بخطٍ يُقرأ بصعوبة، وبطلاء أبيض على يافطة ذات خلفية سوداء، دوّن المزارع لقمان إبراهيم (59 عاماً) وهو من الريف الشرقي لمدينة قامشلي شمال سوريا، عبارة "مقاسم للبيع" بجانب أرضه الزراعية.
ويتحدث لرصيف22 بحسرة: "هذه الأرض ورثتها عن أبي الذي ورثها عن أبيه وهكذا، فهي تعود لجدنا الأول الذي سكن المنطقة منذ مئات السنين، هم حافظوا عليها، وها أنا أبيعها كمقاسم لاستخدامها في بناء العقارات والفلل، فالوضع المادي السيئ وانحباس الأمطار والجفاف أضرت بي وبرزق أبنائي كثيراً". ويبلغ سعر مبيع الدونم الواحد 6000 دولار أو أكثر، تبعاً للموقع وبعده عن الشارع الرئيسي وتوفر الكهرباء أو الماء.
ويتابع لقمان: "المؤسف أن الإدارة الذاتية لا تهتم بقطاع الزراعة بالشكل المطلوب بالرغم أنه اقتصاد مجتمعي، ويشكل العمود الفقري للأمن الغذائي في المنطقة، وبدلاً عن ذلك فإن أسعار شراء السماد والبذار والأدوية مرتفعة جداً وبالعملة الصعبة، إلى جانب التكلفة العالية للزراعة المروية المعتمدة على الوقود في تشغيل محركات استخراج المياه، مقابل انقطاع وتقنين طويل ومستمر للكهرباء".
نتيجة الحرب وسوء الاهتمام بالزارعة ونقص الدعم والتغيّرات المناخية، اضطر العديد من الأهالي في الحسكة لبيع أراضيهم.
ودوماً ما شكلت محافظة الحسكة عصب الإنتاج الزراعي لكل سوريا، من حيث توفير المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والقطن، أو الموسمية كالشعير والخضار والبقوليات لأغلب المحافظات السورية، وكانت تشكل جزءاً من الناتج القومي والميزانية العامة للبلاد.
لكن الرابطة بين الأراضي الزراعية والمزارعين في أغلب مناطق محافظة الحسكة اليوم، باتت تتسم بعدم الاستقرار والمزيد من المخاوف. فنتيجة الحرب وسوء الاهتمام بالزارعة ونقص الدعم، اضطر العديد من الأهالي لبيع أراضيهم لتغطية نفقات المعيشة أو الهجرة، مقابل زيادة مساحة العمران، ما أدى لتقليص المساحات المزروعة.
ويتبع هذا الواقع مشاكل حقيقية، سواء من حيث تأمين القمح والطحين وتالياً الخبز، أو انعدام الغطاء الأخطر والاكسجين والهواء النقي، أو اختفاء الطابع الجمالي للمنطقة. يقول لقمان: "المساحات المعروضة للبيع كبيرة وكثيرة، ولا يُمكن حصرها بإحصائيات دقيقة، فهي تزداد في كل يوم يتأخر فيه هطول المطر، أو مع عدم وضع خطط اقتصادية سليمة لإدارة المنطقة".
وفي جلسة نقاش مع مجموعة من مهندسي البيئة وخبرائها ونشطائها، أكدوا لرصيف22 مخاطر الإهمال البيئي، ومنها ارتفاع معدل درجات الحرارة، واحتمال حدوث الحرائق للمحاصيل الزراعية، والعواصف الرملية، وفقدان الأزهار والأشجار المثمرة ما يلحق الضرر بإنتاج العسل، وتوقف زراعة القطن وتالياً تأثر معامل الغزل والنسيج في المحافظة وتقليص فرص العمل، وكثافة الانبعاثات الكربونية لغياب الأشجار والمساحات الخضراء، وانحسار الاماكن التي يُمكن أن يزورها الناس للراحة أو قضاء وقت في الطبيعة، إضافة إلى أن نضوب الآبار الجوفية وانحسار منسوب الأنهار رفع من الخطر المحدق بالأمن الغذائي.
مخاطر تهدد الزراعة والرعي
بالقرب من مدينة ديرك/المالكية، يقف المزارع محمد يوسف (50 عاماً) أمام أرضه التي زرعها بالقمح بكلفة 22 مليون ليرة سورية (قرابة 2800 دولار)، ويقول متأملاً ومتحسراً: "أخشى أن تكون النتائج كارثية. شملنا الله برحمته خلال هذه الأيام، وتعرضت المنطقة لهطول مطر جيد، لكن الأرض تحتاج لأكثر من ذلك عموماً، وإلا فإن النتائج ستكون سيئة جداً، وسأضطر لبيع الأرض، فموقعها ممتاز على الشارع الرئيسي، ويُمكن استجرار الكهرباء إليها، إضافة لجر قناة للمياه من المدينة، تكفي حاجة أي بناء قد يُنشأ عليها".
هذه الأرض ورثتها عن أبي الذي ورثها عن أبيه وهكذا، فهي تعود لجدنا الأول الذي سكن المنطقة منذ مئات السنين، هم حافظوا عليها، وها أنا أبيعها كمقاسم لاستخدامها في بناء العقارات والفلل، فالوضع المادي السيئ وانحباس الأمطار والجفاف أضرت بي وبرزق أبنائي كثيراً
ويُكمل: "خلال السنوات التي سبقت الحرب كان إنتاج الأرض يكفي لإعالة أسرتي المكونة من 7 أفراد، حالياً بقينا ثلاثة فقط ولم تعد تكفينا". وتشير تقارير دولية إلى أن تبعات التغير المناخي والجفاف وقلة الأمطار تطال جميع مناحي الحياة في سوريا، ومنها الزراعة والرعي والأمن الغذائي والاقتصادي والصحي.
الراعي حماد الفالح، وهو من البدو المتنقلين بحثاً عن الكلأ والماء، يقول لرصيف22: "أغلب الأراضي الزراعية التي كنا نستأجرها أو نرتادها بالمجان في مرحلة ما بعد الحصاد لرعي الأغنام، تحولت إلى عقارات، ما ألحق الضرر الكبير بالمواشي، لذلك ترى الأغنام والماعز تنبش بين الأتربة بحثاً عن بعض الحشائش".
يتابع الفالح مشيراً إلى اضطرارهم لشراء العلف بأسعار مرتفعة، فيصل سعر طن الشعير لأكثر 340 دولاراً والتبن إلى 320 دولاراً، أو لبيع قسم من المواشي لإطعام الباقي، في حين أنه لا بديل عن العشب الطبيعي كأفضل علف مجاني، لكن ما عاد بالإمكان تأمينه على الدوام، ورغم أن الموسم الحالي أفضل نسبياً نتيجة الهطولات المطرية التي شهدتها المنطقة، لكن تكاليف الرعي تبقى مرتفعة جداً ولا تحقق أرباحاً مجزية.
وكنتيجة لعدم الاستقرار الأمني، وتغير القوى المسيطرة ميدانياً بين الحين والآخر، ما عاد بالإمكان التقدير الدقيق للمساحات القابلة للزراعة في الحسكة، والتي كانت تبلغ قبل عام 2011 قرابة مليون ونصف المليون هكتار، ما بين زراعات مروية وبعلية، أي أكثر من نصف مساحة المحافظة، وكانت تساهم في إنتاج 65% من مجموع محصول القمح على مستوى سوريا.
وكمثال يبين مدى تراجع الواقع الزراعي في الحسكة، فإن المساحة المزروعة بالقطن ضمن المحافظة قبل 2011 كانت تقدر بقرابة 60 ألف هكتاراً، في حين أنها بلغت في العام الفائت وفق إحصائيات تقريبية من دوائر الزراعة في المحافظة 4400 دونم فقط، من أصل 16000 سمح بزراعتها، وعادة ما تتأثر المساحات المسموحة لزراعة أي محصول، بكميات المياه المتوفرة والمخزنة عبر السدود والآبار، وتوفر الكهرباء والوقود المستخدم في الري.
المساحة المزروعة بالقطن قبل 2011 كانت تقدر بقرابة 60 ألف هكتاراً، في حين أنها بلغت العام الفائت 4400 دونم فقط.
الجفاف حبل مشنقة للمجتمع المحلي
ما عاد من الممكن القول إن قضايا الجفاف والتغيرات المناخية والزحف العمراني، هي من الأمور الهامشية في حياة أهالي الحسكة، بالرغم من أن آثار الحرب والجوع أكثر فتكاً بالناس ولقمة عيشهم. وقد تحولت المحافظة اليوم من "أرضنا الخضراء، وينابيع المياه والأنهار" كما كان أهلها يقولون، إلى واحدة من أكثر المناطق التي تحدق بها أخطار تدهور البيئة.
لذلك يجد المجتمع المحلي نفسه أمام واحدة من أعقد وأكثر المشاكل خطورة، إذ تهدد حياتهم ومستقبل أبنائهم وبلادهم، ويقول الباحث في الشؤون البيئة المهندس نضال المزن لرصيف22 إن "الأمن الغذائي للمنطقة ظل على الدوام مرتبطاً بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والاستقرار والوضع الأمني، ومدى توفر مستلزمات الزراعة بأسعار تشجيعية، لكن اليوم تضاف إليها عوامل البيئة والمناخ التي تحولت لهاجس أساسي في الاستقرار الغذائي".
ويربط المزن الاستقرار والحفاظ على البيئة بتوفر الشروط المناخية والبيئية وتوفير العوامل المساعدة، التي تحتاج لتضافر جهود هياكل الحكم المحلية والدعم الدولي، للمساعدة في تطوير الزراعة، وتوفير كل ما يلزم للاعتماد على الطاقة البديلة بالشروط الصحيحة.
الأمن الغذائي للمنطقة ظل على الدوام مرتبطاً بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والاستقرار والوضع الأمني، ومدى توفر مستلزمات الزراعة بأسعار تشجيعية، لكن اليوم تضاف إليها عوامل البيئة والمناخ التي تحولت لهاجس أساسي في الاستقرار الغذائي
ووفقاً للمتحدث، فإن أول الحلول الحالية هو توفير مياه الري مع تفاقم الجفاف وزيادة الأراضي القاحلة أو المعروضة للبيع، بسبب التغيرات المناخية وعدم توفر المياه والدعم لها، "وكل ذلك يساهم في تغييرات في التربة من دون زراعتها، وزيادة رقعة التصحر مع مرور الزمن" وفق تعبيره.
من جهته يقول مروان المهبش وهو مهندس وناشط في مجال البيئة لرصيف22: "الكل متفق على أن خطراً كبيراً يحدق بالبيئة في محافظة الحسكة وينذر بكوارث متلاحقة ومتعاقبة، لكن لا أحد يُحرك ساكناً، بل وتستمر عمليات تحويل المسطحات الخضراء إلى عقارات بوتيرة متسارعة جداً، وهذا الأمر يؤسس لمشاكل مستقبلية خطيرة".
ووفقاً للبعض من مالكي الأراضي الزراعية، فإن الأمر يزداد سوءاً بسبب انخفاض منسوب نهر الفرات الذي ينبع من الأراضي التركية لمستويات مخيفة، وقد وصل أحياناً إلى أقل من 200 متر مكعب في الثانية، علماً أن الكمية المتفق عليها وفق الاتفاقية الموقعة بين سوريا وتركيا عام 1987 هي 500 متر مكعب في الثانية، لذلك خرجت مساحات مروية كبيرة من الخدمة، خاصة محاصيل القمح والقطن والخضروات، وأثر ذلك في شح ونضوب الآبار الجوفية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 18 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...