"باستثناء واحد او اثنين من الروائيين والشعراء، لم يستطع أحد أن يقدّم الحالة الرهيبة للأوضاع خيراً من جو ساكو". (إدوارد سعيد).
قد يكون من المدهش معرفة أن المفكر الفلسطيني الشهير لم يكن يمتدح كتاباً أكاديمياً أو فيلماً وثائقياً سياسياً، بل كتاباً مصوّراً "كوميكس" (Comics)، هو "فلسطين"، من تأليف جو ساكو.
في شباط/فبراير عام 1993، ظهر على رفوف عرض كتب الكوميكس، كتاب حمل عنوان "فلسطين"، كجزء أول من تسعة أجزاء يحمل كلّ منها مُقدمةً بقلم الكاتب والأكاديمي الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد. لم يكن ذلك مجرد إصدار لكتاب كوميكس جديد، بل ولادة نوع جديد بالكامل من الصحافة، "صحافة الكوميكس" (Comics journalism)، أو الصحافة الغرافيكية، فما كان بين دفتَي ذلك الكتاب لم يكن قصةً أو جزءاً من رواية، بل كان موضوعاً صحافياً واقعياً عن فلسطين.
جو ساكو يقدّم تجربته كصحافي في زيارته لكل من قطاع غزّة والضفة الغربية لمدة شهرين من كانون الأول/ديسمبر 1991، وحتى كانون الثاني/يناير 1992، تحديداً في نهاية الانتفاضة الفلسطينية الأولى. كانت تلك تغطيةً صحافيةً واقعيةً لمُشاهدات ولقاءات وحوارات أجراها ساكو، واختار تقديمها على شكل كوميكس مُبدعاً بمُفرده فرعاً جديداً من الصحافة، سيستمر ويزدهر في ما بعد.
جو ساكو يقدّم تجربته كصحافي في زيارته لكل من قطاع غزّة والضفة الغربية لمدة شهرين من كانون الأول/ديسمبر 1991، وحتى كانون الثاني/يناير 1992، تحديداً في نهاية الانتفاضة الفلسطينية الأولى
كانت تلك الصحافة إجابةً عن سؤال: كيف يمكنك أن تنجز تسجيلاً بصرياً للأحداث في مكان وزمان تُمنع فيهما الكاميرات، وتصادَر الأفلام والشرائط المصوّرة، بل يقع الصحافيون فيهما عمداً ضحيةً للعنف؟ وكيف يمكنك أن تلجأ إلى تقنية صحافية تعود إلى ما قبل عصر الكاميرا، وأن ترسم الأحداث؟ استغل جو ساكو، المدى الأوسع والأقل لمعاناً من فنّ "القصص المصوّرة"، فهي ليست كلها ولا أغلبها حتى قصصاً خياليةً عن أبطال خياليين، فالقصص المصوّرة أو الكوميكس اختصاراً، هي وسيط يستخدم في تقديم أعمال واقعية وتسجيلية عديدة، من السرد التاريخي إلى الوثائقيات الطبيعية، ومن الأحداث الرياضية إلى الكتيبات التقنية حول صيانة المعدات العسكرية.
وهذا ما فعله جو ساكو؛ أعاد إنتاج قصة فلسطين كعمل تسجيلي، منذ وعد بلفور عام 1917، وحتى تفاصيل القسوة الوحشية التي تعرّض لها الفلسطينيون خلال الانتفاضة الأولى، مسجلاً ليس فقط الأحداث التي شاهدها، بل قصص الفلسطينيين عن قراهم المفقودة وأراضيهم المنتزعة.
وستسكن الصور التي قدّمها في ذهنك، أجنحة المستشفيات المملوءة بأطفال فلسطينيين أصيبوا برصاصات طائشة، مستوطنين في سن المراهقة يتجولون في شوارع الخليل مسلحين ببنادق العوزي، وجدّاً فلسطينياً يبكي بعد أن أجبره الجنود الإسرائيليون على قطع أشجار الزيتون التي تُعدّ مصدر الرزق الوحيد لعائلته، وتدمير المنازل كانتقام لجرائم بلا دليل.
تلك الرسوم التي نُشرت قبل واحد وثلاثين عاماً، ليست فقط تسجيلاً لتاريخ، بل كأنها تعود للحياة، بينما نرى الفلسطينيين يتعرضون لموجة عنف وتدمير جديدة، تطابق تلك التي سجلها جو ساكو في كتابه في وقت كان الكثيرون فيه يروجون في العالم أنه لا يوجد شعب فلسطيني، كما ادّعت رئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مائير.
رسم جو ساكو الحياة في الأراضي المحتلة كتعرية لزيف ذلك الادعاء، فالشعب الفلسطيني موجود وسيبقى موجوداً، وهو شعب حقيقي، له حيواته ووظائفه وعائلاته التي هي في صراع لا ينتهي مع الاحتلال. في قصصه يتّبع ساكو، تقاليد "صحافة جونزو" التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، فهو يرفض افتراض أن الموضوع الصحافي يمكن أن يكون منفصلاً عن كاتبه، وأنه يمكن تقديم العمل الذي ينتجه الصحافي دون أن تتسرب إليه بعض من مشاعر وأحاسيس الكاتب.
تعترف "فلسطين ساكو" بدوره في القصة، من الصور الكاريكاتورية لوجهه بنظارته الطبية تائهاً وسط حشد احتجاجي إسرائيلي، إلى تعليقه غير الرسمي على كل شيء من حوله. من المستحيل تفويت دور ساكو في عمله. في أعمال مثل فلسطين، كأنما يتتبع القارئ ساكو، في لقاءاته مع المزيد والمزيد من "الخاسرين في التاريخ" (كما يسمي إدوارد سعيد الفلسطينيين) وهو يروي قصصهم بإخلاص ويستحضر بأمانة البؤس الذي يعيشون فيه.
من حيث الأسلوب، رسوم ساكو تميل إلى الواقعية الشديدة (Hyperrealism)، التعبيرات المبالغ فيها على وجوه كل شخصية تؤطر هويتها، بينما تلمّ رسومه البانورامية بكل تفصيل في كل حياة يحكي عنها. يمزج ساكو ما بين أسلوب كتب الكوميكس الخارجة عن التقاليد التجارية المعتادة مع الوصف الدقيق للشخصيات، والصفحات التي تسرد شهادات وحكايات الناس، تأتي منظمة الكادرات وهندسية تقريباً، أما التي ترسم أحداث القمع والهرب من الدمار فهي مشوشة، مركبة، فوضوية في توزيع الكادرات المرسومة، كأنما الأسلوب يتبع الحالة العامة لما يرسمه، وشرائط التعليقات المكتوبة الكثيفة تخلق موازياً بصرياً لحالة الضجيج والضوضاء التي تميز الأحداث العنيفة.
حصل كتاب "فلسطين" على جائزة الكتاب الأمريكية عام 1996، في طبعته التي صدرت كجزئين، وصنّفته مجلة "The Comics Journal" رقم 27 في قائمة أهم 100 كوميك إنكليزية اللغة في القرن العشرين، وصدر الكتاب مترجماً إلى العربية عام 1996.
يُظهر "فلسطين" فعالية وسيط الكوميكس، وتعدد قدراته، كما أنه يؤسس لعلامة فارقة على ظهور نوع فني غير مسبوق، هو "التحقيق الصحافي بطريقة الغرافيك".
وُلد جو ساكو في مالطا في تشرين الأول/أكتوبر 1960. بعد ولادته بعام انتقلت أسرته إلى أستراليا حيث أمضى طفولته حتى عام 1972، حين انتقلوا إلى لوس أنجلس في الولايات المتحدة، بدأ حياته المهنية بالعمل في صحيفة المدرسة الثانوية التي درس فيها، وطوّر ولعه بالفكاهة والهجاء كرسام كاريكاتير وقصص مصوّرة، وليس فقط صحافياً قديراً يمتلك نظرةً ثاقبةً، وقدرةً على الغوص عميقاً في الموضوع الذي يغطيه، بل هو أيضاً رسام كوميكس موهوب، ومُبدع قادر على تنويع أسلوبه كرسام؛ لإبراز موضوعه بأفضل شكل مُمكن.
عام 2009، أصدر جو ساكو، كتابه الثاني عن فلسطين بعنوان "Footnotes in Gaza" (هوامش في غزّة)، وبرغم أن هذا الكتاب صدر قبل خمسة عشر عاماً، إلا أنه يبدو مرتبطاً بحاضرنا الآن بقوة.
يحكي هذا الكتاب عن مجزرتين تحديداً، تم إخفاؤهما تقريباً عن العالم، هما مجزرتا خان يونس ورفح عام 1956، حين انتهزت القوات الإسرائيلية انشغال العالم بحدث العدوان الثلاثي على مصر وقتها، وارتكبت مجزرتين راح ضحيتهما 386 فلسطينياً: مذبحة خان يونس في 3 تشرين الثاني/نوفمبر وقُتل فيها 275 فلسطينياُ، ومذبحة رفح في 12 تشرين الثاني/نوفمبر وقُتل فيها 111 فلسطينياُ. وُلدت فكرة الكتاب لدى جو ساكو، بينما كان يقرأ كتاب "المثلث المحرم"، لنعوم تشومسكي.
في الهامش كتب تشومسكي توثيقاً منقولاً عن وثائق الأمم المتحدة بخصوص المذبحتين (خان يونس ورفح)، وما دفع ساكو إلى إعادة بحث الحادثتين هي قلة المادة المنشورة عنهما في العالم الغربي، فهما مجهولتان تقريباً للعالم وبلا توثيق حقيقي، فقد وقعتا في ظل ضخامة حوادث العدوان الثلاثي 1956، ولم تتجاوزا خبراً هامشياً، لذلك قرر ساكو الذهاب إلى غزّة بحثاً عن شهود عيان للحادثتين. في هذا الكتاب، يظهر ساكو، نموذجه المُختار لصحافة الكوميكس؛ فهو لا يحاول ادعاء أي نوع من التوازن أو عرض وجهتي النظر.
كتابه مُكرّس، بكامله، لعرض القضية التاريخية من وجهة النظر الفلسطينية، من دون تقديم أي ردّ من الحكومة الإسرائيلية أو أي عرض لوجهة نظرها…إلخ، فقط التاريخ كما يرويه الفلسطينيون، وتحديداً ستة من الشهود العيان، من ضمنهم عبد العزيز الرنتيسي، القيادي في حركة حماس الذي اغتالته إسرائيل بقصف صاروخي في 2004، وكان الرنتيسي في التاسعة من عمره، ويقيم في خان يونس حين وقعت المذبحة. إن أحداثاً كهذه لا تمّحي أبداً من ذاكرة من حضروها، ولا تبهت ألوانها الدموية القاسية مهما مرّت السنوات والعقود.
وُلدت صحافة الكوميكس من رحم القضايا السياسية، وبقيت دائماً وفيةً لأصلها، وكم من المُدهش أن نرى تورط وانخراط الكوميكس في الصحافة السياسية، خاصةً تلك المُتعلقة بالشرق الأوسط وقضاياه، ومن المُحزن أن هذا النوع من الصحافة مجهول تقريباً في منطقتنا
قدّم الرنتيسي وصفاً دقيقاً حيّاً ومُوجعاً لتلك الأحداث، وعبر رسوم جو ساكو القوية بدت القصة وكأنها تعود للحياة، واضعةً قطعةً من التاريخ في مُقدمة الوعي البشري ككل، كما هي حية ومتوهجة في وعي وذاكرة من عايشوها. عمل ساكو على الكتاب لسبعة أعوام تقريباً، جامعاً ما بين شهادات شهود العيان، ومتفحصاً وثائق الأمم المتحدة إلى جانب وثائق الأرشيف الإسرائيلي لينتج سفراً من 432 صفحةً، مازجاً صحافة الكوميكس بالصحافة الاستقصائية، ومانحاً الشهداء صوتاً يفضحون من خلاله للعالم البشاعة التي حدثت والتي ما زالت تتكرر حتى الآن.
صدر الكتاب بالإنكليزية عن دار نشر متروبوليتان، ونُشر مترجماً إلى العربية عام 2011.
يستخدم ساكو في الكتاب أسلوبه الشديد الواقعية خصوصاً في رسم وجوه السياسيين المعاصرين للحادثتين، لكن مع تقليل التعبيرات المبالغ فيها على الوجوه، وحيث تظليل الرسوم أكثر قتامةً، وهناك جو داكن يهيمن على الرسوم كلها تقريباً، ويمكنك استشعار قدر أكبر من الغضب مما ظهر في كتابه "فلسطين". الخلفيات غالبيتها سوداء صامتة، كإيحاء بالمؤامرة الصهيونية لإخفاء الجريمتين. الكتاب بقدر ما هو تسجيل استقصائي واقعي، إلا أنه مشحون بالعاطفة، وبالتعاطف مع الضحايا، وبرفض صارخ لما حدث.
حاز ساكو على جائزة رايدنهاور عن كتابه في العام 2010.
وُلدت صحافة الكوميكس من رحم القضايا السياسية، وبقيت دائماً وفيةً لأصلها، وكم من المُدهش أن نرى تورط وانخراط الكوميكس في الصحافة السياسية، خاصةً تلك المُتعلقة بالشرق الأوسط وقضاياه، ومن المُحزن أن هذا النوع من الصحافة مجهول تقريباً في منطقتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه