عند كل استحقاق حكومي، تتصارع الأحزاب السياسيّة والأقطاب الكبرى في لبنان لاقتناص حصّة الأسد من الحكومة، عبر الظفر بالوزارات الدسمة، والتي تنعم بالميزانيات الكبرى، لتعود بالنفع على وزرائها ومن يقفون خلفهم، إلا أننا لم نسمع عن صراع حصل حتى بين الأحزاب ذوات التمثيل الخجول على وزارة البيئة، ويعود ذلك لأسباب عدة على رأسها تصنيف هذه الوزارة في الدرجة الثانية وربما الثالثة، وبميزانيّة خجولة.
هذه النظرة إلى وزارة البيئة، إن دلّت على شيء، فإنها تدل على قصر نظر الحكومات المتعاقبة وجهلها لخطورة الوضع البيئي المتردي في لبنان، والذي يتدهور يوماً بعد يوم، عوضاً عن تعزيز دور الوزارة وتقديم الدعم اللازم لها، للحد من الكارثة التي يعيش اللبنانيون تداعياتها كل يوم، مع عجز حكومي كامل عن القيام بخطوة واحدة نحو الحل.
ميزانية منخفضة
لفت وزير البيئة ناصر ياسين، في حديث خاص برصيف22، إلى أن ميزانية وزارة البيئة منخفضة تاريخيّاً، وفي ظل الأزمة الحالية فإن الموازنة اليوم لا تغطي إلا الأجور والرواتب والأمور التشغيلية البسيطة، ويزيد انهيار الليرة من صعوبة الوضع، حتّى أن بعض الجمعيات البيئية ميزانياتها أكبر من ميزانية الوزارة.
تُصنّف وزارة البيئة في لبنان في الدرجة الثانية وربما الثالثة، وبميزانيّة خجولة.
"وزارة البيئة مهمّشة سياسيّاً وتشريعيّاً وماليّاً"، وفق ما أكّد أستاذ القانون البيئي الدكتور عامر طرّاف، لرصيف22، لافتاً إلى أن ميزانية الوزارة لا تتجاوز 12 مليار ليرة في السنة، والتي لا تساوي اليوم 400 ألف دولار، وليست لديها التجهيزات الكافية أيضًا، حتى أنها لا تملك سيارات تتيح للخبراء التنقل للكشف على المواقع.
قصور حكومي في القضايا البيئية
وحول نظرة الحكومة إلى هذه الوزارة البيئة، أشار ياسين إلى أن القضايا البيئية دائماً لم تكن تُعطى الأولوية لدى الحكومات، وكان يُنظر إلى وزارة البيئة على أنها وزارة صغيرة، مع العلم أنها يجب أن تكون في عمق القطاعات كلها، لأن دورها كبير في تنظيمها، مثل قطاع الطاقة والنقل والزراعة والمياه، ليس من باب المراقبة فحسب، وإنما من باب التخطيط لما هو أفضل لها، عبر توجيهها نحو ما يتناسب مع الواقع العالمي.
وهنا، لا بد من التطرق إلى دور وزارة البيئة، فهو ليس مقتصراً على حماية البيئة، وإنما يشمل تحقيق التنمية من خلال المشاريع الصديقة للبيئة التي تخلق فرص العمل، وفي هذا الإطار يقول ياسين: "نحن نعزّز دور الوزارة وحضورها عبر الانخراط في النقاشات وإعطاء الرأي والنصائح والبدائل، وتأمين التمويل والقروض للمشاريع التي تُعنى بالبيئة".
ويضيف طراف في هذا الصدد: "البشرية والمجتمع الدولي قلقون من تداعيات التدهور البيئي، فهناك تهديد للبشريّة وللموارد الطبيعة في ظل الاستنزاف الحاصل لها، ونحن بحاجة اليوم إلى سياسة عامة للدولة من أجل حماية البيئة، والحفاظ على الموارد المستدامة. وللمفارقة، فإن معظم الدساتير في دول العالم تعتمد في مقدمتها حماية البيئة، وتشريعاتها دائماً في تطور مستمر من أجل حمايتها، إلا أننا لا نجد هذا الأمر لا في الدستور اللبناني ولا في التشريعات".
القضايا البيئية دائماً لم تكن تُعطى الأولوية لدى الحكومات، وكان يُنظر إلى وزارة البيئة على أنها وزارة صغيرة، مع العلم أنها يجب أن تكون في عمق القطاعات كلها، لأن دورها كبير في تنظيمها، مثل قطاع الطاقة والنقل والزراعة والمياه
"حبر على ورق"
في كثير من الأحيان، صدرت قرارات عن وزارة البيئة لإيقاف مشاريع ثبت ضررها على البيئة، لكن تم تجاهل هذه القرارات من قبل النافذين أو المتعهدين الذين يتلطون خلف سياسيين أو وزراء في بعض الأحيان، وهنا يبدو واضحاً التضارب في الصلاحيات بين الوزارات التي ينبغي أن تعمل ضمن جسم واحد.
وزير البيئة السابق طارق الخطيب، وفي حديثه إلى رصيف22، قال: "كنا ندّعي أمام القضاء على أشخاص ونصدر قرارات لإيقاف أعمال تخرّب البيئة وتضرّها، لكننا لم نكن نلقى أي رد، أو لم نشاهد أي تحرك لقمع هذه المخالفات، والسبب هو فقدان التكامل بين الوزارات. كنا نأخذ إجراءات حازمةً، لكنها لم تكن تُنفّذ". ويضيف: "النيابات العامة والقوى الأمنية لم يكن باستطاعتها في أحيان كثيرة إيقاف بعض المخلّين بالبيئة، والكثير من الإجراءات التي اتخذناها في الوزارة بقيت حبراً على ورق".
وخير مثال على ذلك، التمرد على قرارات وزير البيئة الأسبق محمد المشنوق، والتي قضت بوقف الأعمال في كلٍّ من سد جنّة وبلعا والمسيلحة وبقعاتا عام 2014، وإجراء تقييم الأثر البيئي، إلا أن هذا القرار لم يُحترم واستمرت الأعمال، علماً أنها أساساً مخالفة للقانون البيئي 444/ 2002، والذي يقضي بضرورة إجراء تقييم أثر بيئي قبل البدء بالتنفيذ.
الحلول تبدأ من تعزيز دور الوزارة
مشكلات البيئة في لبنان كثيرة ومتشعّبة، فهي ليست وليدة اللحظة وإنما نتيجة التراكمات. من أبرز هذه المشكلات تلوث المياه الذي تجاوزت نسبة التلوث فيها 70%، نتيجة مياه الصرف الصحي غير المعالجة وتسربها إلى مصادر المياه العذبة بحسب مصدر خاص في وزارة البيئة، وتلوث الهواء، خصوصاً في العاصمة بيروت، نتيجة ندرة الأشجار وغياب سياسة النقل العام للتخفيف من استعمال السيارات، وتفاقمت الأزمة مع انتشار آلاف مولدات الكهرباء بين الأبنية السكنية مع استفحال أزمة الكهرباء، الأمر الذي يضع المواطنين في بيئة موبوءة وخطرة، ينتشر فيها مرض السرطان كالنار في الهشيم.
ويؤكّد وزير البيئة في هذا السياق، على أن عدم احترام وزارة البيئة من القطاعات العامة والخاصة، فاقم الأزمة. "لا تحترم بعض هذه القطاعات القواعد الناظمة للصرف الصحي والأنهار والأراضي الزراعية، ضاربةً بعرض الحائط توصيات وزارة البيئة وقراراتها، مما أدى إلى خروج الأمور عن السيطرة في الكثير من المناطق، وتهديد الصحّة العامة للمواطنين".
ويؤكّد ياسين أن خطط التعافي في لبنان يجب أن تكون على أسس التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة وعلى الرأسمال الطبيعي وتطويره، عندها نظهّر الأدوار الأساسية والكبيرة لوزارة البيئة.
مشكلات البيئة في لبنان كثيرة ومتشعّبة، فهي ليست وليدة اللحظة وإنما نتيجة التراكمات.
أما على صعيد الحكومة المرتقبة، فيجد ياسين أن هناك ضرورةً لزيادة موازنة وزارة البيئة من أجل تطوير عملها، ولا يخفي هنا النقص الحاصل في الفريق الإداري في وزارته، إذ يؤكّد الحاجة إلى استكمال هذا الفريق بعد خسارة الوزارة لعدد كبير من موظفيها الذين استقالوا بسبب الوضع، لافتاً إلى أن الكادر الوظيفي يعاني من نقص في الأساس، نظراً إلى شغور العديد من المراكز فيه، وهنا ثمة ضرورة لتأمين الفنيين والخبراء والتقنيين والمهندسين.
بدوره، دعا طرّاف إلى ضرورة احتضان الوزارة للمتخصصين في التعيينات الوظيفية، بعيداً عن المحاصصات، فتقييم الأثر البيئي، أو وضع الخطط البيئيّة، هما أمران يجب أن يقوم بهما المختصون وأصحاب الخبرات، مؤكّداً ضرورة تحسين الهيكليّة البيئيّة وتوسيعها وإعطاءها صلاحيات استثنائيةً، مع ضرورة حصر الأمور المتعلقة بالبيئة داخل الوزارات والمصالح العامّة في وزارة البيئة، لتكون هي المرجع والفيصل في هذا الشأن.
وتحدث طرّاف، عن ضرورة تطوير التشريعات في ظل تفاقم الجرائم البيئية، عبر خلق جهاز تشريعي ملازم للوزارة، وعن وجود حاجة ملحّة لاستكمال المراسيم التطبيقية لقانون البيئة 444 الصادر عام 2002، وإعطاء الصلاحيّات الكاملة للنيابات العامة البيئية للقيام بمهامها، كذلك التوقيع على جميع الاتفاقات الدولية التي تُعنى بالبيئة والالتزام بقرارات المؤتمرات البيئية العالميّة.
لا تحترم بعض القطاعات القواعد الناظمة للصرف الصحي والأنهار والأراضي الزراعية، ضاربةً بعرض الحائط توصيات وزارة البيئة وقراراتها، مما أدى إلى خروج الأمور عن السيطرة في الكثير من المناطق، وتهديد الصحّة العامة للمواطنين
المجتمع المدني والجمعيات
برز في السنوات العشر الأخيرة، العديد من الجمعيات والناشطين البيئيين في لبنان، وساعد في ذلك التطور الحاصل على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، لنقل مناشداتهم، وإمكانية تأثيرهم في الرأي العام المحلّي والدولي، للحشد لمناصرة البيئة والوقوف في وجه المشاريع التي تعبث بالطبيعة ومكوّناتها.
ومن هنا، يتطلع الناشطون والجمعيات إلى أهمية التعاون بينهم وبين الوزارة من أجل حماية البيئة، ومعالجة الخلل في حال حصوله، عبر حملات التوعية والندوات الرامية إلى تعريف المواطنين والمجتمع المحلي بخطورة الاعتداء على الطبيعة وتلويثها وأهمية المحافظة عليها، كذلك إقامة حملات التنظيف للشواطئ ومجاري الأنهار والأماكن العامة، والأهم من ذلك المشاركة في تكريس مبدأ إعادة تدوير النفايات من المنازل والمدارس والمؤسسات، ومتابعة سير العمل في المراكز المخصصة لمعالجة النفايات.
من الضروري أن تحضر الجمعيات التي تُعنى بالبيئة في اللجان النيابية، أو أن تكون ممثّلةً في المجلس النيابي.
وفي هذا الإطار، يؤكّد طرّاف على أهميّة التعاون بين الجمعيات ووزارة البيئة، مشدّداً على ضرورة أن تحضر الجمعيات التي تُعنى بالبيئة في اللجان النيابية، أو أن تكون ممثّلةً في المجلس النيابي، من أجل تقديم مشاريع القوانين التي تُعنى بالحفاظ على البيئة ومعاقبة المخلّين بها.
بدوره، لفت عضو الجمعية اللبنانية لتوفير الطاقة والحفاظ على البيئة، طوني مطر، في حديثه إلى رصيف22، إلى أن التنمية لم تعد مسؤولية الحكومة وحدها، بل أصبح ذلك في صلب العمل المدني والتطوعي، ومن هنا تُعدّ جمعيات المجتمع المدني شريكاً فاعلاً في القطاع الحكومي لتقديم الخدمات، كتوعية المواطنين وتنظيم جهودهم خدمةً للقضايا البيئية، وإشراكهم في صنع القرارات البيئية، داعياً إلى تأسيس منتديات دائمة لتعزيز الاتصال بين القطاعين الحكومي والتطوعي.
ويكشف طرّاف بأن هناك مسؤولين متورّطين في مشاريع مدمّرة للبيئة، قد يعترضون على سن أيّ قوانين إصلاحيّة في المجال البيئي، مؤكداً في هذا الإطار على دور الناشطين والجمعيات، الفاعل والمهم، في رفع الصوت عالياً لكشف هؤلاء المتورطين، والضغط لإقرار التشريعات اللازمة، وقال: "المواطن والمجتمع المحلي هما العين الساهرة على البيئة ومكوّناتها".
هناك دور كبير يمكن أن تقوم به وزارة البيئة للحد من الكارثة البيئية التي يعيشها لبنان، لكن أولاً ينبغي تغيير النظرة السائدة حول هذه الوزارة، وعدّها وزارةً سياديّةً أو خدماتيّةً، وثانياً زيادة ميزانياتها، علّ المسؤولين يتصارعون للحصول عليها، تماماً كوزارات الطاقة والمياه والداخلية والأشغال وغيرها من الوزارات التي تُعدّ "دسمةً" في ميزان السياسيين، عندها يمكن أن نرى وزارة البيئة في الموقع الذي أناطه القانون بها، وزارةً فوق إستراتيجية، لتكون الموجّه الأول في خطط تحسين الواقع البيئي في لبنان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين