على ساحل شط العرب في محافظة البصرة، أقصى جنوب العراق، يجلس محمد السوداني، على مصطبة خشبية، يلاعب بيديه مسبحةً ورثها من أبيه، كما ورث منه بستان النخيل الذي تمتلكه عائلته منذ أكثر من 200 عام.
"كانت أراضينا عامّرةً بخضار نخيلها"، يقول لرصيف22. "نخرُج منذ باكر الفجر حتى مغيب الشمس، جُهداً وسَعياً إلى رعايتها، ولكن يقيننا بحصد مردود هذا التعب وقت الحصاد، ويخفف عنا وطأته، فغلال التمر ستُباع في الأسواق أو للمصانع، وقد تشتريها الحكومة منا وتصدّرها إلى الخارج، ولكن الأمور تغيرت بعد عام 2003، وتحولت الخضراء العامرة إلى خاوية على عروشها".
كان محمد قد ورث 40 دونماً من أبيه بعد وفاته، يحتل النخيل منها 30 دونماً، وخُصّص الباقي للفواكه الموسمية والخضروات، ولكن مساحة أرضه تراجعت بشكل كبير خلال السنوات الماضية، نتيجةً للجفاف وصعوبة توفير احتياجات إدامتها، حتى أصبح مجموع أرضه المزروعة 5 دونمات فقط، دونمان منها للنخيل، فيما زرع في باقيها همومه، فلا أسواق تشتري وما من اهتمام حكومي يبعد عنه جوع الغد.
كانت أراضينا عامّرةً بخضار نخيلها، ولكن الأمور تغيرت بعد عام 2003، وتحولت الخضراء العامرة إلى خاوية على عروشها.
شجرة مباركة
عُرف العراق بنخيله منذ قدم التاريخ، ومجّدته حضاراته كونه شجرةً مباركةً، وأولت لزراعته أهميةً كبيرةً، حتى اتسعت رقعتها، ومنها اكتسب لقب "أرض السواد" لامتلاء أراضيه بالنخيل والزرع. ويضم المتحف العراقي في بغداد دليلاً من دلائل هذا الاهتمام، يتمثل في ختمٍ يرجع تاريخه إلى العصر الآكدي عام 2،730 قبل الميلاد، رُسم عليه رجلان بينهما نخلة مثمرة.
القدسية التي أُحيطت بالنخيل، أشارت إليها "مسلّة حمورابي" أيضاً، إذ ضمت قوانين تنظّم كيفية زراعتها ووسائل العناية بها، وحددت غرامةً بلغت 225 غراماً من الفضة على قطع النخلة الواحدة في المادة 58، كما أشارت في مادتها الخامسة والستين إلى دفع إيجار بستان كامل، إذا أُهمل النخيل وتراجع إنتاج تمره. ويقال إن الخليفة العباسي هارون الرشيد، كان يردد دائماً أن كل الذهب والفضة على وجه الأرض، لا يعادل ثمن نخيل البصرة.
وزُرِعَ النخيل بشكل رئيسي في 13 محافظةً في وسط البلاد وجنوبها، وأولته الحكومات السابقة أهميةً نظراً إلى تأثيره على الاقتصاد المحلي والناتج القومي للدولة، وأقرّت قوانين عدةً تحفز على تطوير هذه الزراعة والعناية بها، ومثالاً فقد أصدر مجلس قيادة الثورة المنحل عام 1979، قانوناً يقضي بمنح أراضي الدولة الزراعية لمستأجرها، إذا زرعها بخمسين شجرةً مثمرةً، من بينها النخيل، في الدونم الواحد.
أدّت مثل هذه العناية إلى تصدّر العراق قائمة الدول المنتجة للتمور، وتنوّعت أصنافه إلى أكثر من 600 نوع، بعضها نادر الإنتاج. وتشير الإحصائيات الحكومية السابقة إلى أن العراق أنتج في الفترة من عام 2000 وحتى عام 2003، أكثر من 800 ألف طن من التمور سنوياً، تنتجها نحو 33 مليون نخلة.
هذا الواقع تغيّر بعد عام 2003، وتناقصت نسب إنتاج التمور بالإضافة إلى تراجع المساحات المزروعة بالنخيل، إذ تشير الإحصائيات الحكومية الى أن أعداد النخيل تراجعت الى 12 مليون نخلة، كما تراجع إنتاجه ليبلغ نحو 450 ألف طن سنوياً، بين عامي 2005 و2009.
كان محمد قد ورث 40 دونماً من أبيه، يحتل النخيل منها 30 دونماً، وخُصّص الباقي للفواكه الموسمية والخضروات، ولكن مساحة أرضه تراجعت بشكل كبير نتيجةً للجفاف وصعوبة توفير احتياجات إدامتها، حتى أصبح مجموع أرضه المزروعة 5 دونمات فقط، دونمان منها للنخيل
إهمال حكومي
أعلنت الحكومة العراقية في تصريحات صحافية، أن زراعة النخيل تصاعدت خلال العام 2022، لتبلغ 17 مليون نخلة، وتجاوزت نسب إنتاجها من التمور حاجز الـ700 ألف طن عام 2020، ولكن تضارب التصريحات بأعداد ونسب إنتاج النخيل، دفع مصدراً مسؤولاً في وزارة الزراعة، إلى وصفها بـ"غير الدقيقة"، ويقول: "هذه الإحصائيات تخالف الواقع الزراعي الذي نراه، كما تخالف تقارير الفرق الميدانية الدورية، والتي تؤكد استمرار تراجع المساحات المزروعة بشكل عام، والنخيل على وجه الخصوص، لتبلغ نسبة هذا التراجع أكثر من 60% نسبةً إلى مساحتها قبل عام 2003".
ويضيف في تصريحه لرصيف22، أن الأسباب السياسية تقف خلف التلاعب بهذه الإحصائيات، ويدرجها ضمن محاولات إيهام الرأي العام بأن الاقتصاد العراقي لا يعتمد على الريع النفطي فحسب، ويسند رأيه إلى توقيت التصريحات التي أُطلقت في أوج أزمة الاقتصاد العالمية المصاحبة لجائحة كورونا عام 2020، وتراجع أسعار النفط.
التلاعب الحكومي لا يقتصر على الأرقام المعلنة، ويشمل أيضاً إهمالاً كبيراً طال قطاع زراعة النخيل في البلاد، وأدى إلى تراجع نسبة الأراضي المزروعة فيها، بسبب عدم جدية الدولة في علاج أزمة ضعف الواردات المائية، التي سببت زيادةً مطردةً في ملوحة الأراضي، وتراجع زراعة الكثير من أنواع النخيل.
عدم مد القطاع الزراعي بمستلزمات البحث والدراسات المختصة بحماية النخيل، هو أحد أوجه إهمال الدولة لهذا الجانب، بالإضافة إلى تردّي نسب الدعم المادي للفلاحين وملاكي الأراضي الزراعية، وفرض ضرائب كبيرة على الأسمدة والمبيدات، وهو إجراء أدى إلى زيادة كبيرة في أسعارها، وتالياً تراجع الزراعة وأعداد العاملين فيها في آن واحد، واتجاههم إلى بيع أراضيهم أو تحويلها إلى أراضٍ سكنية، أمام أنظار الجهات المختصة.
أهمية النخيل
مطالب إيلاء الأهمية للنخيل تتزايد يوماً بعد آخر، وهي لا تنبع من فراغ، فالأثر المادي الذي قد تضفيه هذه الشجرة إلى اقتصاد البلاد المتردي، يدفع إلى التركيز على هذه الطلبات.
يمتلك العراق حالياً نحو 20 مليون دونم صالح للزراعة ولكن معظم هذه الأراضي مهملة وبحاجة إلى استصلاحها.
زراعة النخيل قد تضفي مردوداً مادياً مهماً، ولكن ضخامة هذا الوارد متعلقة بعودة نسب الإنتاج الى حاجز الـ30%، فيما لا تتجاوز نسبتها الحالية 6% من الناتج القومي العراقي، بحسب الباحث المختص بالاقتصاد الزراعي، صباح السعدون.
ويلفت في تصريحه لرصيف22، إلى أن العراق يمتلك نحو 627 صنفاً من التمور، منها أكثر من 50 نوعاً تجارياً، تُعدّ من أكثر الأنواع المطلوبة عالمياً، وهو تنوع ضخم إذا ما قورن بالأصناف التي تزرعها باقي الدول المنتجة للتمور في المنطقة، ومن هذه الأصناف، التمر الخستاوي والحلاوي والزهدي والبرحي. بعض هذه الأنواع قادرة على تحمل الجفاف والملوحة والصقيع، بالإضافة الى كونها سريعة النمو، وتالياً من الممكن أن تحقق عوائد اقتصاديةً سريعةً ومضمونةً، إذا ما اعتُني بها.
هذه الفوائد لا تقتصر على الناتج المالي الذي ينتج عن بيعها وتصديرها، ولكن تساهم أيضاً في القضاء على البطالة، ليس للعاملين في مجالها فحسب، ولكن نتيجةً لدخولها في العديد من الصناعات المحلية مثل الأخشاب والزينة والحصائر، بالإضافة إلى كبسها وتعبئتها، أو دخولها في صناعات السكّر السائل والدبس والخل أو الأعلاف.
بيئياً، للنخيل فائدة عظيمة زراعياً، إذ تُعدّ هذه الأشجار الغطاء الأمثل لحماية أشجار الفواكه من الحرارة في مناطق وسط البلاد وجنوبها، بالإضافة إلى دورها في تخصيب التربة وتثبيتها، ومن ثم ردع أزمة التصحر وصد العواصف الترابية التي ازدادت مؤخراً.
حلول في مواجهة الإهمال
يمتلك العراق حالياً نحو 20 مليون دونم صالح للزراعة بشكل أو بآخر، ولكن معظم هذه الأراضي مهملة وبحاجة إلى استصلاحها، وتالياً، فإن الحلول لا تزال ممكنةً حالياً.
أولى خطوات الحل تكمن في عودة الدعم الحكومي إلى القطاع الزراعي، بحسب السعدون، وتبدأ من تقليل أسعار الأسمدة والمبيدات، وإطلاق القروض الميسّرة، وفق خطة وشروط مبنية على التزام الفلاحين باستثمار أراضيهم والعناية بها.
فوائد زراعة النخيل لا تقتصر على الناتج المالي، ولكن تساهم أيضاً في القضاء على البطالة، ليس للعاملين في مجالها فحسب، ولكن نتيجةً لدخولها في العديد من الصناعات المحلية مثل الأخشاب والزينة والحصائر، وصناعات السكّر السائل والدبس والخل أو الأعلاف
تطبيق وسائل الري الحديثة من أبرز الحلول المطروحة حالياً أيضاً، نظراً إلى تراجع مناسيب المياه المستمر في البلاد، ومن ثم فإن اعتماد طرق الزراعة النسيجية، والري بالتقطير، هما من أكثر الوسائل نجاحاً في مثل هذه الظروف، ولكن هذا الجانب يحتاج إلى دراسات وبحوث بدوره يفتقر إليها العراق حالياً.
"سبق أن طُرحت هذه الحلول جميعها عبر الجمعيات الزراعية، ولكن تجاهل مسؤولي الحكومة إياها، زرع اليأس بدلاً من النخل"، بحسب عمر خالد، وهو أحد مزارعي النخيل في محافظة كركوك.
ويؤكد خالد، لرصيف22، أنه سبق له أن وكّل محامياً لتحويل جنس الأرض التي يملكها مع إخوته ومساحتها 70 دونماً، من أجل بيعها كأرض سكنية. ويشبّه هذه الخطوة بغرس السكين في قلبه، ويستدرك قائلاً: "الخطوة لم تكن خياراً، بل كانت تحدياً بين الحياة أو الموت، في هذه الأرض، جوعاً".
لا ينكر أحد وجود محاولات حكومية لاستصلاح قطاع زراعة النخيل، ولكن تناقضات هذه المحاولات المستمرة، تجعل من الصعب إقناع الفلاحين بالتمسك بأراضيهم، أو ثنيهم عن هجرتها، وعلى العموم، فإن مستقبل أشجار النخيل الباسقات لا يبشّر بخير في العراق، كحال مستقبل البلاد بأسرها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع