دفع القصف الإسرائيلي الوحشي لمستشفى الأهلي العربي (المعمداني سابقاً) في غزّة، والذي ترتّب عنه سقوط ما يقارب 500 قتيل ومئات المصابين، لإصدار دعوة إلى "إضراب عام عالمي لأجل فلسطين"، يوم الجمعة الموافق 20 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
لكن الدعوة التي لم تكن محدّدة المعالم والأهداف بالقدر الكافي منذ اللحظة الأولى، ربما لأنها استندت بالأساس إلى التعاطف الواسع مع الفلسطينيين والغضب من "مجزرة مستشفى المعمداني". لم تنجح الدعوة على ما يبدو، أو لم تكن على قدر ما أَمِلَ من دعا إليها، إذ لم يتعد الأمر عدداً من الوقفات والتظاهرات التضامنية في مناطق قليلة في أوروبا ودول عربية، وإضراباً فعلياً محدوداً في مطاعم ومؤسسات ثقافية متضامنة مع القضية الفلسطينية في دول مثل ألمانيا وهولندا.
تفاعل ضعيف ومحدود مع الدعوة
بوجه عام، أُقيمت عدة وقفات تضامنية مع الشعب الفلسطيني في عدة دول أوروبية، وهو أمر تكرّر منذ إطلاق إسرائيل حربها على قطاع غزة، وزادت بعد "مجزرة مستشفى المعمداني"، وتداول صور ضحايا القصف الإسرائيلي من الأطفال.
لكن الالتزام الفعلي بالإضراب وقع في بعض المحال العربية التي أغلقت أبوابها الجمعة في ألمانيا، علاوة على بعض الأماكن في العاصمة الهولندية أمستردام التي لفتت الانتباه إلى القضية الفلسطينية، بما في ذلك غلق العديد من أماكن الترفيه والمؤسسات الثقافية، وألغى البعض برامجهم اليومية لحدث أمستردام للرقص (ADE).
الهدف من الدعوة والإضراب كان "التعبير عن غضبنا واستنكارنا للإبادة الجماعية التي تحدث في غزة، وأيضاً من ‘الإبادة الثقافية‘ لكل ما هو متعلّق بفلسطين في أوروبا، والتي اتضحت من خلال تجريم وقمع كافة أشكال التعاطف والتضامن مع القضية الفلسطينية، ومظاهر مثل الكوفية والحطة الفلسطينية، في دول مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا"
واختلف التعاطي مع الدعوة إلى "الإضراب العام العالمي لأجل فلسطين" في الدول العربية، بين تجاهل تام وتضامن عبر الوقفات والتظاهرات، وبعض أشكال المقاطعة الاقتصادية لمطاعم وماركات عالمية أعلنت، بشكل صريح، دعم إسرائيل في حربها على غزة، أو ارتبطت في أوقات سابقة بدعم إسرائيل.
هذا وعلماً أن الدعوات لهذه المقاطعة بدأت عقب أيام قليلة من الحرب الإسرائيلية على غزة، كما أنه لا يمكن القول إن التظاهرات كانت استجابة للدعوة للإضراب العالمي، لأن الكثير منها جاء استجابة لمؤسسات سياسية أو دينية محلية، وهو ما حدث في مصر وسلطنة عمان على سبيل المثال.
وفي منطقة الخليج، لم تكن هناك مظاهر لإضراب أو وقفات تضامن مع الفلسطينيين. يرجع هذا لأسباب عديدة، أبرزها أن حق التظاهر مقيّد بموجب العديد من القوانين المحلية، وبسبب التطبيع الرسمي في الإمارات والبحرين، حتّى السعودية كانت على طاولة نقاش التطبيع حين اندلعت الحرب الإسرائيلية الراهنة على غزة، أما قطر، فخرجت سابقاً مظاهرات تضامنية محدودة.
تُستثنى من ذلك سلطنة عمان التي شهدت صلاة غائب على أرواح الضحايا، وخطباً ووقفات تضامنية وتظاهرات بعد صلاة الجمعة تشيد بـ"المقاومة الفلسطينية"، كذلك الكويت، حيث أُقيمت وقفات تضامنية مع الفلسطينيين خلال الأيام الأخيرة.
وخرجت تظاهرات واسعة في الأردن دعماً لفلسطين، مع محاولات لاقتحام الحدود (يمكن قراءة المزيد عنها من تغطيتنا الخاصة هنا). كما شارك آلاف العراقيين في "صلاة الجمعة الموحّدة" التي دعا إليها الوقف السني لأجل دعم فلسطين.
وخرجت مسيرات تضامن حاشدة في مناطق مختلفة في مصر، لكنها مزجت بين التضامن مع فلسطين ورفع مطالب اجتماعية وسياسية، مثل "عيش، حرية وعدالة اجتماعية".
رفضاً للإبادة في غزة و"الإبادة الثقافية"
وتحدثت لرصيف22 واحدة من الناشطات والناشطين الداعين للإضراب العام، شريطة عدم ذكر اسمها لاعتبارات تتعلق بالسلامة الشخصية حيث أنها تعيش في أوروبا، موضحةً أن الهدف من الدعوة والإضراب كان "التعبير عن غضبنا واستنكارنا للإبادة الجماعية التي تحدث في غزة، وأيضاً من ‘الإبادة الثقافية‘ لكل ما هو متعلّق بفلسطين في أوروبا، والتي اتضحت من خلال تجريم وقمع كافة أشكال التعاطف والتضامن مع القضية الفلسطينية، ومظاهر مثل الكوفية والحطة الفلسطينية، في دول مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا".
وهي تضيف: "مطالبنا هي أن يستجيب الساسة وصنّاع القرار والتشريعات، ويضعوا حداً للإبادة التي تحدث في غزة ووقف إطلاق النار ووقف آلة القتل الإسرائيلية، وأيضاً وقف كافة مظاهر التمييز والاضطهاد التي تحدث في مختلف الدول الأوروبية لكل ما هو فلسطيني"، مردفةً: "أردنا أن نوضح أننا لسنا أقليات في مجتمع الشتات في أوروبا… نحن أعداد كبيرة ونعيش هنا منذ عقود وندفع الضرائب ولنا حقوق، وما نتعرّض له غير قانوني ويتنافى مع الديمقراطية".
وتوضح الناشطة أنه كانت هناك آليتان لنشر الدعوة للإضراب، عبر الإنترنت من خلال مراسلة مؤسسات ثقافية وفنية وأكاديمية، وعلى الأرض من خلال توزيع منشورات بها معلومات عن الإضراب ومطالبه، ووزعت في الجامعات والشوارع والمظاهرات التضامنية، وشجّعنا الكثيرين على الانخراط في الإضراب والدعوة إليه.
وختمت بالتأكيد على أنهم ما يزالون يعملون على حصر المؤسسات والجهات التي التزمت الإضراب، المعروف لهم منها 30 مؤسسة في هولندا وحدها حتى الآن.
نبذة عن الإضراب العام وأهدافه
تختلف المصادر التاريخية في تحديد أول "إضراب عام" أو "إضراب جماعي" في تاريخ البشرية. البعض يرجعه للحضارة المصرية القديمة أو حضارات أقدم منها حتّى، لكن المتفق عليه أن الإضرابات العامة انطلقت اعتراضاً على ظروف العمل والرواتب المتدنية، قبل أن تتسع لتشمل الاحتجاجات على الحياة الاجتماعية ولاحقاً السياسية.
الإضرابات العامة أو الجماعية وثيقة الصلة بالقضية الفلسطينية وبالنضال الفلسطيني المرير لأجل الحرية من قبل أن تتأسس إسرائيل، وحتّى في نضالات الفلسطينيين/ات الفردية لأجل محاكمات و/أو ظروف اعتقال إنسانية في سجون إسرائيل. إليكم/ن نبذة تاريخية عن الإضرابات في السردية الفلسطينية
و"ارتبط مفهوم الإضراب العام بالاتجاه الثوري في الحركة النقابية في القرن التاسع عشر، مع بداية الثورة الصناعية، وكان قريباً من مفهوم الثورة، حيث عمد بشكل أساسي إلى وقف الأنشطة الإنتاجية بالكامل، بما يؤدي لانهيار النظام الرأسمالي. لكنه فقد زخمه الثوري بعدما فشل الإضراب العام الذي دعا إليه الاتحاد العام للعمل في فرنسا عام 1906…"، في حين يُحسب لـ "تيار الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا، طرح الإضراب العام كبديل للثورة السياسية"، وفق كتاب "الأناركية من النظرية إلى التطبيق" لدانيال غيران.
ويُعرّف الإضراب عادةً بأنه "التوقف الجماعي عن العمل بصفة إرادية من طرف العمال، ويهدف إلى الضغط على أصحاب العمل أو السلطة بقصد إجبارهم/ها على الخضوع لتلبية مطالبهم أو إيجاد حلول لنزاع قائم بينهم، وهو وسيلة للدفاع عن مصالح العمال أو تدعيمها"، بحسب كتاب "حقوق الإنسان والحريات العامة في تونس… جدلية التأصيل والتحديث"، لماهر عبد مولاه.
ويكفل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في الفصل الثامن منه فقرة (د)، "حق الإضراب، شريطة ممارسته وفقاً لقوانين البلد المعني".
أحدث مثال على الإضرابات العالمية هو "الإضراب العالمي من أجل المناخ 2019"، والذي نُظِّم بالتزامن في 4500 مدينة في 150 دولة حول العالم، لدقّ ناقوس الخطر لظاهرة التغيّر المناخي. وكان عبارة عن سلسلة من الاعتصامات السلمية والإضرابات الهادفة إلى "إجبار الأنظمة الحاكمة على البدء في اتخاذ إجراءات للتصدي للتغيّر المناخي".
الإضرابات في السرديّة الفلسطينية
والإضرابات وثيقة الصلة بالقضية الفلسطينية وبالنضال الفلسطيني المرير لأجل الحرية، وحتّى نضالات الفلسطينيين/ات الفردية لأجل محاكمات و/أو ظروف اعتقال إنسانية في سجون إسرائيل.
على مدى أكثر من 70 عاماً من الحراك السياسي المناهض للاحتلال، أصبحت الإضرابات أكثر تبلوراً في النضال الفلسطيني لأجل الحرية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وأكثر ارتباطاً به.
وفق دراسة "الإضراب عن الطعام وتسليح الجسد: فلسطين وتجارب عالمية"، المنشورة في العدد 133 من "مجلة الدراسات الفلسطينية" شتاء 2023، فإن "الإضراب عن الطعام هو شكل من أشكال المقاومة والاحتجاج السياسي" الفلسطيني ضد ظروف الأسر في السجون الإسرائيلية، وإن أدّى إلى "ارتقاء شهداء ترسّخت تضحياتهم في الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني. أول هؤلاء كان الشهيد عبد القادر أبو الفحم، الذي استشهد في سنة 1970، إثر تنفيذه إضراباً عن الطعام في سجن عسقلان".
تضيف الدراسة: "منذ سنة 2012، تتلاحق موجة من الإضرابات الفردية عن الطعام نفّذها بداية أسرى الجهاد الإسلامي، ثم امتدّت بعد ذلك إلى أسرى جميع المنظمات السياسية، سواء من اليسار أو اليمين العلماني، فضلاً عمّن يعتنق الأيديولوجيات الدينية". وخلال السنوات الأخيرة، أصبح الإضراب عن الطعام وسيلة الأسرى الفلسطينيين الأقوى ضد الاعتقال الإداري التعسّفي (بدون تهم معلنة) وضد ظروف الاعتقال غير الإنسانية.
لكن "الإضراب الشامل" أو الاقتصادي أيضاً ليس بغريب عن الواقع الفلسطيني والحراك الاحتجاجي والنضالي ضد الاحتلال.
يمكن القول إن "الإضراب الوطني العام" الذي أشرفت على تنسيقه اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني، وانطلق من أيار/مايو حتى تشرين الأول/أكتوبر عام 1936، إبّان ما عُرف بـ"الثورة العربية الكبرى في فلسطين"، أول تماس بين الإضرابات والنضال الفلسطيني ضد ما سيُعرف لاحقاً بـ"دولة إسرائيل"، حيث شلّ النشاط التجاري والاقتصادي في المجتمع الفلسطيني في أنحاء الريف كافة.
و"استخدم البريطانيون أساليب وتكتيكات مختلفة، وفي كثير من الأحيان عنيفة، لوقف الإضراب الذي ترافق مع تشكيل مجموعات مسلحة لمهاجمة الأهداف البريطانية والصهيونية"، بحسب الباحث في تاريخ فلسطين أليكس ويندر.
وأضاف: "وتحت وطأة ضغوط السياسات القمعية البريطانية، وضغوط بعض الملوك والأمراء العرب، والعواقب الاقتصادية للإضراب، الممتد ستة أشهر، على السكان الفلسطينيين"، اضطرّت اللجنة العليا لوقف الإضراب والتعاون مع لجنة اللورد بيل التي أرسلتها سلطات الانتداب البريطاني لمعرفة أسباب "تمرّد العرب" في فلسطين، ووصف مناصرو هذا الإضراب ما فعلوه بأنه "أطول إضراب عام في التاريخ".
لاحقاً، في نيسان/أبريل 1938، قَدِمت لجنة التقسيم، برئاسة وودهيد، إلى فلسطين، وواجهها العرب أيضاً بالمقاطعة والإضراب العام الذي تطوّر إلى ثورة.
وعلى مدى أكثر من 70 عاماً من الحراك السياسي المناهض للاحتلال، أصبحت الإضرابات أكثر تبلوراً في النضال الفلسطيني لأجل الحرية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وأكثر ارتباطاً به.
وخلال ما عُرف بـ "هبّة أيار" عام 2021، إبّان العدوان الإسرائيلي على غزّة، التزم الفلسطينيون في مختلف المناطق بما أطلقوا عليه "أسبوع الاقتصاد الوطني"، وامتنعوا عن شراء "بضائع الاحتلال" التي "تموّل قتل الفلسطينيين"، والاستعاضة عنها بمنتجات محلية "وطنية".
وأعقبت هذه المبادرة نجاح "إضراب الكرامة" الذي نفّذه المواطنون في كل فلسطين التاريخية، احتجاجاً على تهجير سكّان حي الشيخ جراح المقدسي وضرب غزّة أيضاً.
وأفادت تقارير إعلامية، بما فيها إسرائيلية، في حينه، بأن الإضراب كبّد إسرائيل خسائر اقتصادية جمّة، وساهم في زيادة الدعوات داخل إسرائيل لوقف الحملة العسكرية على قطاع غزة.
وكان آخر إضراب عام نُفِّذ في الضفة الغربية المحتلة قبل يومين، وكان احتجاجاً على قصف إسرائيل مستشفى الأهلي العربي (المعمداني سابقاً) في غزة، وإسقاط ما لا يقل عن 500 قتيل ومئات الجرحى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...