أما آن لنا نحن الفلسطينيين أن نعيد اختراع عقلنا السياسي؟

أما آن لنا نحن الفلسطينيين أن نعيد اختراع عقلنا السياسي؟

رأي نحن والحقوق الأساسية

الخميس 21 أغسطس 20259 دقائق للقراءة

يبدو العنوان المطبوع بالخط العريض أعلى هذه المقالة، مستريحاً في برجه العالي، مجنوناً، أو جريئاً، وربما ساذجاً أمام واقع لا يرحم، إذ لا بد أن يسأل سائل، بمجرد المرور عليه وربما بسخرية مُرّة: كيف يمكن لنا، نحن الفلسطينيين، أن نعيد اختراع "العقل السياسي" الذي نفكر به، بينما لا نملك حتى القدرة على السيطرة على حياتنا ومصيرنا؟ 

كيف يُطلب منّا أن نعيد اختراع ما لا نملكه أصلاً؟ ألم نخترع كل شيء في ما يقارب الثمانية عقود من الكفاح المسلح إلى طاولات أوسلو، من انتفاضات الحجارة إلى الهجمات الصاروخية، حتى الكلمة التي اختبرناها من "أبو سلمى"، مروراً بدرويش إلى رفعت العرعير؟

ماذا تبقّى لنخترعه الآن؟ أو لنعيد اختراعه حتى؟

ربما سيقرر السائل نفسه الدخول -بدافع الفضول أو السخط- لقراءة هذه المادة، محاولاً معرفة ما أحاول قوله هنا، وكيف سأهيئ الأرضية لحجة مضادة، تدحض ما يدور في عقله، لكنني سأختصر عليه الطريق: لست هنا لتقديم مراجعة شاملة لأشكال النضال الفلسطيني منذ ثمانية عقود، من التظاهر السلمي إلى الكفاح المسلح، من بناء الخطاب والشعار إلى الرهان على معارك عسكرية دموية، لا نملك القدرة على حسمها.

بل سأذهب هذه المرة لبناء مقاربة محددة بين نموذجين فلسطينيين متقابلين زمنياً وسياسياً: الشيخ جرّاح وغزّة، أن أضيء على سؤال مركزي: متى نربح معاركنا؟ ومتى نخسرها؟ ولماذا؟ 

نموذج الشيخ جرّاح… كيف نجح النضال السلمي

في الحيّ الصغير الواقع في القدس الشرقية المحتلة، لم يكن الفلسطينيون هناك يملكون سوى وثائق من اتفاقية جرت بين الحكومة الأردنية ووكالة غوث اللاجئين"الأونروا" تضمن لهم التوطين وملكية المنازل، وأرشيف عثماني قديم يُثبت حقهم في السكن. ومع ذلك، وبرغم هشاشة أدواتهم القانونية أمام منظومة قضائية إسرائيلية تمييزية، تحوّل الحيّ في لحظة مفصلية إلى مركز تعبئة جماهيرية واسعة.

على مدار عقود، خاض سكان الحي معارك قانونيةً طويلةً، وواجهوا عشرات القضايا في المحاكم الإسرائيلية. وقد صدرت أوامر عدة بالإخلاء، كان آخرها في العام 2021، حين حُكم بإخلاء أربع عائلات ونقل ملكية منازلهم إلى جمعيات استيطانية، مع تحديد بداية شهر أيار/ مايو اللاحق موعداً لتنفيذ القرار بالقوة.

النموذج السلمي في الشيخ جرّاح نجح في فرض سردية حقوقية عالمية، بفضل التوثيق والتحالفات المدنية، ما جعله أكثر تأثيراً من المواجهة المسلحة. فقد أثبتت التجربة أن النضال الحقوقي قادر على فضح الاحتلال وكسب الدعم الدولي دون إراقة دماء، بعدما فكّك خطاب 'النزاع العقاري' الذي روّجته إسرائيل... واستبدله بسردية 'التطهير العرقي'

بحسب دراسة صادرة عن جامعة فلورنسا بعنوان Working From the Backstage، شهد الشيخ جرّاح واحدةً من أوسع حالات الحشد المدني في القدس، قادتها نخبة فلسطينية شابة مستقلة نجحت في بناء تحالفات عابرة للفصائل والانتماءات، واستخدمت أدوات ناعمةً كالإعلام التقليدي والاجتماعي، والتوثيق عبر منصات التواصل، لتحويل الحي إلى رمز عالمي للعدالة السكنية ومقاومة التطهير العرقي.

الحيّ، الذي لم تُطلق فيه رصاصة واحدة، نجح في فرض سردية جذبت دعماً دولياً واسعاً، بعدما فكّك خطاب "النزاع العقاري" الذي روّجته إسرائيل على مدار عقود، واستبدله بسردية "التطهير العرقي"، ما أعاد تعريف ما يحدث في الشيخ جرّاح كجريمة سياسية وحقوقية بحق الفلسطينيين.

