يتميّز لبنان عن كثير من البلدان العربية بغناه بالمياه الجوفية والسطحية، وتمتعه بسبعة عشر نهراً ترفده بالمياه صيفاً وشتاءً، ولعلَّ النهر الأهم بينها هو "الليطاني"، كونه الأكبر، بطول 170 كلم، والأهم من ذلك أنه يعبر الخريطة اللبنانية من شمالها الشرقي إلى جنوبها الغربي، فينبع من نبع العلّاق في بعلبك ويصب في منطقة القاسميّة في الجنوب، عابراً عشرات المدن والبلدات.
هذه الميزة جعلت من النهر نقطة جذب واستقطاب، فمياه النهر الغزيرة يعتمد عليها مزارعو البقاع في ري مزروعاتهم، كذلك تُستخدم مياهه في الأعمال اليومية، بالإضافة إلى تحوّل ضفتيه إلى مقصد للسياح في فصل الصيف للاستمتاع بمياهه العذبة. وعند مجراه في منطقة القرعون، بُني سد عام 1969، بارتفاع 61 متراً، وهو أكبر سدود البلاد، حيث تشكّلت بحيرة القرعون، وتنتج من السد طاقة كهرومائية تغذي عشرات البلدات بالتيار، كما تستخدم مياه البحيرة للري والاستعمالات المنزلية.
تتعدد أسباب تلوث مياه الليطاني وهي مستمرة منذ سنوات طويلة.
بفعل الفوضى وسوء إدارة الملف القطاع المائي منذ عقود، تعرض النهر للعديد من الاعتداءات والملوثات، فتحولت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية المحيطة به إلى مناطق صناعية بطرق غير قانونية، وانتشرت فوضى الصرف الصحي واهتراء الشبكات وعدم اعتماد خطة علمية لمعالجة المياه المبتذلة والمياه الصناعية. هذا كله أدى إلى تلوث الليطاني تدريجياً، الأمر الذي حوله مع بحيرة القرعون إلى مساحات موبوءة بالأمراض، ما بات يدفع الأهالي إلى الهروب من مجرى النهر، للنجاة بحياتهم.
وفي هذا السياق، أكّد ابن بلدة المرج في البقاع الغربي، خالد درويش، في حديثه إلى رصيف22، أن سكان بلدته والبلدات المجاورة يعيشون على تماس مع مجرور للصرف الصحي، والمتمثل في نهر الليطاني، لافتاً إلى أن التلوث يطال المياه والتربة والهواء.
ويضيف: "أصيب عدد كبير من أهالي بلدتي بالسرطان جراء هذا التلوث. من عائلتي وحدها هناك 12 إصابةً بالسرطان من أعمامي وأولادهم، والكثير من العائلات التي تقطن إلى جانب النهر غادرته إلى أماكن أبعد بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منه، والتي تشتد كثيراً في فصل الصيف".
وناشد درويش الدولة التحرك لمعالجة هذه الأزمة الإنسانية والوطنية والتي لم تعد تُحتمل. وحسب قوله، فإن وفداً من الاتحاد الأوروبي زار النهر ورأى سلاحف من النوع الذي لا يعيش إلا في الظروف البيئية الملوثة، ما يدل على خطورة الوضع واستفحاله.
تلوث "كارثي"
تتعدد أسباب تلوث مياه الليطاني وهي مستمرة منذ سنوات طويلة، وأهم هذه الملوثات وفق حديث خبراء، وأيضاً تبعاً لما تورده المصلحة الوطنية لنهر الليطاني على موقعها الرسمي:
1- مياه الصرف الصحي والنفايات الناتجة عن عشرات المدن والبلدات والتجمعات السكانية، والتي تصب مباشرةً في النهر، بالإضافة إلى المياه الناتجة عن المستشفيات والمعامل والمسالخ والدباغات، والتي تُرمى في مجراه.
تعرض النهر للعديد من الاعتداءات والملوثات، فتحولت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية المحيطة به إلى مناطق صناعية بطرق غير قانونية، وانتشرت فوضى الصرف الصحي واهتراء الشبكات وعدم اعتماد خطة علمية لمعالجة المياه المبتذلة والمياه الصناعية
2- رمي النفايات الصلبة في مجرى النهر، مع غياب خطط الفرز من المصدر وخطط إعادة التدوير، بالإضافة إلى استعمال المبيدات الحشرية في الزراعة وتسرّبها إلى الآبار الجوفية التي تغذيه.
3- الانتشار العشوائي للآبار الارتوازية في محيط النهر، والتي أدّت إلى انخفاض منسوب المياه المتدفّقة إلى مجراه.
4- مخلفات الاستراحات السياحية.
هذا كله أدى إلى تحويل مياه أكبر نهر في لبنان، من مياه عذبة كانت تصلح للشرب، إلى مياه آسنة معدومة الحياة، هجرتها الحياة النهرية والبرية، وأصبحت تشكل خطراً حقيقياً على الإنسان، كذلك غدت بحيرة القرعون مجمّعاً ضخماً للمياه الآسنة والمواد والمعادن السامة، نفقت على إثرها عشرات الأطنان من الأسماك منذ قرابة عام، وبحسب معايير منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة التابعتين للأمم المتحدة، فإن مياه نهر الليطاني في الحوض الأعلى، لا تزال غير مطابقة للمعايير الجرثومية لاستخدامها في ريّ المزروعات.
النفايات في نهر الليطاني - خاص رصيف22
"عندما كنا أطفالاً، كنا نسبح ونشرب ونأكل من سمك النهر. اليوم لا توجد أي حياة مائية بسبب التلوث القاتل"، وفق ما أكّد رئيس بلدية المرج منور الجراح، لافتاً في حديثه إلى رصيف22، إلى أن موضوع التلوث ليس جديداً وإنما قديم منذ خمس وعشرين سنة، إذ تصب مجاري العديد من البلديات المحيطة بالنهر فيه من دون أي معالجة علمية.
معالجة حكومية ناقصة
ولأن قطاع الصرف الصحي ضاغط، وضعت الحكومات اللبنانية المتعاقبة خططاً لإنشاء محطات لمعالجة المياه الآسنة وتكريرها قبل رميها في مجاري الأنهار أو في البحر. ففي عام 1982، أُقرّ المخطط التوجيهي الوطني لقطاع الصرف الصحي ليعاد تحديثه عام 1994، وينص المخطط على إنشاء اثنتي عشرة محطة تكرير كبيرة في المناطق الساحلية، وعشرين محطةً داخليةً، وعدد من المحطات الصغيرة في بعض البلدات ذات الجغرافيا المعقدة.
رفعت المصحلة الوطنية لليطاني دعاوى على معامل ومصانع ومستشفيات وبلديات لتورّطهم في تلويث النهر.
أُنجز عدد من هذه المحطات لكن عدداً كبيراً منها لا يعمل بسبب مشكلات في التشغيل من قبل الشركات المتعهدة، لذا أُسندت هذه المهمة إلى مؤسسات المياه لصيانتها وإدارتها وتشغيلها، وقبل بعضها بالمهمّة في حين رفضها البعض الآخر، لأن المؤسسات لا تمتلك الكوادر المتخصصة لإدارة هذه المشاريع، أو لأن المؤسسات ستكون مضطرةً إلى دفع تكاليف إضافية هي في غنى عنها.
على إثر ذلك، قامت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني بسلسلة خطوات لم يعتد عليها اللبنانيون، إذ رفعت دعاوى على عشرات المعامل والمصانع والمستشفيات والبلديات واتحادات البلديات، لتورّطهم في تلويث النهر، ومنها "شاتو كسارة"، وشركة "مستشفى تعنايل"، وشركة "سهول تعنايل"، وشركة "ألبان وأجبان هدوان"، ومزرعة "عزيز المر"، و"ماستر تشيبس"، و"ميموزا"، وشركة "تبارك وصدارة"، وغيرها، وصدرت أحكام قضائية بإغلاق عدد منها إلى حين معالجة وضعها بيئياً.
ويؤكد مدير عام المصلحة، المحامي سامي علويّة، في حديثه إلى رصيف22، أن المأساة كبيرة، فبالنسبة إلى المصلحة المشكلة في الحوض الأعلى لا زالت على حالها، بسبب جهل البلديات وبسبب تخلي وزارة الطاقة عن مسؤولياتها، لذا ضاعت أراضي البقاع وغرقت المزروعات بالمجارير.
تلوث مياه الليطاني - خاص رصيف22
ويضيف: "أمّا بالنسبة إلى بناء المحطات، فالتمويل موجود، ولكنه مخطوف بين الإنماء والإعمار ووزارة الطاقة والمياه، والرابح الأكبر هو المتعهد لأسباب لا نفهمها ولا نتفهمها، في حين تعجز الدولة عن تنفيذ مشروعات محطات التكرير وتشغيل محطات الصرف الصحي القائمة في مختلف المناطق بسبب نقص الإدارة وفقدان المحروقات".
بدوره، لفت رئيس لجنة الصحة النيابية، النائب عاصم عراجي، وهو ابن بلدة بر الياس البقاعية التي شهدت أعلى نسب أمراض سرطانية في البقاع، إلى برنامج قانون رفع التلوث عن نهر الليطاني الذي عملت عليه جهات عدة لمدة سبع سنوات، وتم تقديمه كاقتراح قانون وتوافق الجميع عليه في العام 2016، مع العلم أنه يشمل كل التفاصيل المطلوبة لمعالجة التلوث.
مع ذلك، لا زال العمل لرفع التلوث عن هذا النهر متأخراً كثيراً كما يقول عراجي لرصيف22: "حتى الآن مشينا فقط بمحطة زحلة لتكرير مياه الصرف الصحي، بعد ضغط شعبي في الشارع، من دون أي إنجازات أخرى".
أصيب عدد كبير من أهالي بلدتي بالسرطان جراء هذا التلوث. من عائلتي وحدها هناك 12 إصابةً بالسرطان من أعمامي وأولادهم، والكثير من العائلات التي تقطن إلى جانب النهر غادرته إلى أماكن أبعد بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منه، والتي تشتد كثيراً في فصل الصيف
الحلول اللازمة لرفع التلوث عن النهر
أولاً - ضرورة أن تدرك السلطة خطورة تلوث النهر، فمعالجته ليست ترفاً وإنما واجب إنساني ووطني، وبذل الجهود لرفع التلوث أفضل وأقل كلفةً من الفاتورة الاستشفائية للمرضى المصابين نتيجة التلوث، وفق ما شدّد منور الجراح.
ثانياً- يجب إعادة تأهيل شبكات الصرف الصحي كي نضمن عدم تسرب المياه الآسنة إلى الآبار الجوفية، وربطها بمعامل التكرير والمعالجة، وفق حديث سامي علويّة.
ثالثاً- ضرورة العمل على إنشاء معامل فرز للنفايات الصلبة للقضاء على ظاهرة المكبات العشوائية التي نراها على ضفاف النهر.
رابعاً- الانتهاء من التلزيمات العشوائية والتنفيعات التي رافقت بناء شبكات الصرف الصحي ومحطّات التكرير، بحسب ما قال علويّة.
خامساً- أن يكون تشغيل هذه المحطات على عاتق هيئات مستقلّة عن مصالح المياه، تضم الخبراء والمهندسين والعمال المدرّبين لضمان حسن سير العمل.
نفوق الأسماك في بحيرة القرعون - خاص رصيف22
سادساً- مراقبة المصانع والمعامل والمسالخ لناحية معالجة النفايات والمياه الناتجة عنها، وإلزامها بوضع الفلاتر والتحقق بشكل دوري من حسن سيرها وفق الضوابط البيئية.
سابعاً- مراقبة النفايات الطبية ومعالجتها بالطرق العلمية لضمان عدم رميها في النهر أو طمرها بشكل عشوائي.
ثامناً- ضرورة خلق وعي بيئي لدى المواطنين عبر الإعلام والمناهج التربوية كي يدركوا خطورة الحال التي وصل إليها النهر نتيجة التلوث، فيصبح كل مواطن مراقباً بيئياً.
تاسعاً- ضرورة إنشاء قضاء بيئي مستقل وضابطة بيئية عملاً بمواد القانون البيئي 444 الصادر عام 2002، لكي تكونا السلطة المراقبة والمحاسبة للعابثين بالأمن البيئي.
لا شك أن تلوث نهر الليطاني من القضايا البيئية الملحة والخطرة، إلا أن معالجتها ليست بالأمر الصعب ولا المستحيل، فمجرد أن تعالج أزمة الصرف الصحي بالطرق العلمية، فإن النهر سيجدد نفسه بفعل الطبيعة، أما ترك الأمور على عاتق وزارة الطاقة ومجلس الإنماء والإعمار، فهذا الأمر لن يجلب إلا المزيد من ضياع الوقت، الذي لن يكون لصالح النهر ولا الطبيعة ولا المواطنين وصحتهم، وربما فقط سيصب في مصلحة أمراء التعهدات الذين يجنون الأموال عند كل إشراقة شمس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...