ليست الطرق دائماً في الشوارع، ولا تقاس المسافات بما يقطعه الجسد فقط؛ بعض الطرق تبدأ من باب شقة ضيّقة وتصعد سلّماً إسمنتياً ينفتح على سطح بارد، مائل، بلاطه مهترئ ولا تصلح أرضه للرقص ولا للهرب، ومع ذلك مشيت عليه.
اخترت أن أضع قدمي، ثقلي، ومخاوفي فوق سطح بيتنا، ليس لأنّ المدينة لا ترحّب بي، بل لأنها تبتلعني وتفضح عزلتي. اخترت المشي فوق سطح البيت لأنّ الشارع كان مزدحماً بالخوف والناس والضوضاء التي لا أستطيع أن أصرخ فيها.
فوق السطح، أمارس حياةً مصغّرةً؛ أتمشى، أعتني بطيور أمي، أتحدث إلى نباتاتي الوديعة، أبكي، أضحك، وأحياناً أخرى أتذكّر؛ ومن هناك تصعد بي الذكريات إلى عوالم أخرى كنت فيها أكثر براءةً وهشاشةً، أتمشّى في تجاربي بقدر من الحب حتى لا أتعذب بالكراهية التي تواجهني بمخالبها، وتريد أن تصحبني في مشواري خطوةً خطوة، لكن على سطح بيتنا كان المشي مختلفاً؛ محاولات للتدريب على العزلة بشيء من الهدوء.
كنت أهرب من المرتفعات في البداية، لكنني صعدت إليها لأتفاوض مع خوفي. لم أكن أبحث عن رياضة أو روتين يومي بل عن مساحة أمارس فيها احتجاجاً داخلياً ناعماً، وصامتاً، لا يحتاج إلى لافتة ولا إلى جمهور بل إلى ساعة من العزلة مع جسدي.
هناك، فوق السطح، أستعيد نفسي؛ بجسدي الخائف، بملابسي الخفيفة التي يداعبها الهواء وتتأملها النجوم، بخيالاتي، بحركاتي المتهورة والحذرة، وبذاكرة لم تعُد تسع الحزن فحسب بل تسع العالم كلّه.
الخطوة الأولى فعل يشبه البكاء
أول مرة مشيت فيها فوق السطح، لم أكن قادرةً على البكاء. جسدي كان يابساً، عيناي جافتين، وصوتي مقطوعاً من الداخل. فقدتُ صديقي المقرب بعد مرضٍ مفاجئ، وظللت أياماً أتظاهر بالقوة.
أصبح السطح مزاراً روحياً، لا يراني فيه أحد، ولا أضطر إلى تفسير خطواتي. المشي لم يكن رياضةً، ولا وسيلة لمحاربة الدهون العنيدة؛ كان طريقةً لفهم نفسي، ولإعادة بناء العلاقة بيني وبين جسدي. مكان بلا إشارات مرور، بلا وجوه، وبلا زحام. هناك، لخطواتي إيقاع داخلي يجعلني أتحسس شكل قدمي، صوت نَفَسي، ويعلّمني من جديد كيف أطفو فوق هذا العالم دون أن أغرق فيه
ثم، قبيل الفجر، ارتديت حذائي وصعدت. لم أُخطط، فقط مشيت. خطوة، ثم خطوة. لا شيء مميزاً؛ بلاطٌ بارد، ريحٌ تصفّر، وأصوات كلاب بعيدة تمزّق صمت الليل. لكن فجأةً تنفّست بعمق كمن ينقذ نفسه من الغرق، ثم بكيت. بكاء خفيف، كما لو أنّ جسدي كان ينتظر هذه الإشارة ليطرد ألماً لا يُحتمل.
رياضة خفيّة
حين ضاقت بي الأرض، لم أبحث عن شوارع جديدة بل جربت الصعود إلى أعلى نقطة أعرفها، بحثت عن الحياة عند الحافات المرتفعة، كأنني تسلّقت جسدي إلى قمته وتمشيت في رأسي.
أصبح السطح مزاراً روحياً، لا يراني فيه أحد، ولا أضطر إلى تفسير خطواتي. أتحرك فيه كأنني أكتشف جغرافيتي الخاصة، أمدّ ساقي كأنها لم تُمدّ من قبل، وأختبر المسافات الصغيرة الدائرية، كأنها رحلات طويلة في متاهة خفيّة من التوقفات.
المشي لم يكن رياضةً، ولا وسيلة لمحاربة الدهون العنيدة؛ كان طريقةً لفهم نفسي، ولإعادة بناء العلاقة بيني وبين جسدي. مكان بلا إشارات مرور، بلا وجوه، وبلا زحام. هناك، لخطواتي إيقاع داخلي يجعلني أتحسس شكل قدمي، صوت نَفَسي، ويعلّمني من جديد كيف أطفو فوق هذا العالم دون أن أغرق فيه.
طقوس خضراء وبيضاء
ذات يوم وضعت إناءً فيه تربة على طرف السور. زرعت ثلاثة أعواد نعناع. كنت أرويها قبل جولاتي الليلية، وأراقبها كما لو أنني أراقب جرحاً يلتئم.
منذ ذلك اليوم قررت أن أبدأ جولتي بالحديث إلى نباتاتي. أملأ صحناً من الدلو القديم، وأقترب من كل أصيص كما لو كنت أربّت على رأسه. في كلّ نبات شيء منّي؛ عناد، عطش، قلق، أو ميل خفيّ إلى النور. هذه العناية المتكرّرة التي قد تبدو بسيطةً، تذكّرني بأنني أستطيع أن أروي شيئاً، ولو كان عطشاً صغيراً في جذر صامت.
أمشي الآن حافيةً فوق السطح الخشن. أترك قدمَيّ تلامسان الأرض مباشرةً، تشعران بحرارتها وبرودتها، وتتفاعلان مع شقوقها الصغيرة ونتوءاتها الخفيّة.
جاءت البطة لاحقاً؛ خرجت من عشّها تسير أمامي بخطى مترنّحة، فضحكتُ. ولسبب لا أفهمه تماماً وجدت نفسي أقلّدها؛ أفتح ساقَيّ قليلاً، أتمايل بدلال ساخر، وأترك لخطوتي أن تضحك، أن تقهقه وحدها على نكات بالكاد تلمس قدمي، لا أحد يراني، لكنني أشعر بأنني أحتفل مع جسدي، وكأنّ روحي تقول لي: المشي لا يجب أن يكون دائماً وقاراً؛ عليه أن يكون دلالاً وسخرية، لعبة صغيرة نسترجع بها خفّة الجسد وعفويته.
يمتلئ السطح الآن بقصاري النباتات مثلما امتلأت قدمي بالخطوات، بعضها مزهر، وبعضها متعب، وبعضها يُقاوم بصبرٍ. ومع كل خطوة أراقب إيقاع أنفاسي؛ لا استعجال ولا ضوضاء، مجرد وقت لي وحدي أسترجع فيه شيئاً من نفسي.
تواصل مع الأرض
أمشي الآن حافيةً فوق السطح الخشن. أترك قدمَيّ تلامسان الأرض مباشرةً، تشعران بحرارتها وبرودتها، وتتفاعلان مع شقوقها الصغيرة ونتوءاتها الخفيّة.
المشي عندي ليس مجرّد تجربة جسدية، بل رغبة في تماس مباشر مع الحياة. كأنني أريد أن أزيل كل الحواجز، وأخطو بتفاصيلي كاملة.
أحياناً، أشعر أنني أترك أثقالي على الأرض، وأنّ كل خطوة حافية تحمل عني جزءاً من الوجع. السطح قد يكون قاسياً كالحياة، يجرحني أحياناً، لكن في هذا القسوة أستعيد شيئاً من الطفولة، من البراءة، ومن النقاء الذي فقدته ولم أنسَه.
المشي فوق خوفي وتحت النجوم
يتكرر معي حلم عجيب؛ أرى نفسي أمشي في شوارع غير مأهولة، بيوت بلا أبواب، نوافذ بلا زجاج. أمشي حافيةً وأتسلّق أسوار الشرفات وكأنني أطارد شيئاً لا يُرى. في الحلم لا أخاف، أرتجف أحياناً، لكنني لا أتراجع. جسدي خفيف مثل هواء له إرادة. أفيق وقدماي توجعانني كأنني مشيت بالفعل.
ربما السطح هو الحلم الذي أعيشه وأنا مستيقظة. ربما المشي فوقه في مواجهة الريح والغياب والفقد والخوف من المرتفعات، طريقة لاختبار قدرة الجسد على أن يحتمل الحياة، لا أن يتجاوزها فحسب.
مع كل خطوة، ينقص شيء من التوتر، يتفكك شيء من الضغط، ليس لأنّ المشي يُلغي القلق بل لأنه يُعيد ترتيب العلاقة معه. يمنحني المشي وقتاً لا أحتاج فيه إلى اتخاذ قرارات. فقط أتحرك، وهذا الفعل البسيط كافٍ لتصفية الذهن، لتهدئة الارتباك وللسماح لأفكار كثيرة بأن تمرّ دون أن تترك أثراً؛ كأنّ الحركة تخلق ممراً داخلياً ينظف ببطء
الليل على السطح له سحر خاص. النجوم تجعل عالمي يبدو صغيراً، والكون أكثر اتساعاً. المشي تحت السماء الصافية، بين نسمات الهواء، يوقف التفكير ويطلق التنفس.
أشعر أنني جزء من لوحة؛ أضواء النوافذ، أصوات بعيدة، ظلال متداخلة، ومشاعر شجية تمتزج داخلي؛ حنين، خيال، وأحياناً حزن عميق. السطح صار مركبتي الفضائية والمشي رقصة هادئة مع الزمن، مع الذكرى، ومع نفسي، على بلاطٍ يوازي نبض قلبي.
المشي كاحتجاج داخلي ناعم
المشي فوق السطح لا يشبه المشي في الشارع، ربما. السطح ليس مكاناً متّسعاً، لكنه لي، لا أحد يُملي عليّ فيه ما يجب أن أكونه. في عالمٍ تضيق فيه المساحات يصبح هذا الركن أعلى السلم بمثابة أرض صغيرة للحرية الشخصية، ليس لأنّ أحداً منحني إياها، بل لأنني قررت أن أصنعها كلّ فجر بخطوة.
المشي، في ظاهره، تتابع منتظم للخطوات، احتفاء بقدرة القدمين على الثبات واهتزاز طفيف في المفاصل لكنه بالنسبة لي تمرين على الإنصات إلى جسدي.
ما كلّ أشكال التعبير تحتاج إلى جمهور؛ ثمة أفعال صغيرة، وهامشية، لا يراها أحد، لكنها تقول كل شيء، والمشي، في حالتي يقول: ما زلت هنا، ما زلت أتحرّك، وما زالت لي مساحة أختبر فيها نفسي، خارج الصخب، وخارج التوقّعات.
المشي كتنظيف داخلي
في لحظة معيّنة في أثناء المشي، يبدأ شيء مختلف، أشعر بتنظيم النفس؛ الشهيق أعمق والزفير أبطأ، ثم أبدأ بملاحظة تفاصيل أخرى؛ حركة الكتفين، ارتكاز الحوض، شدّ العضلات في الساق، وخفّة القدمين.
مع كل خطوة، ينقص شيء من التوتر، يتفكك شيء من الضغط، ليس لأنّ المشي يُلغي القلق بل لأنه يُعيد ترتيب العلاقة معه. يمنحني المشي وقتاً لا أحتاج فيه إلى اتخاذ قرارات. فقط أتحرك، وهذا الفعل البسيط كافٍ لتصفية الذهن، لتهدئة الارتباك وللسماح لأفكار كثيرة بأن تمرّ دون أن تترك أثراً؛ كأنّ الحركة تخلق ممراً داخلياً ينظف ببطء.
كأنني لأول مرة في اليوم أعود إلى داخل جسدي؛ ليس من خلال ألم أو توعّك بل عبر انتباه طبيعي، وتدريجي يعيدني إلى مادية وجودي، هذا الجسد الذي يتحملني يوماً بعد يوم ألتفت إليه أخيراً وأشكره بودّ دون كلام.
كل خلية تصحو… كل حلم يستيقظ
المدهش في الحركة البسيطة للمشي أنها توقظ مناطق لا تُرى. أشعر أنّ شيئاً داخلي يُفتح، كما لو أنّ الخلايا التي ظلّت خاملةً طوال اليوم تبدأ بالتمدد. لا أتحدث هنا عن يقظة العضلات فقط، بل عن أماكن شعورية خاملة تبدأ في اليقظة؛ الجزء الذي يشعر بالذنب دون سبب، الجزء الخائف من الخطأ، والجزء الحالم الذي نسي أنه حيّ. المشي كفعل متكرّر يُوقظ هذه المناطق ويخرجها إلى الهواء.
لا يدوم المشي طويلاً. ساعة على الأكثر. لكنه يترك أثراً ممتداً في اليوم كله، بعد الانتهاء أكون أكثر حضوراً، أكثر توازناً، حتى إن لم يتغير شيء خارجيّ. المشي لا يقدّم حلولاً لكنه يعيد ترتيب ما بدا فوضوياً، يمنحني نقطة انطلاق جديدة، بهدوء وثبات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.