لكن، كما يعرف الجميع، سرعان ما دخلت غزة على خطّ التصعيد حينها -نتيجة تراكم الغضب الشعبي- حين خرج الناطق باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، ليعلن اندلاع "معركة سيف القدس"، التي برغم رمزية اسمها أنهت فعلياً الهبّة الجماهيرية الواسعة التي امتدت من القدس إلى الداخل والضفة. 

لقد تم كسر الإطار السلمي للهبّة، وتحوّلت السردية من مقاومة مدنية إلى مواجهة عسكرية، ما أتاح لإسرائيل قلب المشهد بكليته عبر إعادة تعريفه كـ"حرب بين طرفين مسلحين". وكنتيجة لذلك، عاد النظام المصري ليتصدر المشهد كوسيط، ما أدى فعلياً إلى ترك المقدسيين وحدهم، مرةً أخرى. هذا التراجع شجّع إسرائيل على انتزاع مكاسب منفردة، لم تكن لتفرضها في ذروة الحشد الشعبي والإعلامي المدني.

نموذج غزة… لماذا فشلت "حماس" في كسب شرعية سردية دولية؟

في غزّة، جرت الأمور على النقيض تماماً، فقد حازت حركة "حماس" ما لم يحزه أهالي الشيخ جرّاح: سلطة أمر واقع تتحكم بالأرض والسكان، موارد مالية وبشرية، منظومة إعلامية، وجيش مدجج بالصواريخ والأنفاق، كما سوّقت لنفسها. ومنذ سيطرتها على القطاع عام 2007، رسّخت نفسها كسلطة موازية للسلطة الفلسطينية (المعترف بها دولياً)، وأصبحت طرفاً رئيسياً في الانقسام السياسي الذي خدم الاحتلال أكثر مما قوّضه.

هل الهزيمة هي فقط خسارة الأرض والسلاح؟ أو أنها تتجلى حين نخسر قدرتنا على الإقناع؟ حين نخسر سرديتنا ولا يسمعنا أحد، لأنّ من يبلور خطابنا ويقودنا فقد أهليته الأخلاقية والسياسية؟

تعاملت "حماس" مع المقاومة بوصفها أداةً لتعزيز شرعيتها السياسية في الداخل الفلسطيني، وعلى صعيد جمهورها العربي المحيط، لكنها فشلت في ترجمة أي من جولات المواجهة إلى مكسب سياسي دائم أو إنجاز قانوني قابل للبناء عليه. حتى بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، الذي عدّته الحركة "تتويجاً لمسارها القتالي"، انقلب المشهد إلى حرب إبادة شاملة ضد سكان غزة، دون أن تنجح "حماس" في الحلول بديلاً لمنظمة التحرير، أو في تقديم قيادة وطنية جامعة قادرة على مخاطبة العالم.

لم يكن هذا الفشل ناجماً عن الخلل الفادح في موازين القوة فحسب، بل أيضاً عن افتقاد الحركة خطاباً سياسياً وطنياً جامعاً، يمثّل التعدّد الفلسطيني، ويترجم نضاله بلغة العالم، كما فعل أهالي الشيخ جرّاح. ففي حين ارتكز نموذج غزة على الشرعية الدينية والعسكرية، ارتكز نموذج الشيخ جرّاح على الشرعية الحقوقية لقصتنا الواضحة. والنتيجة أنّ سردية الشيخ جرّاح نجحت في تفكيك الخطاب الإسرائيلي (الذي حاول توصيفها كخلاف قانوني ومدني بين مستأجر فلسطيني ومالك يهودي)، وأعادته إلى شكله الأصلي: محتلّ ينوي تهجير السكان قسراً. 

هذه السردية نجحت في اختراق الساحات الدولية، بينما بقيت سردية غزة تراوح مكانها في بوتقة العقيدة والسلاح والأحلام اليوتوبية المنفصلة عن الواقع.

لماذا ننتصر حين نكون عُزّلاً ونُهزم حين نكون مسلّحين؟

ولعلّ أحد أكثر الأسئلة إلحاحاً اليوم، في ضوء الكارثة التي تتعرض لها غزّة، هو: كيف انتهى بنا الحال إلى هذا الحدّ من العزلة والهزيمة السياسية؟ ما الذي جعل نضالاً تحررياً عادلاً، يتقاطع مع كل المبادئ القانونية الموجودة، يبدو للعالم اليوم كمعركة دينية عقائدية تنتمي إلى "زمن ما قبل السياسة"؟ بالرغم من سقوط هذا العدد الهائل من الضحايا وتدمير مدينة حضرية كانت تمثّل رافعةً مهمةً للمشروع الفلسطيني؟ من دون جني حتى ولو مكسب سياسي واحد وكبير يوازي هذا الحجم من التضحيات؟

