يخيّم صمت جنائزي رهيب على صنابير المياه لدى جماعة كتاوة بإقليم زاكورة في المغرب، حيث ينتظر السكان موعدهم المعتاد من أجل التزود بحصتهم اليومية من الذهب الأزرق المفقود.
ولا يختلف الأمر كثيراً لدى جماعة تكنيت التابعة لذات الإقليم، والتي يرزح أهاليها تحت وطأة العطش ساعات طوالاً في انتظار أن تبعث الحياة في الصنابير، وأي حياة تلك! فما هي إلا ساعات يملؤون فيها أوانيهم والقناني البلاستيكية حتى تنقطع المياه الشحيحة مجدداً، فتتكرر القصة كل يوم.
عن هذه المعاناة تحكي فاطمة (19 عاماً): "إنه الموعد المقدس الذي ينتظره الجميع. لا أحد يغادر منزله عندما يحين وقت التزويد بالماء، خاصة النساء والفتيات، إذ ننتظر ملء الدلاء واحداً تلو الآخر من أجل توفير مياه الشرب والاغتسال والتنظيف وغير ذلك. هذا الموعد هو أهم من أي شيء آخر نقوم به في اليوم".
العديد من الأسر هاجرت إلى مناطق لا يلوح فيها شبح العطش.
وتضيف فاطمة في حديثها لرصيف22: "أحيانا تكون مريضاً ولا يشفع لك ذلك، أنت مضطر للنهوض والانتظار أمام الصنبور، وإلا فلن تجد ماء تشرب معه الدواء"، مبرزة أن "العديد من الأسر هاجرت إلى مناطق أخرى حيث لا يلوح شبح العطش، بينما يواجه أولئك الذين قرروا البقاء هنا ندرة الماء وقساوة الظروف الطبيعية".
وتلقي هذه الأزمة بظلال أكبر على النساء اللواتي هاجر أزواجهن إلى المدن بحثاً عن فرص أفضل، ومنهن مريم التي تتحمل وحدها مسؤولية تربية أبنائها الثلاثة الصغار، إذ بالكاد تجد ماء يسد عطشهم ويطفئ صرخاتهم المتعالية في صيف تصل درجة حرارته إلى أعلى مستوياتها.
وبجسد نال منه التعب والإرهاق، تحمل مريم ابنتها الصغرى ذات السنتين على ظهرها وتملأ ما توفر لديها من عبوات بالماء بعدما انتعشت الصنابير في موعدها المعتاد، وقالت وهي تصف الوضع: "المسؤولية تكون مضاعفة عندما تضطر للعيش دون زوج، فأنا الأم والأب الذي غيبته ظروف الحياة، ونحن هنا نكابد قسوة المناخ وشح المياه، بينما يقاسي والد أبنائي هناك (في المدينة) ظروفاً أشد، من أجل توفير لقمة العيش لنا".
من جهته، يؤكد نبيل الذي ترك زاكورة منذ سنوات واتجه إلى مدينة أكادير، أن العطش الذي يخيم على معظم مناطق الإقليم كان سبباً مباشراً في إفراغ عدة مناطق من ساكنيها، موضحاً أن "لا أحد يتحمل العيش في ظروف كهذه، خاصة أن الأزمة لا يمكن اختصارها في ندرة الموارد المائية فقط، بل أيضاً في انعدام فرص الشغل ووسائل العيش الكريم وسوء البنى التحتية".
وضعية مائية مقلقة
يعتبر المغرب واحداً من أفقر البلدان في العالم من حيث الموارد المائية، إذ تقدر حصته منها بقرابة 22 مليار متر مكعب في السنة، أي ما يعادل 700 متر مكعب لكل فرد سنوياً، وفقاً لمعطيات صادرة عن وزارة التجهيز والماء.
ووفقاً لنفس المصدر، فإن الموارد المائية السطحية في المملكة تقدر في السنة المتوسطة بمقدار 18 مليار متر مكعب، وهي موزعة بشكل غير متساوٍ بسبب التفاوت الكبير في التساقطات المطرية، إذ تحتوي أحواض شمال المغرب على أكثر من نصف الموارد المائية في المملكة، بينما تقل كميات المياه السطحية الجارية بالنسبة للأحواض الأكثر جفافاً مثل الأحواض الصحراوية.
إنه الموعد المقدس الذي ينتظره الجميع. لا أحد يغادر منزله عندما يحين وقت التزويد بالماء، خاصة النساء والفتيات، إذ ننتظر ملء الدلاء واحداً تلو الآخر من أجل توفير مياه الشرب والاغتسال والتنظيف وغير ذلك. هذا الموعد هو أهم من أي شيء آخر نقوم به في اليوم
مقابل ذلك، تمثل المياه الجوفية حوالى 20% من الموارد المائية التي يحصل عليها المغرب، ويبلغ حالياً مخزون المياه الجوفية القابلة للاستغلال 4.2 مليار متر مكعب في السنة.
وبالنسبة لإقليم زاكورة، فهو يقع في جهة درعة تافيلالت، التي تشهد أحواضها المائية عجزاً في التساقطات المطرية ونقصاً في الواردات المائية، حسب ما جاء في جواب لوزير التجهيز والماء نزار بركة على سؤال كتابي وجّه إليه حول الموارد المائية بالإقليم.
وأكد الوزير في رده أن نسبة العجز في التساقطات المطرية بجهة درعة تافيلالت بلغت حوالى 45% خلال عامي 2021 و 2022، ذلك لأن هذه الجهة تعيش جفافاً هيكلياً وبنيوياً للسنة الرابعة على التوالي، وفق تعبيره.
خلفيات الأزمة وتداعياتها
يشير رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في زاكورة إبراهيم رزقو إلى أن "أزمة الماء بالإقليم ليست وليدة اليوم، بل هي ممتدة لسنوات نتيجة تضافر عوامل عدة، من بينها توالي سنوات الجفاف وعدم اهتمام المسؤولين بوضع خطة إستراتيجية بعيدة المدى للحفاظ على الموارد المائية في المنطقة، فضلاً عن انتشار الزراعات البديلة التي أثرت على الموارد المائية، خاصة زراعة البطيخ بنوعيه الأحمر والأصفر".
يعاني البعض من مشاكل صحية جراء ضعف المياه ورداءتها.
وفي حديثه لرصيف22، أوضح رزقو أن "أزمة الموارد المائية في زاكورة تتخذ بعدين أساسيين، أولهما ندرة الماء في عدد من المناطق التي تزود بهذه المادة بشكل متقطع مثل كتاوة وتنزولين، فيما يرتبط البعد الثاني برداءة جودة المياه في مناطق أخرى مثل تزارين، إذ تكتسب لوناً أصفر يجعلها غير صالحة للشرب بتاتاً".
وأكد أن تداعيات هذه الأزمة طالت سكان الإقليم بدرجات متفاوتة، إذ يهاجر الكثيرون نحو المدن الكبرى مثل أكادير ومراكش والدار البيضاء حيث يشكلون ما أسماه "هوامش الفقر"، فيما يعاني آخرون من مشاكل صحية جراء ضعف المياه ورداءتها، علماً أن معظمهم لا يستفيدون من حقهم في العلاج والاستشفاء بسبب تردي الواقع الصحي في الإقليم.
ويشير رزقو إلى أن "بعض الجمعيات تحاول التخفيف من حدة أزمة العطش ضمن مجموعة من الوحدات الإدارية، عبر تزويدها بالماء الصالح للشرب، وذلك عن طريق حفر الآبار استعانة بتبرعات المحسنين والسكان، أمام عجز المنتخبين والسلطات المحلية والإقليمية عن القيام بأدوارها".
ويعتبر أحمد النجار واحداً من الفاعلين الذين يضطلعون بجهود تزويد الماء الصالح للشرب على مستوى جماعة تنسيفت، وذلك بتأسيسه جمعية مدنية سنة 2000 بدعم من مكتب منظمة اليونيسيف في المغرب.
وعن هذه التجربة يحكي أحمد لرصيف22: "ما دمنا حيين خاصنا نخدمو بلادنا... هذا واجب علينا"، مضيفاً أن "الجفاف وشح الموارد المائية كانا سبباً رئيسياً في تأسيس هذه الجمعية، إذ لم يكن الناس يجدون ماء يرتوون به".
ويوضح أن "مكتب اليونيسيف في المغرب زود الجمعية بالمعدات والموارد المالية اللازمة، فيما وفر شباب المنطقة اليد العاملة وساهموا جميعاً في حفر أول بئر مكّنتنا من تزويد دوار تكيت بالماء الصالح للشرب، ثم قامت الجمعية بدعم من سلطات المنطقة، بحفر بئرين إضافيتين لتزويد كل من دوار البرج والروضات بالماء، وهو الأمر الذي استحسنه الناس".
ويضيف أحمد أن الجمعية عيّنت مراقباً للإشراف على الآبار التي تم حفرها، وضمان تزويد الدوائر المعنية بالماء الصالح للشرب دون انقطاع، وهي التجربة التي استلهمتها دوائر أخرى شهدت تأسيس جمعيات للماء الصالح للشرب بدعم من المحسنين والمتعاونين.
الإجراءات الحكومية المتخذة
في محاولة منها لاحتواء أزمة الماء في إقليم زاكورة، اتخذت الحكومة مجموعة من الإجراءات، من بينها إنجاز محطة لتحلية المياه بهدف تقوية تزويد مدينة زاكورة بالماء الصالح للشرب، وقد شرع في استغلالها سنة 2018، كما تم تشييد سد أكدز الذي تبلغ سعته الإجمالية 317 مليون متر مكعب بهدف دعم البنية التحتية المائية بالإقليم.
أزمة الماء ليست وليدة اليوم، بل هي ممتدة لسنوات نتيجة تضافر عوامل من بينها توالي سنوات الجفاف وعدم اهتمام المسؤولين بوضع خطة إستراتيجية بعيدة المدى للحفاظ على الموارد المائية، فضلاً عن انتشار الزراعات البديلة التي أثرت على الموارد المائية، خاصة البطيخ
إلى ذلك، أصدر عامل إقليم زاكورة فؤاد حجي قراراً يقضي بتقنين استغلال زراعة البطيخ بنوعيه الأحمر والأصفر، وذلك عبر تحديد المساحة القابلة للاستغلال في الزراعة مساحة تراوح بين نصف هكتار وهكتار كحد أقصى لا يمكن تجاوزه، خلال الموسم الفلاحي الحالي 2023/2022. ويشدد هذا القرار الذي اتخذ في سياق الوضع المائي الذي تعانيه المنطقة على تفعيل المتابعة القانونية في حق كل من لم يتقيد بمقتضياته من الفلاحين والمزارعين.
ويثمن إبراهيم رزقو هذه الإجراءات، لكنه يشدد على ضرورة تفعيل المراقبة وتتبع مدى الالتزام بها من قِبل الجهات المعنية، مشيراً إلى أن "زراعة البطيخ على سبيل المثال تواصل انتشارها بالإقليم بشكل عشوائي، رغم القرار الصادر بهذا الشأن، وذلك بفعل غياب الصرامة اللازمة في تنزيل القرار على أرض الواقع وضمان احترامه من قِبل الجميع"، وفق تعبيره.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون