"كُل ما يعجبك، والبس ما يعجب الناس"، هذه المقولة الشهيرة التي لا يزال قسم من الناس في العراق يتداولونها ويطبقونها في حياتهم اليومية، لكن ثمة أشخاصاً لا يتفقون معها ويجدونها قيداً لحريتهم الشخصية في اختيار ما يلبسونه، سواء من الملابس الجديدة أو المستعملة.
أتذكر والدتي وعمتي عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية، تقولان لي: "البس هذه ولا تلبس هذه"، وعندما أرفض أن أرتدي ما اختارتاه، تردان عليًّ بتلك المقولة. وقتذاك، لم يكن لي القرار والحق في مخالفة قوانين الأسرة، لكن مع الانفتاح الذي شهده العراق، خاصة بدخول مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت المقولة على وشك نفاد صلاحيتها.
بات واضحاً في السنوات الأخيرة اتجاه عدد كبير من العراقيين نحو شراء الملابس المستعملة.
وبات واضحاً في السنوات الأخيرة اتجاه عدد كبير من العراقيين نحو شراء الملابس المستعملة، أو التي تعرف محلياً باسم "البالة" أو بالإنجليزية "السكند هاند" لعدة أسباب، أبرزها أنها تعتبر رخيصة الثمن وبجودة عالية، ويجد قسم من هؤلاء أن الذهاب إلى أسواق تلك الملابس أمر يشبه النزهة أو العثور على كنز، إذ بإمكانهم الحصول على ملابس جميلة وغريبة وتحمل علامات تجارية مشهورة بأسعار زهيدة لا تكاد تصدق، ويقتني آخرون تلك الملابس لأنها طريقة جديدة لمواجهة التغيرات المناخية.
في خطوة تعتبر الأولى من نوعها في البلاد، أقيم قبل قرابة الشهر عرض للملابس المستخدمة في مدينة البصرة، بمشاركة أكثر من 25 عارضاً يطلون على الجمهور للمرة الأولى، وما حفزهم على المشاركة بهذا العرض الفريد هو فكرته الهادفة إلى توعية المجتمع بمفهوم الاستدامة وإعادة التدوير من أجل تقليل حجم الكارثة الناجمة عن التغير المناخي.
من محال الملابس المستعملة في العراق
بدأت فكرة العرض من داخل مقهى شعبي، جلستُ فيه أنا وصديقي زين كريم. منذ سنوات وأنا أركز في عملي الصحافي على قضايا المناخ والبيئة والتلوث وأزمة المياه في العراق. كان زين يفكر بتقديم عرض للأزياء والملابس المستخدمة، أعجبتني الفكرة، وأضفت إليها فكرة التثقيف حول مفهوم ترشيد الاستهلاك للحفاظ على الموارد المائية وتقليل الانبعاثات السامة التي تصدرها مصانع الملابس.
لم يكن الأمر سهلاً في أن نشرح الفكرة للمجتمع، لكن وجدت فكرتنا آذاناً صاغية لدى مجموعة من الشباب المهتمين بحماية البيئة، واتفقنا على أن يكون عرض الأزياء نقطة الانطلاق لنشر ثقافة إعادة التدوير، ما يؤدي إلى قلة الطلب على الملابس الجديدة.
أقيم العرض داخل موقع أثري يعود إلى الحقبة العباسية، أيضاً من أجل تعريف المجتمع بالمواقع التي يعود تاريخها إلى مئات السنين، وأصحبت منسية وبعيدة عن الاهتمام ولم تعد تجذب سياحاً، فكان اختيار الموقع فرصة للترويج للسياحة الأثرية في البلد الذي يعاني من إهمال قطاع السياحة نتيجة اعتماده على ما يجنيه من الصادرات النفطية.
عرض الأزياء هذا استمر الحديث عنه لأسابيع بين الناس في الشارع والعمل وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، بتعليقات داعمة لفكرته، الأمر الذي شجع المشاركين فيه على الاستمرار بعروض أزياء أخرى داعمة لقضايا مواجهة التغير المناخي، بعد أن باتت أزمة عالمية تؤثر على تفصيلات صغيرة من حياتنا اليومية، بدءاً بقلة المياه وازدياد مساحات التصحر، انتهاءً إلى الفيضانات والحرائق وغيرها من الظواهر.
