أن نواجه التناقضات التي نعيشها ونعزز هويتنا الشخصية وننمّي ثقتنا بأنفسنا ونعالج الألم... الفن يعطينا القوة والأمل".
وتابع: "لقد وُلدنا مختلفين/ ات، نحب الجمال والبهجة والألوان ونسعى بكل طاقتنا إلى إنتاج الحياة بصورة أفضل تحسّن من الواقع القاسي المحيط بنا مثل آلة تأخذ الوجع والحزن وتطحنه في داخلها لتعطي فرحاً وحباً".
وسيلة تواصل مع الآخر
"الرقص الشرقي أثّر كثيراً على حياتي الشخصية، فقد أعطاني الطاقة الإيجابية والتفاؤل والإقبال على الحياة وساعدني في تفريغ أي طاقة سلبية أو مشاعر داكنة في داخلي"؛ هذا ما قاله الراقص المصري ناصر، لرصيف22.
وأضاف بابتسامة هادئة: "كانت رحلةً طويلةً لكن التصميم والإيمان ساعداني على الوصول".
تعلم ناصر الرقص في مصر ثم عمل في تعليم رقص اللاتينو (سامبا، تانغو، شاشا...)، لكنه توجه في الفترة الأخيرة إلى الرقص الشرقي الاستعراضي: "لقد كان للفن دور مهم في حياتي العملية والاجتماعية وبسببه سافرت تقريباً إلى جميع أنحاء العالم وتعرفت على ثقافات وناس وأفكار جديدة، وأتاح لي افتتاح أكثر من مدرسة لتعليم الرقص الشرقي في بلاد مختلفة".
يرفض ناصر الذي يعمل اليوم مصمم رقص ومدرب، تحديد هوية الراقص/ ة الجنسية والجندرية، واضعاً كل تلك التصنيفات والصور النمطية المسبقة ضمن قالب الجهل بطبيعة هذا الفن، فالرقص هو أيضاً رياضة وحركة مفيدة للجسم ووسيلة لإيصال الأفكار والتعبير عن المشاعر الداخلية، على حدّ قوله: "من خلال الرقص، أنت تُخرج جميع انفعالاتك وأفكارك وتجسدها في حركات راقصة. حين أدخل المسرح وأبدأ بالرقص، أحس بأني أطير مثل الفراشة".
"الرقص الشرقي أثّر كثيراً على حياتي الشخصية، فقد أعطاني الطاقة الإيجابية والتفاؤل والإقبال على الحياة وساعدني في تفريغ أي طاقة سلبية أو مشاعر داكنة في داخلي"
تضم فرقة ناصر التي يشرف على تدريبها وتصميم رقصاتها نحو 30 راقصاً/ ةً، ويحلم أن يستطيع معهم/ نّ تقديم عروض على مسارح عربية كبيرة مثل جرش وقرطاج، لكن حلمه الكبير يبقى تنفيذ عرض في الأهرامات.
يبدو ناصر شديد التعلق بوالدته ومهتماً برأيها في ما يقدّمه: "أمي راضية عني وفخورة بعملي".
وعن العمل مع الدراغ حورية برلين، قال: "كانت تجربتي في تقديم فن الكوير مع الدراغ حورية برلين، رائعةً وأسعدتني كثيراً كتجربة خاصة بمجتمع الميم-عين، لأننا أردنا إظهار إنتاج فني بإمكانات بسيطة".
وكان ناصر قد ظهر في العام 2021، في كليب يجمعه مع الدراغ كوين، راقصاً بثياب فرعونية. اتسمت هذه التجربة بالجرأة وهي غير معتادة في العالم العربي خاصةً أنها تصوّر حالة حب مثلية لشابين عربيين وتنتهي بقبلة بينهما.
وبرغم الانتقادات الواسعة التي طالت هذه التجربة، إلا أنها لاقت رواجاً واسعاً، وفق تأكيده: "العمل مع مودي كان مميزاً، فهو شاب يحب التحدي وفكرة إنتاج فيديو كليب لدراغ عربي من أفراد مجتمع الميم-عين السوري مع شاب من العراق وآخر من مصر، مسألة غريبة على عالم الفن العربي وقد حقق الكليب انتشاراً واسعاً وبقي تراند لفترة لا بأس بها".
يتابع كل من هادي، سارة، حمزة وناصر، السير في طريق أحلامهم/ نّ لتحقيق المزيد من النجاح الفني المستند إلى شغفهم/ نّ، والمدفوع بإرادتهم/ نّ وإيمانهم/ نّ بحقهم/ نّ في الوصول إلى كل أمنياتهم/ نّ مع الكثير من العمل والجهد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون