يقف ماجد حجي (49 عاماً) أمام باب إحدى ورش تصليح السيارات القديمة في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا، مُنهكاً "من العمل وتكرار تصليح الأعطاب نفسها" وفقاً لما قاله لرصيف22، مُضيفاً: "أرهقني العمل، فهذه السيارات القديمة لا تصلح للعمل والسير بها إذا كان الوقود ممتازاً، فكيف الحال مع النوعية الرديئة للمحروقات والتي لم تعد تناسب المركبات التي تعاني أساساً من صعوبة في حرق المازوت ضمن حجرة احتراق المحرك؟".
ويشكو أصحاب المركبات على اختلاف نوعها وسنة التصنيع من سوء الوقود المتوفر، ويعيد ماجد السبب في ذلك إلى عدم توفر مصافي البترول في المنطقة، والاعتماد على الطرق البدائية أو المصافي الكهربائية الصغيرة.
تأتي خطورة الانبعاثات الضارة من عوادم السيارات من تماسها المباشر مع حياة الناس والطبيعة.
وتحتوي أسواق محافظة الحسكة على مختلف أصناف الوقود الخاصة بالسيارات بنوعيها "الديزل-المازوت" و"البنزين"، وهما يختلفان من حيث الجودة والسعر، ويصل سعر لتر البنزين الممتاز إلى 6685 ليرة سورية والمازوت الجيّد 410 والممتاز 1200 (يعادل الدولار الواحد قرابة 7000 ليرة سورية)، ويتحدث الكثير من النشطاء عن أن المازوت الممتاز هو نفسه ذو النوعية الجيدة لكن يُباع بسعر أغلى للمنفعة الاقتصادية.
يُكمل ماجد الذي يعمل في مهنة تصليح المركبات منذ 20 عاماً، حديثه عن مشكلة انبعاثات عوادم السيارات: "تتسبب جودة الوقود بإصدار غازات مضرة جداً بالبيئة، خاصة أن أعداداً كبيرة من المركبات لا تتناسب مع معايير حماية البيئة. وعدا الأضرار التي تلحق بالمركبات نتيجة نوعية الوقود، فإن تشكّل السحب السوداء والهواء الضار واضحان".
تكلفة اقتصادية وبيئية
تأتي خطورة الانبعاثات الضارة من عوادم السيارات من تماسها المباشر مع حياة الناس والطبيعة، وتأثيرها على المسطحات الخضراء، وهو ما ذهبت إليه المهندسة الزراعية ليليان عيسى قائلة لرصيف22 إن للموضوع آثاراً وتكلفة اقتصادية ضخمة على هياكل الحكم والمجتمع المحلي. فتلوث الهواء يُلحق الضرر البليغ بالبيئة والمجتمع، ويخلق أمراضاً ذات تأثيرات حالية ومستقبلية يمكن أن تؤدي إلى تراجع إنتاجية العمل الاقتصادي.
الازدحام المروري والتلوث في الجزيرة السورية - تصوير حسن حسين
وأضافت: "تتسبب المواصلات بأكثر من 70% من تلوث الهواء والبيئة، بسبب الغازات الصادرة عن وقود السيارات، نتيجة استخدام الأساليب البدائية في تصفية النفط، وبالتالي إنتاج الوقود بأنواعه بجودة سيئة تحتوي على الكثير من الشوائب، وخاصة الرصاص وأكسيد الكربون".
ووفقاً للتقارير السنوية لمديرية المحروقات في محافظة الحسكة، فإن كميات الوقود المستخدمة للسيارات من كانون الثاني/ يناير حتى نهاية آب/ أغسطس 2022 بلغت قرابة 95 مليون ليتر من المازوت و61 مليون ليتر من البنزين، مع ملاحظة أن جميع أنواع الوقود سيئة الجودة بغض النظر عن التسميات.
وبحسب هذه الأرقام، فإن كمية الغازات التي تطلقها تلك السيارات كبيرة ولا يمكن ضبطها بدون اختبارات فعلية، لكن لا توجد أي جهة متخصصة بحساب كمية الملوثات المنبعثة من محركات السيارات أثناء حركتها، لذلك لا أرقام دقيقة لها.
أرهقني العمل، فهذه السيارات القديمة لا تصلح للعمل والسير بها إذا كان الوقود ممتازاً، فكيف الحال مع النوعية الرديئة للمحروقات والتي لم تعد تناسب المركبات التي تعاني أساساً من صعوبة في حرق المازوت ضمن حجرة احتراق المحرك؟
ونشر مركز الفرات للدراسات النسب والمعدلات المقبولة من الغازات والجسيمات الأخرى المنبعثة من عوادم السيارات، وضمن الشروط المعيارية المتمثلة في حداثة سنة صنع السيارة ونظافة محركها، إضافة إلى حال الاحتراق الكامل للوقود.
ووصل التقرير إلى أرقام وصفها بأنها "مخيفة"، فعلى سبيل المثال بلغت كمية الرصاص المنبعثة في إجمالي إقليم الجزيرة لعام 2021 قرابة 890 طناً، 250 منها في مدينة القامشلي و290 في مدينة الحسكة. كما أن كمية مادة السخام المنبعثة من عوادم السيارات بلغت في نفس العام قرابة 250 طناً، منها 80 طناً في القامشلي و54 في الحسكة، وهذه المادة تحتوي على جسيمات الكربون وتتسبب في حدوث جلطات قلبية وسكتات دماغية يشير التقرير إلى ازدياد أعداد المصابين بها في السنوات الأخيرة.
وبلغ عدد المركبات التي سجلت لدى مديرية مواصلات إقليم الجزيرة بين عامي 2019 و2022 نحو 119072 مركبة، موزعة ما بين تلك التي تستوردها الدولة السورية، وتلك التي تدخل عبر المعابر التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية مع إقليم كردستان العراق ومنبج.
ولا تتوفر إحصائية لفرز المركبات جديدة وقديمة وفقاً لسنة الصنع، لكن المشاهدات تؤكد على ضخامة عدد المركبات التي تفتقد المعايير الصحية والبيئية السليمة، وهو ما ذهب إليه ماجد حجي، مشيراً إلى أن مشكلة المركبات القديمة تتمثل في كون مالكوها لا يهتمون بها جيداً، فغالبيتها تحتاج لتبديل المحركات ومصافي الوقود، لكنهم عوضاً عن ذلك يلجأون لتصليحها، ما يتسبب بعدم الاحتراق الكامل للوقود.
حالات سرطان الرئة ذات المنشأ البيئي في عموم محافظة الحسكة وصلت نسبتها إلى 7%، وأكثر من 15% من الأطفال مصابون بمرض الربو والحساسية المفرطة، خاصة أولئك الذين يعيشون في الأرياف القريبة من حراقات النفط
ومنذ أكثر من سبع سنوات تعتمد المنطقة في استخراج المحروقات بجميع أنواعها على الأساليب التقليدية البدائية، مثل الحراقات، وهي عبارة عن خزانات يوضع فيها النفط الخام ويسخن لدرجة الغليان، ثم يتبخر عبر أنابيب تمر ضمن مجرى مائي يكثف النفط ويحوله في نهاية الأنبوب إلى سائل. وتتسبب الحراقات بانبعاثات وغازات ذات تأثير صحي وبيئي مخيف جداً، إضافة لبقايا عملية الحرق، وإلقاء الفضلات والمخلفات في الأراضي المجاورة.
واستخدمت هذه الطرق لتوفير مشتقات النفط نتيجة للأزمة الاقتصادية والخلافات السياسية بين الإدارة الذاتية والحكومة السورية على الكثير من القضايا، من بينها ملفا النفط والغاز.
أمراض خطيرة
تحذر منظمة الصحة العالمية من تلوث الهواء في بياناتها المختلفة، وتعدّ المركبات الآلية في عداد أبرز مصادره الشائعة، وتشمل ملوّثات الهواء الجسيمات الدقيقة وأول أكسيد الكربون والأوزون وثاني أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكربون. وتلفت إلى أن هذا التلوث يسبب أمراض الجهاز التنفسي وأمراضاً أخرى ويعد مصدراً مهماً للاعتلال والوفيات.
وفي حديثها لرصيف22، تشير طبيبة الأطفال فاطمة أحمد إلى أن نواتج عوادم السيارات مثل أحادي وثنائي أكسيد الكربون وأكسيد النتروجين والهيدروكربونات غير المحترقة التي تُسبب أمراضاً كارثية تؤثر بشكل مباشر على حساسية الجيوب الأنفية، وتؤدي إلى تثبيط نقي العظام، وزيادة الإصابة بالسرطانات خاصة الرئة والدم وأمراض الخصية.