والسؤال الآخر المهم، الذي ينبثق من كل هذه الأسئلة: لماذا ننتصر حين نكون عُزّلاً وعادلين، ونُهزم حين نكون مسلّحين ومعزولين؟ ربما قبل أن أجيب عن هذا السؤال، عليّ أن أعرّف مفهوم النصر والهزيمة من موقعي كفلسطيني:

هل النصر هو مشهد جثث العدو تترامى أمامنا على مدّ البصر؟ هل هو عدد الصواريخ التي عليها أن تملأ سماء غزّة؟ أو هو عدد الأسرى الذين علينا أن نلقيهم في أنفاق تحت الأرض لأعوام في انتظار أن تباد مدينتنا، ريثما يحين موعد صفقة محتملة؟ 

على عكس الشيخ جرّاح، بقي خطاب حركة حماس في غزة محصوراً في العقيدة والسلاح، ما أدى إلى عزلة سياسية وخسارة القدرة على الإقناع. النتيجة أن التضحيات الهائلة لم تُترجم إلى مكسب سياسي واحد، بل عمّقت الانقسام وأضعفت القضية الفلسطينية على الساحة الدولية

وهل الهزيمة هي فقط في خسارة الأرض والسلاح؟ أو أنها تتجلى حين نخسر قدرتنا على الإقناع؟ حين نخسر سرديتنا ولا يسمعنا أحد، لأنّ من يبلور خطابنا ويقودنا فقد أهليته الأخلاقية والسياسية؟ طيّب، ماذا لو كانت المقاومة الأخطر فعلاً، هي التي لا تطلق النار؟ 

أما آن لفلسطين أن تستبدل مشروعها الانفعالي بمشروع سياسي واضح

بالنسبة لي، استطاعت بضع عائلات "غير مسلّحة" في حي الشيخ جرّاح، في غضون أيام، أن تلجم إسرائيل بقوتها النووية، وتلفت انتباه العالم إلى قضيتنا "من دون إراقة دماء" أفضل مما فعل حزب كامل بعتاده وسلاحه وإعداده لأكثر من عقدين من الزمن، لأنّ قصة هذه العائلات هي قصتنا الفلسطينية الواضحة التي لا تحتاج إلى حركات متعطشة إلى الدماء كي ترويها.

لا أقول إنّ النضال في الشيخ جرّاح كان أسهل منه في غزة، لكنه كان ممكناً، محتملاً، ومقدّراً له أن يستمر.

أما آن لفلسطين أن تتحرر من خطاب بطولتها الخالدة، وتدخل ميدان السياسة الواقعية، القائمة على البرامج والتمثيل والنتائج؟ أما حان الوقت، بالنسبة لنا، كي نفكّك قداسة 'القضية' قليلاً، فقط كي نعيد بناءها كـ'مشروع سياسي'

اليوم، نحن منهكون، نتابع بصمت أخبار التهجير في الضفة وكأنها أمر واقع، لأنّ "غزة" نصف الجسد الفلسطيني الفاعل ورافعته السياسية، قد أُغرقت في نكبتها، وأصبحت خارج المعادلة، تُصارع وحدها في جلبة الدمار. 

وفي هذه اللحظة الحالكة من حياتنا، يخطر لي أنه مثلما تريد المعارضة الإسرائيلية إنقاذ "إسرائيل الدولة" من متزعّميها الحاليين، ومثلما تريد أمريكا حمايتها من نفسها، لماذا لا يحقّ لنا كفلسطينيين حماية فلسطين "التي نسعى إليها" من أحزابها الفاسدة، المهترئة، الهزيلة؟ من سارقيها ومدّعيها، ومجانينها الذين اختطفوا صوت الشعب لعشرات السنين وقادوهم إلى معارك دموية حالت دون كسبها؟ أليس هذا أقل ما علينا فعله الآن؟

هل يمكننا أن نتوقف لحظة لنفكر في الخطاب الهُلامي الذي لا يعرف أدواته حتى، ولا يزال يردّد منذ عامين أنّ الاحتلال يتحمل المسؤولية بالكامل، ويسكت عن الطرف الآخر من المعادلة، الذي هيّأ ظروف الإبادة وتمترس خلف أوهامه، تاركاً شعباً بكامله يُذبح؟

هذا الخطاب الذي يدور حول نفسه، ويتهرّب من مواجهة الحقيقة البسيطة، أوليس من المحتمل أنه سينهي وجودنا بالكامل في غضون سنوات قادمة وربما أشهر؟

أما آن لفلسطين أن تتحرر من خطاب بطولتها الخالدة، وتدخل ميدان السياسة الواقعية، القائمة على البرامج والتمثيل والنتائج؟

أما حان الوقت، بالنسبة لنا، كي نفكّك قداسة "القضية" قليلاً، قليلاً فقط كي نعيد بناءها كـ"مشروع سياسي"؟ أو أن 77 عاماً من النضال لم تكن كافيةً لإنتاج كائن فلسطيني يفكّر بعقلٍ سياسيّ لا بعقل الضحية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image