لم يكن الأمر سهلاً في أن نشرح الفكرة للمجتمع، لكن وجدت فكرتنا آذاناً صاغية لدى مجموعة من الشباب المهتمين بحماية البيئة، واتفقنا على أن يكون عرض الأزياء نقطة الانطلاق لنشر ثقافة إعادة التدوير، ما يؤدي إلى قلة الطلب على الملابس الجديدة
توجّه جديد
يقول زين كريم (25 عاماً)، وهو عارض أزياء من البصرة، إن ارتداء الملابس المستخدمة هو أسلوب اعتاده منذ سنوات عدة، فهي تظهر شخصيته ونمط حياته الصديق للبيئة، ويضيف أنها وسيلة لإظهار احترامه لكوكب الأرض، وطريقة جديدة للحد من استهلاك الملابس التي تكلف البشر صرف موارد طبيعية هائلة، في وقت يكافح الملايين لتأمين المياه للعيش.
وتعتبر صناعة الملابس مسؤولة عن 6.7% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية، وهذا يوازي قيام كل شخص على كوكب الأرض برحلة جوية مسافة قدرها 2500 ميل كل عام. ومنذ عام 1975، تضاعف الإنتاج العالمي من ألياف النسيج ثلاث مرات تقريباً، ما يعني المزيد من الأضرار على البيئة.
من عرض الأزياء المستعملة في البصرة
ولكريم توجه آخر يشرحه لرصيف22: "من خلال الملابس السكند هاند، أطمح لتغيير فكرة المجتمع عن الملابس الفضفاضة أو المختلفة والمميزة بتصاميمها، وهذا ليس أمراً سهلاً، لكني استطعت أن أؤثر على الأصدقاء المقربين. من أجل المناخ أو من أجل الموضة، فإن الحديث عن هذا النوع من الملابس يعتبره البعض تقليلاً من مكانة الفرد اجتماعياً، أو أنه ‘عيب’ إذا كان موديل الثياب غريباً إلى حد ما، أو لا يرتديه عامة الناس، فما زالت الصبغة العشائرية تهيمن على أسلوب العيش وتقيد الحريات في عدد من مناطق العراق".
عاش زين نحو خمس سنوات في روسيا ودرس هندسة النفط هناك، وعلى الرغم من أن لا علاقة لتخصصه بالأزياء، باتت الأزياء جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية، فيمكن للإنسان أن يرتديها أو يعلقها على جدران الغرفة لتصبح ديكوراً جميلاً. ويضيف: "أرتدي الملابس لنفسي لا للآخرين، أنا حر أن أرتدي البنطلون إذا كان على مقاسي أو أكبر، فأنا مرتاح به وهو مصدر سعادتي حقاً. أعجب كثيرون بنمط ملابسي حتى أنشأت موقعاً الكترونياً أبيع فيه الملابس المستخدمة، فليس كل شخص لديه المزاج لقضاء ساعات في البحث بين أكوام الملابس ومن ثم العودة بها للمنزل، لتمر بعدها بمرحلة الغسل والكي والتجهيز".
زين كريم داخل أحد محال الملابس المستعملة
أسباب بيئية واقتصادية
"زاد اهتمامي باقتناء ملابس من البالة قبل عدة أشهر، عندما كنت أتصفح مواقع إلكترونية وأقرأ عن أهمية إعادة تدوير الملابس في إنقاذ البيئة من التلوث وتقليل الاحتباس الحراري. تعمقت في القراءة والشروح حول ذلك حتى اقتنعت بالفكرة، وبدأت أعتاد الذهاب إلى محال ملابس البالة"، يقول حمزة حسن (24 عاماً)، وهو من البصرة، لرصيف22.
لم يتردد حمزة عندما سمع أن هناك عرضاً للأزياء المستخدمة، ويشرح: "ما فعلناه بكوكب الأرض أمر في غاية الخطورة، واليوم يكافح العراق ودول العالم من أجل استعادة عافية البيئة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة. جميعنا شركاء في ما يحلُّ بالأرض من كوارث مناخية، لذلك أساهم ولو بجزء قليل في دعم مفهوم الاستدامة وصون الطبيعة من خلال التقليل من شراء الملابس الجديدة واستبدالها بالمستخدمة قدر الإمكان".
حمزة حسن أثناء عرض الملابس المستعملة في البصرة
أسباب أخرى تدفع حمزة إلى اقتناء تلك الملابس، عدا علاقتها بتقليل الاستهلاك والتدوير، فهي من الناحية الاقتصادية رخيصة الثمن ومن منشأ عالمي ومتنوعة، مثلاً قد يجد قميصاً سعره في سوق البالة أقل من دولار، وهو نفسه يباع جديداً بـ300 دولار، والأمر ذاته ينطبق على بقية الملابس والحقائب والأحذية.
يواجه حمزة وغيره من الشباب الذين اختاروا ارتداء الملابس المستخدمة، سيلاً كبيراً من الانتقادات على شكل الملابس وألوانها وتصاميمها، فيما يعجب آخرون بها ويشجعون عليها. "الناس أحرار فيما يلبسون وأنا مقتنع بما أرتديه، للأسف يرغب البعض بممارسة دور الوصي على الآخرين، وهذا أمر غير منطقي"، يقول.
"أبدو مختلفة بها"
بدورها تقول بهاء الحسيني (18 عاماً)، وهي تعيش في البصرة: "ارتداء الملابس المستخدمة خطوة ناجحة لتقليل انبعاثات الغازات الصادرة من معامل الإنتاج، ووفق اطلاعي البسيط على هذا الموضوع، فإن إنتاج الملابس الجديدة يسهم في زيادة معدلات الاحتباس الحراري، وهذا له تأثير ضار على صحة الإنسان".
أسباب أخرى تدفع حمزة إلى اقتناء تلك الملابس، عدا علاقتها بتقليل الاستهلاك والتدوير، فهي من الناحية الاقتصادية رخيصة الثمن ومن منشأ عالمي ومتنوعة، مثلاً قد يجد قميصاً سعره في سوق البالة أقل من دولار، وهو نفسه يباع جديداً بـ300 دولار
وقد تضاعفت كمية مادة البوليستر في ملابسنا منذ عام 2000، والآن يُصنع أكثر من نصف الألياف عالمياً من البترول، ويتطلب الأمر قرابة 342 مليون برميل نفط كل عام لتلبية هذا الطلب، وعند غسل هذه الملابس أو التخلص منها، يؤدي ذلك إلى مزيد من التلوث، إذ تتفكك الألياف الاصطناعية مثل البوليستر والنايلون والأكريليك، وهي مسؤولة عن 20٪ إلى 35٪ من المواد البلاستيكية الدقيقة في البيئة البحرية.
تضيف بهاء: "بدأ اهتمامي في اقتناء السكند هاند منذ الصغر، فقد كانت والدتي تقتنيها منذ شبابها، وعندما ولدت أنا، أصبحت تشتريها لي وتلبسني إياها. كنت دائماً أسألها لماذا نشتري هذه الملابس على عكس بقية الناس الذين يشترون ملابس جديدة، فكانت ترد عليَّ: ‘لأنني أريد أن تلبسي ثياباً مميزة حتى تبدي مختلفة عن الجميع’".
"أدركت لاحقاً حقيقة ما كانت تقوله لي أمي، ففي هذه الملابس علامات تجارية عالمية ذات جودة عالية مع رخص أثمانها، وهذا يؤدي إلى تحسين وضعنا المادي المحدود. كانت أمي تخبرني أن ما أرتديه لا يرتديه أحد غيري، لأنها قطع تأتي مفردة وليس بكميات كبيرة، على الرغم من أنني لم أكن مقتنعة في البداية لعدة أسباب، منها نظرة الناس إليَّ وكأني فقيرة"، تضيف.
بهاء الحسيني أثناء عرض الملابس المستعملة في البصرة
شاركت بهاء في عرض أزياء الملابس المستخدمة في البصرة، بالرغم من أن فرصة مشاركة النساء في عروض الأزياء في بيئة مثل جنوب العراق، لا تلاقي دعم المجتمع والأهل، لكن إصرارها على إثبات ذاتها، دفعها إلى المشاركة في العرض بعدما وجدته فرصة حقيقية لتحقيق حلمها، وشجعها أهلها على ذلك.
"لا أزال أتذكر كلمات أمي وهي تقول لي إنها ستراني يوماً ما عارضة أزياء، وفعلاً أصبح ذلك حقيقة. وقد أضافت لي التجربة الثقافة والتوعية والثقة بالنفس والمغامرة في خوض تجارب جديدة لم تكن بالحسبان". تقول بهاء.
وتختم: "نحتاج إلى أن يتضامن معنا عدد أكبر من الناس في شراء ملابس السكند هاند، فالمساهمة في استعادة عافية الأرض مسؤولية الجميع، وتلك الملابس ليست كما يعتقد البعض تالفة أو غير نظيفة، أو تنقل الطاقة السلبية إلى أجسادنا كما تقول بعض الخرافات، إنها ملابس فقط لا أكثر".
* تصوير: أزهر الربيعي
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.