شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"الهواء أصبح مسموماً"... التلوّث قاتل صامت يهدّد اللبنانيين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الخميس 20 أبريل 202301:02 م

سألت صديقي الذي كان شغوفاً بالزراعة، وكان يهتم بأرضه طوال السنة: "لماذا لم تزرع هذا العام؟"، فأجاب: "لماذا أزرع وأنا في كل موسم أتكبّد خسائر فادحة؟ فكل الشتول التي أزرعها وعلى الرغم من استعمال الأدوية لها لا تعيش، يضربها المرض وتموت، وعندما أسأل يقولون لي بسبب الهواء. ربّما الهواء أصبح مسموماً وبات يقتل زرعي".

هكذا يستشعر هذا المزارع تلوث الهواء من خلال زرعه الذي يموت بعد عدّة أيام، ولكن هل يعرف هو نفسه وكل اللبنانيين طبيعة الهواء الذي نتنفس؟

كثيرة هي الدراسات المرتبطة بالتلوث وخصوصاً تلك المتعلّقة بتلوّث المياه والتربة، نظراً لسهولة فحصها والتأكد من جودتها بمساعدة المختبرات العلميّة المتخصصة التي باتت متوفّرة في معظم دول العالم. أما تلوّث الهواء فقلّما يجري الحديث عنه نظراً لصعوبة رصده، إذ يحتاج إلى أجهزة حديثة لا تمتلكها معظم الدول، خاصة النامية.

كل الشتول التي أزرعها لا تعيش، يضربها المرض وتموت، وعندما أسأل يقولون لي بسبب الهواء.

النقل والمولدات والنفايات

أسباب تلوّث الهواء في لبنان كثيرة، ولعلّ أبرزها قطاع النقل، ومحافر التراب التي تأكل الجبال، ومكبات النفايات التي تشتعل فترات طويلة وتبث السموم في الهواء.

وما زاد الطين بلّة انتشار مئات المولدات الخاصة لتغطية عجز الدولة عن تأمين الكهرباء، فلا يكاد يخلو شارع في بيروت والمدن الكبرى وكذلك القرى والبلدات من المولدات الخاصّة، التي وُضعت بشكل عشوائي وغير مدروس، وفي الكثير من الأحيان على تماس مباشر مع المنازل والمجمعات السكنية، تحت ذريعة ضرورة تأمين الكهرباء، ويتنصّل العديدون من أصحاب المولدات من تركيب فلاتر أو منقيات للهواء على مداخنها لتخفيض الانبعاثات السامّة والملوّثة.

يشير البروفيسور ماهر عبّود وهو أستاذ الكيمياء ومدير الوحدة البحثية في جامعة القديس يوسف في حديث لرصيف22، إلى أن أبرز ملوثات الهواء هو ثاني أوكسيد النيتروجين NO2 ، إذ إن 70% منه يأتي بسبب عمليّات حرق الخشب والوقود والنفايات، كذلك الانبعاثات الناتجة عن قطاع النقل والمولدات. ويلفت إلى أن نسبته خاصة في المدن اللبنانية تتخطى ما هو مسموح به من منظمة الصحة العالمية، أما إذا توجّهنا نحو المناطق التي تحتوي على كميّات كبيرة من الأشجار فنرى أن النسبة أقل من تلك التي في المدن.

ويضيف: "نسبة ثاني أوكسيد النيتروجين يجب ألا تتجاوز 10 ميكروغرامات بالمتر المكعب عالمياً، أما لدينا فهي بين الخمسين والسبعين ميكروغراماً كمعدلات سنويّة، وهي نسبة مرتفعة جداً".

إلى ذلك، هناك الغبار الدقيق، والجسيمات التي لا يمكننا أن نراها بالعين المجرّدة وتكون في الهواء على شكل تجمّعات تأتي من رياح غبار الصحراء، والغبار المتطاير من أعمال البناء، وأيضاً الغبار الناتج عن حرق النفايات واحتراق الوقود في السيارات، والذي تخرج منه مواد غير مرئية تتطاير في الهواء على شكل فقاعات مجهرية، وداخلها جزيئات من الكربون والآزوت ومئات المواد والمركبات الكيميائية الخطرة.

أسباب تلوّث الهواء في لبنان كثيرة، ولعلّ أبرزها قطاع النقل ومحافر التراب، ومكبات النفايات التي تشتعل فترات طويلة وتبث السموم في الهواء، وما زاد الطين بلّة انتشار مئات المولدات الخاصة لتغطية عجز الدولة عن تأمين الكهرباء، والتي وُضعت بشكل عشوائي وغير مدروس

كلفة اقتصادية وصحيّة

يؤكد عبود أن هذه الفقاعات الصغيرة جداً تبقى في الهواء بمستوى وجه الإنسان ولا تنزل على الأرض، فعندما يتنفس تدخل مع الشهيق إلى الجهاز التنفسي لتصل إلى الرئتين، ولأنها مواد دقيقة جداً تنتقل إلى الدم وتدخل إلى الخلايا وتعمل على تخريب نواة الخلية وطريقتها التكاثرية. ولا تخرج بالزفير وإنما تتكدّس في الجسم، وبعد عدة سنوات من التعرض الدائم لهذا الهواء الملوّث، تظهر لدينا مشكلات في أجسامنا من خلال عدم انتظام عمل الخلايا، أي تتحول إلى أنواع مختلفة من السرطانات.

ويشير رئيس قسم الربو والأمراض الصدرية والعناية الفائقة في مستشفى الساحل في بيروت الدكتور غسّان سرحال إلى أن الأمراض الصدرية ارتفعت في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، وخاصة عند الأطفال، ويمكن أن نعزو هذه الزيادة إلى تلوّث الهواء بشكل كبير، وحتّى بسبب الملوثات الأخرى التي يتعرّض لها السكان. ويلفت إلى ضرورة إجراء الدراسات العلميّة الدقيقة لتحديد هذا الرابط بين الملوثات والأمراض الصدرية وسرطان الرئة.

وبحسب تقرير نشرته منظمة "غرين بيس" المعنية بقضايا البيئة عام 2020، فإن عدد الوفيّات المبكرة في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يقدر سنوياً بحوالى 65.000 حالة جرّاء تلوّث الهواء الناجم عن الوقود الأحفوري، وفي لبنان تحديداً بلغ متوسط العدد التقديري للوفيات المبكرة المرتبطة بهذا السبب 2700 حالة عام 2018، وتعتبر بذلك من أعلى المعدلات في المنطقة بعد مصر.

أما اقتصادياً، فقد كشف التقرير أن الكلفة الاقتصادية التي تتكبدّها دول العالم من تلوّث الهواء مرتفعة جداً، فهي وصلت في لبنان إلى 1.4 مليار دولار أميركي سنوياً، أي 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي.

مراكز رصد خارج الخدمة

يدفع لبنان فاتورة باهظة بسبب تلوّث الهواء، ولهذا شرّع باكراً القوانين التي تضمن سلامته وجودته، وهذا ما بدا واضحاً في قانون حماية البيئة 444 الصادر عام 2002، فقد خصص الفصل الأول في الباب الخامس منه تحت عنوان "حماية الهواء ومكافحة الروائح المزعجة" بمادتيه 25 و26 اللتين تنصان على المحافظة على نوعية الهواء والتحكّم بالانبعاثات. وأتى قانون حماية نوعيّة الهواء الصادر عام 2018 بثلاثة وثلاثين مادة علامة فارقة للوقوف على الواقع المزري الذي وصل إليه الهواء.

نسبة ثاني أوكسيد النتروجين خاصة في المدن اللبنانية تتخطى ما هو مسموح به من منظمة الصحة العالمية.

كما استحدث لبنان عبر وزارة البيئة، بالتعاون مع منظّمات غير حكومية وجامعات عدّة محطات لرصد نوعية الهواء، وهي عبارة عن أجهزة حديثة وحواسيب وأجهزة استشعار تجمع البيانات حول نوعية الهواء وجودته على مدار الساعة وعلى مدار أيّام السنة، وبمساعدة المختصين والخبراء تحلّل هذه البيانات لتنبى الدراسات على أسس علميّة وبيانات دقيقة. بلغ عدد محطات رصد نوعية الهواء 15 في بيروت والحدث وزحلة وبعبدا وصيدا وطير دبا والشوف والنبطية ودير عمار وبرجا والسبتية، إلى ثلاث محطات لرصد الجسيمات الدقيقة.

كانت جميع هذه المحطات ترفد الوزارة بالمعلومات عن نوعيّة الهواء، إلا أنها توقّفت عن العمل منذ عام 2019 بحسب معلومات حصل عليها رصيف22، لعجز الدولة عن تأمين الكلفة التشغيلية لها، ما يعني خروجها عن الخدمة في عين الأزمة.

من أين يبدأ الحل؟

بما أن قطاع النقل هو أكبر مصدر لتلوث الهواء في لبنان فإن الحل يبدأ بإصلاحه، ووفق الناشط في جمعية حقوق الركاب شادي فرج، فإن "قطاع النقل يساهم بما نسبته 23٪ من عوامل تلوث الهواء في لبنان، والمعضلة الأكبر هي بوجود 1.7 مليون سيارة خاصة في البلاد، وهو عدد كبير جداً، والمطلوب اليوم العمل على سياسة واعية للنقل المشترك لتخفيف أعداد السيارات".

ويرى فرج أن النقل المستدام يساعد على تخفيف التلوث، فإذا تم تطوير النقل المشترك الموجود ووصلت مساراته لمختلف المناطق، بعدها يتم العمل على استحداث القطارات والباصات الكهربائية وغيرها من وسائل النقل الحديثة لتصبح بمتناول الجميع، إذ ذاك سيعمد الناس إلى استخدام هذه الوسائل بعيداً عن السيارات الخاصة. ويشير إلى ضرورة نشر الوعي والثقافة للتعريف بأهمّية النقل المشترك وأهمية استخدام الدراجات الهوائية خصوصاً في المدن، من أجل ترك السيارات في البيوت واعتماد وسائل نقل صديقة للبيئة.

وينوّه فرج بأن قطاع النقل المشترك يجب أن يكون ضمن إستراتيجية وطنية، ويلفت إلى دور البلديات واتحادات البلديّات من خلال صلاحياتها في استحداث وسائل للنقل ضمن نطاقها للتخفيف عن كاهل سكّانها.

إذا تم تطوير النقل المشترك الموجود ووصلت مساراته لمختلف المناطق، بعدها يتم العمل على استحداث القطارات والباصات الكهربائية وغيرها من وسائل النقل الحديثة لتصبح بمتناول الجميع، إذ ذاك سيعمد الناس إلى استخدام هذه الوسائل بعيداً عن السيارات الخاصة

وتؤكد كل الخطط التي وضعتها وزارة البيئة والمنظمات الدولية المتعاونة مع لبنان على هذه الفكرة، كون قطاع النقل هو المسبب الأكبر لتلوث الهواء في لبنان، لكن جميع الخطط التي وضعت لتطوير هذا القطاع ما زالت حبيسة الأدراج وهناك ضرورة عاجلة لتطبيقها.

وبحسب مصدر في وزارة البيئة، فإن هناك ضرورة للتشدد في تطبيق قانون حماية نوعيّة الهواء، وتحديث المعايير بشكل مستمر بما يتناسب مع الواقع، كذلك التركيز على اعتماد الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية للتخفيف من استعمال المولدات. ويشدد المصدر على ضرورة تجديد أسطول السيارات وتشجيع السيارات الهجينة والكهربائية، والتركيز على تطبيق خطط النقل العام.

كما يدعو المصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه، إلى تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لإدارة حرائق الغابات، لما تسببه من انبعاثات في الجو، مع التركيز على خطورة فقدان لبنان للغطاء الأخضر، كذلك نشر الوعي بين الناس لأهمية حماية الغابات وتأمين وسائل التدخل السريع لإخماد النيران في حال حدوثها.

بدورة يلفت البروفيسور ماهر عبود إلى أن وزارة البيئة أجبرت أصحاب معامل الأتربة على وضع منقيات للهواء على المداخن، مع مراقبتهم بشكل دوري، ويرى أن هذا الأمر يجب أن يطبق أيضاً على كل مولدات الكهرباء، وتجب مراقبتها للتأكد من أن أصحابها ملتزمون بوضع الفلاتر المناسبة للحد من الانبعاثات التي تدمّر صحّة الناس.

كذلك يدعو إلى ضرورة غرس الأشجار في المدن والقرى، لأنها تمتص الملوثات والغبار بواسطة أوراقها، وتالياً يمكن أن تساهم في تنقية الجو من عدد كبير من الجسيمات المؤذية والملوثة.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image