"بحياتنا ما شفنا غبرة متل هالسنة"... عبارة تتردد على ألسنة سوريين كثر، وخاصةً كبار السن، وهم يصفون حال الطقس في سوريا مؤخراً. عواصف غبارية متتالية ضربت أجزاءً من البلاد، والبعض تحدث عن كونها "شديدةً" أو "غير مسبوقة"، وسببت أضراراً بشريةً وماديةً كبيرةً. حتى في أيام انحسار هذه العواصف، يصف كثيرون طقس العديد من المدن السورية بأنه مغبّر وأكثر جفافاً من المعتاد.
ولا يقتصر الأمر على سوريا، فالعواصف الترابية باتت رفيقاً شبه أسبوعي للعراقيين. وتعاني العديد من دول الخليج، على رأسها الكويت والسعودية والإمارات، من تأثيرات كبيرة للعواصف الرملية المتتالية التي شهدتها في الأشهر الأخيرة.
وبالطبع، لا يمكن النظر إلى ظاهرة العواصف الغبارية في سوريا على أنها جديدة، فالأمر مألوف خاصةً في المحافظات الشرقية، لكن اتّساع رقعتها ووتيرتها، وعدم اقتصار مصدرها على البلدان المجاورة كما هو الحال عادةً، مع كون بعضها هذا العام ذا منشأ محلي كما تشير تقارير صادرة عن المديرية العامة للأرصاد الجوية، كلها تحيل إلى احتمال وجود عوامل مستجدّة تساهم في هذه الظاهرة.
يصف كثيرون طقس العديد من المدن السورية بأنه مغبّر وأكثر جفافاً من المعتاد.
مدن فقدت حزامها الأخضر
على مدار أيام عدة، تجوّلتُ مع سكان ومزارعين في بلدات مختلفة في غوطتَي دمشق الشرقية والغربية، اللتين تُعرفان بأنهما حزام العاصمة الأخضر لكثافة الشجر والغطاء النباتي فيهما، ولم يكن من الصعب ملاحظة تحوّل مساحات واسعة منهما إلى كتل إسمنتية ومناطق يندر اللون الأخضر فيها.
في بلدة صحنايا في غرب دمشق، والتي يسميها سكانها "أرض الزيتون" لوجود ما لا يقل عن 15 ألف شجرة زيتون فيها، لم يستطع عدد من المزارعين الذين التقاهم رصيف22، إخفاء حسرتهم على تراجع هذا العدد بنسبة لا تقل عن الربع وفق تقديراتهم، وانخفاض المساحات المزروعة بالمحاصيل التي تشتهر بها البلدة، مثل البامية واليانسون والقمح، وللأمر أسباب، على رأسها تناقص معدل هطول الأمطار خلال العقود الأربعة الأخيرة من 300 ملم سنوياً إلى قرابة 210 ملم، وتراجع كميات المياه المغذّية للبلدة من نهر الأعوج النّابع من الجنوب من جبل الشيخ نتيجة التعدّيات والجفاف، بجانب الزحف العمراني الهائل خاصةً مع استقبال صحنايا عشرات آلاف الوافدين من مناطق أخرى خلال سنوات النزاع.
"كل ذلك يساهم في موت الأراضي الزراعية. وإذا أضفنا صعوبة الزراعة نتيجة الجفاف وشح المحروقات، نرى المزارعين ينصرفون عن مهنتهم المتوارثة عن آبائهم. وفي حين كان معظم سكان البلدة يعملون في الزراعة سابقاً، لم يتبقَ اليوم سوى عدد لا يتجاوز مجموع أصابع اليدين، يكافحون للاستمرار ضمن ظروف صعبة جداً"، يقول المزارع الصحناوي سعيد صفا (56 عاماً).
أشجار الزيتون في صحنايا وعددها يتناقص عاماً بعد آخر - تصوير زينة شهلا
بشكل مشابه، يسير المزارع الخمسيني عامر الخياط، على طول طريق الغوطة الشرقية الرئيسي، الذي لطالما عُرف بكثافة الشجر على جانبيه، ويشير بيديه إلى المساحات القاحلة، والأبنية الجديدة، ويتحدث عن فقدان المنطقة التي تُعرف بأنها رئة دمشق وسلّتها الغذائية، لآلاف الدونمات من الأراضي الزراعية، نتيجة التعديات التي طالت الأشجار المعمرة، مثل الجوز والمشمش، خلال سنوات النزاع، وصعوبة الزراعة اليوم وتكلفتها العالية، ما يدفع كثيرين من المزارعين لبيع أراضيهم وهجرها، إذ يغدو تحويلها إلى مشاريع استثمارية كالفيلات والمزارع والمسابح، أكثر جدوى مادياً.
تراجع عدد أشجار الزيتون في صحنايا بنسبة لا تقل عن الربع، وانخفضت المساحات المزروعة بالمحاصيل التي تشتهر بها البلدة، وللأمر أسباب على رأسها تناقص معدل هطول الأمطار وتراجع كميات المياه المغذّية للبلدة من نهر الأعوج، بجانب الزحف العمراني الهائل
"مع تراجع عدد الأشجار، باتت الأراضي تحتاج إلى مياه أكثر في مياه الري، فالشجر كان يعطي رطوبةً وظلاً يحميان المزروعات من الشمس، ويترافق الأمر مع صعوبة استخراج المياه الجوفية بسبب شح المحروقات"، يقول الخياط. وبالطبع فإن تناقص المساحات الخضراء في غوطتَي دمشق ليس وليد السنوات الأخيرة، فالزحف العمراني نحوهما، من أبنية ومصانع، بشكل غير مدروس، معضلة تعود إلى عقود سابقة، لطالما تم تسليط الضوء على خطورتها من دون أن تجد آذاناً صاغية.
"تصحّر" غير مسبوق
في مدينة دير الزور في شرق سوريا، تعيش هنادي كدو (53 عاماً)، وهي شاعرة، مع أسرتها، وتتحدث إلى رصيف22، عن عواصف غبارية شديدة عاشتها المحافظة هذا العام. "أطنان من الرمال هجمت على صدورنا وبيوتنا وتوقفت الحياة خلال ثوانٍ معدودات"، تقول واصفةً ما حدث، وتشير إلى أن اعتياد أهالي المحافظة على هذه العواصف التي يطلقون عليها بلهجتهم المحلية "العجاج"، يجعلهم قادرين على التنبؤ بحدوثها، لكن سرعة الرياح في العواصف الأخيرة كانت "الفيصل"، فحدثت أضرار بشرية ومادية كبيرة.
"في كل الأحوال لا يمكنني القول إن ما حصل غير مسبوق. نذكر أمراً مشابهاً في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، مع عاصفة استمرت أحد عشر يوماً"، تقول مضيفةً أن الجديد اليوم في المحافظة هو التصحر: "نتحدث عن مدن باتت خاويةً على عروشها بعد دمارها، ومناطق زراعية على امتداد البادية السورية، هُجرت وزُرعت بالألغام. كان لدينا طقس نسمّيه ‘ﭼول’، إذ نخرج في الربيع إلى الأراضي الشاسعة، وننثر القمح وننتظر المطر ليسقيه، ولا نعود إلا ومعنا حصاد الكمأة والبابونج. اليوم من يتجرأ على أن تطأ قدماه الصحراء ومخلّفات الحرب منتشرة على امتداد مئات الكيلومترات؟".
كل ما سبق، ما هو إلا مثال على تناقص المساحات المزروعة في عموم سوريا، لأسباب مناخية وأخرى ناتجة عن تبعات الحرب. على سبيل المثال، أعلنت وزارة الزراعة في آذار/ مارس الماضي، عن تراجع زراعة القمح بعلياً هذا العام إلى 1.2 مليون هكتار مقارنةً بـ 1.5 مليون هكتار خلال العام الفائت، نتيجة تأخّر الأمطار، وقدّرت الأمم المتحدة عام 2018 تراجع إنتاج الحبوب في سوريا بنسبة تُقدَّر بأربعين في المئة بسبب التغيرات المناخية.
تراجع المساحات المزروعة في غوطة دمشق الشرقية - تصوير زينة شهلا
"طبقة متحركة في التربة"
"يؤثر تراجع المساحات المزروعة والأحزمة الخضراء حول المدن على ازدياد نسبة الجفاف والتصحر، وتالياً عدم ثبات التربة وتحرّكها، والثبات ناتج بشكل أساسي عن وجود الغطاء النباتي والرطوبة"، تتحدث الدكتورة غادة قطمة، رئيسة دائرة الأصناف والتحسين الوراثي للزيتون في الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية السورية، وتنوّه بأن سوريا وعموم المنطقة لطالما كانت ذات طبيعة صحراوية، وما تغيّر مؤخراً هو ارتفاع الحرارة وقلة الأمطار والرطوبة، وهي من العوامل الأساسية المخفّفة للغبار.
وتشير قطمة، وهي مدرّبة في مجال الإنتاج العضوي، خلال لقاء مع رصيف22، إلى أن الأمر أشبه "بالحلقة"، ونحن هنا نتحدث عن مشكلة عالمية تتعلق بارتفاع درجات الحرارة، والجفاف، وتغيّر توزع الأمطار خلال المواسم الزراعية، وممارسات الزراعة غير المستدامة، تضاف إليها في سوريا سنوات النزاع التي أدت إلى هجرة مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، والتحطيب الجائر، والتوغّل العمراني غير المدروس على حساب الغطاء النباتي.
"في نهاية المطاف، العواصف الغبارية هي عبارة عن رياح قوية تحمل كل ما هو في الطبقة السطحية للتربة، وغير ثابت، وتالياً كلما استطعنا أن نزيد ثبات التربة من خلال الزراعة، وتخفيف الرياح من خلال المصدات، كلما خففنا من وتيرة العواصف وشدتها، والعكس صحيح"، تضيف شارحةً.
بالإضافة إلى هذه الأسباب، يتحدث المتنبّئ الجوي، أغيد الشريف، لرصيف22، عن نشاط عام للتيارات الهوائية الصاعدة مما يؤدي إلى ارتفاع التربة والغبار الناعم من الأرض إلى الأعلى، وتكرار هبوب الرياح السطحية الشديدة التي تسحب كميات كبيرةً من الغبار، وتشكّل حالات عدم استقرار وخلايا رعدية بشحنات موجبة تسحب الغبار والأتربة من الأرض السالبة إلى الأعلى عند مرورها، وهو ما يُعرف بظاهرة "الرياح الهابطة".
العواصف الغبارية هي عبارة عن رياح قوية تحمل كل ما هو في الطبقة السطحية للتربة، وغير ثابت، وتالياً كلما استطعنا أن نزيد ثبات التربة من خلال الزراعة، وتخفيف الرياح من خلال المصدات، كلما خففنا من وتيرة العواصف وشدتها، والعكس صحيح
"كل ذلك ساهم في تكرار العواصف الغبارية في مجمل المنطقة العربية هذا العام، بجانب جفاف الجو وانخفاض معدلات الأمطار، وكثرة الرمال الناعمة المفككة على سطح الأرض وانتشارها في مساحات واسعة في مصر وشبه الجزيرة والأردن وشرق سوريا، والخسارات الكبيرة في الغطاء النباتي خاصةً في الشرق السوري"، يضيف الشريف، وهو مدير صفحة "هوى الشام" الخاصة بالطقس.
ومع تأكيد المتحدث على أن هذه العواصف ليست بالأمر الجديد على المنطقة، لا ينفي احتمال تكرارها، والأمر يتعلق برأيه بالمواسم المطرية المقبِلة، وتبعات التغيّر المناخي الذي يؤثر على العالم عموماً، "وهو ما سيحدد حياتنا ومشاريعنا وطرق التكيف مع هذه التغيّرات صيفاً وشتاءً"، وفق تعبيره.
وضمن هذا السياق، تشير تقارير أممية إلى "تفاقم العواصف الغبارية في مناطق البحر المتوسط خلال العقد الماضي بسبب زيادة حالات الجفاف وإزالة الغابات على نطاق واسع".
من العواصف الغبارية الأخيرة في سوريا - المصدر: جريدة الوطن المحلية
التشجير قدر الإمكان
يُجمع كل من تحدث إليهم رصيف22، على أن لا علاج جذرياً وسريعاً للحد من وتيرة العواصف الغبارية في سوريا، خاصةً تلك التي تنشأ نتيجة عوامل محلية.
"الحلول إجمالاً صعبة ومكلفة، لكن الزراعة، ومحاولة الإكثار من الأعشاب التي تقود إلى زيادة الغطاء النباتي، قد تكونان من الحلول المطروحة"، يقول الشريف. وهنا يتحدث الفلاحون عن ضرورة دعم الزراعة بكل الوسائل المتاحة، لوقف ما يصفونه بالـ"كارثة التي ستطال بآثارها السلبية كل أنحاء البلاد".
وتضيف غادة قطمة، ضمن السياق نفسه: "للتخفيف من وطأة هذه العواصف، لا بد من زيادة الغطاء النباتي كمّاً ونوعاً، وزراعة الأحزمة الخضراء والمصدّات، والإدارة الجيدة للأراضي وللموارد المائية، وكل هذا يمكن أن يزيد الرطوبة في الجو، ويخفف انتقال الغبار والكثبان الرملية من أماكن نشوء العواصف إلى المدن".
وفي حين أن الحل الجذري لا بد أن يكون على مستوى إقليمي، كما تقول الخبيرة، لأن المشكلات المتعلقة بتغيّر المناخ ذوات طبيعية إقليمية وعالمية، لا تنفي قطمة أهمية المبادرات الفردية، مثل الزراعة ولو على مستوى صغير، وحسب المتاح. "لا يمكننا أن نقف متفرجين. إن زرعنا شرفاتنا أو أسطح منازلنا أو الرصيف المجاور لأبنيتنا، يمكن أن نزيد الرطوبة ونخفف ولو قليلاً من حدّة هذه التغيرات المؤثرة بشكل سلبي على حياتنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...