من الضرورة تكرير النفط وفق المعايير الدولية وتحسين جودة الوقود، وإلزام المركبات بالكشف السنوي على عوادم السيارات.
وتضيف أن تلوث الهواء يتسبب بالربو ومشاكل القلب ويؤثر على الخصوبة والإدراك العقلي والفهم ووظائف المخ مثل التركيز واللغة والتناسق العضلي، إضافة للتشوهات الجنينية والعصبية والدموية ومشاكل نقص الأكسجة لدى الأجنة. وضمن هذا السياق تشير أحمد إلى أن حالات سرطان الرئة ذات المنشأ البيئي في عموم محافظة الحسكة وصلت نسبتها إلى 7%، وأكثر من 15% من الأطفال مصابون بمرض الربو والحساسية المفرطة، خاصة أولئك الذين يعيشون في الأرياف القريبة من حراقات النفط.
بدوره يصنف المهندس الميكانيكي والمهتم بقضايا البيئة صالح الهجري (57 عاماً)، وهو مقيم في القامشلي ويمتلك ورشة لتصليح المركبات القديمة، المكونات الأساسية لأبخرة المركبات، وهي أول أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين والهيدروكربونات والجسيمات، ويشرح أضرارها التي تصيب البيئة والإنسان. فأول أكسيد الكربون هو أكثر الملوثات المنبعثة من المركبات ويؤثر بشكل مباشر على قدرة الدم على حمل الأوكسجين والتقليل من كميته في الجسم، وهو سبب كافٍ لأمراض القلب. أما النيتروجين فيتسب بمشاكل في الجهاز التنفسي، إضافة للمخاطر البيئية، كالأمطار الحمضية والضباب الدخاني وتلف النباتات. في حين تتسبب الهيدروكربونات بخطر إتلاف الجهاز التنفسي والإصابات المسرطنة.
وتحدث صالح لرصيف22 عن أضرار عوادم السيارات على البيئة: "يسبب تفاعل الهيدركربونات مع أكاسيد النيتروجين مع أشعة الشمس، أضراراً على طبقة الأوزون في طبقات الجو العليا، التي مهمتها حماية كوكب الأرض من أشعة الشمس الضارة، كما أن تلك الغازات تتسبب بالاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض ونقص المياه وجفاف التربة والقضاء على الثروة النباتية، وهي السبب الأساسي للضباب الدخاني في المدن، وسواء أكان لون الدخان أبيض أو أسود أو لا يُرى بالعين، فإنه يؤثر في تلوث الهواء والزرع والتربة".
وأضاف أن الديزل والبنزين والكاز هي المسبب الأول لكل هذه الانبعاثات والغازات والرصاص، فهي من النوع السيئ المستخرج والمكرر بطرق بدائية عبر الحراقات التي تفتقد لأبسط معايير الجودة والصحة والسلامة البيئية، منتقداً الإدارة الذاتية التي سمحت باستيراد كل هذه المركبات التي، بعد زيادة عددها بشكل ضخم، احتاجت المنطقة للمزيد من الوقود.
من مظاهر التلوث في الجزيرة السورية - تصوير: حسن حسين
وتقاطعت آراء المهندسة الزراعية ليليان عيسى والمهندس الميكانيكي صالح الهجري حول بعض الإجراءات الوقائية والاحترازية الواجب القيام بها بشكل مستعجل، ومنها وضع خطط تنموية واضحة لعملية استيراد السيارات وليس عشوائياً، وضرورة خلق توازن بين الحاجة للمركبات والوضع البيئي السليم، وتكرير النفط وفق الشروط والمعايير الدولية المتبعة، وتحسين جودة الوقود، وإلزام المركبات بالكشف السنوي على عوادم السيارات.
إلى ذلك، من المهم إيلاء قطاع البيئة الأهمية القصوى عبر الإعلام والبرامج المخصصة المشجعة للزراعة، خاصة الأشجار وتوفير مستلزماتها، وتشجيع الناس على الرياضة بأنواعها، خاصة أثناء الذهاب للعمل أو قضاء الحاجات التي لا تتطلب بذل جهد عضلي أو حمل أشياء ثقيلة، للتخفيف قدر الإمكان من التلوث والضجيج وأزمة المواصلات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع