عند المدخل أطفال ترتسم البسمة على وجوههم وهم يحدّقون في حلوى غزل البنات وهي تدور وتدور قبل أن تتحوّل إلى وجبة شهية. ما أن تتقدّم بضع خطوات حتى تشدّك فيروز لرؤيتها وهي تقبع وحدها في لوحة صُنعت من الزجاج بحرفية عالية.
على يمين المكان، رائحة الورد تعلو من طاولة خشبية زُيِّنت بمجموعة من الصابون البلدي المصنوع من الأعشاب الطبيعية التي "لا تؤذي البشرة"، كما قال الفتى الذي يبيعها. على الشمال، تصيح امراة أربعينية تروّج للمفتقة "البيروتية مية بالمية".
وفي الوسط أناس لم يرَ بعضهم بعضاً منذ سنوات، يستذكرون متى التقوا آخر مرة في "البلد". هنا سوق شعبي يضج بالحياة وسط ساحة الشهداء في مدينة بيروت. هنا سوق "أبو رخوصة".
كنوز مخفيّة
يأتي الشاب عماد إلى السوق كلّما شاهد إعلاناً عنه على مواقع التواصل الاجتماعي، والسبب الأبرز إلى جانب التسلية وقضاء الوقت هو الحصول على كتب قيّمة بمبلغ لا يتعدّى الـ25 ألف ليرة (دولار واحد)، في وقت أصبح فيه اقتناء الكتب يحتاج إلى ثروة بعد انهيار قيمة العملة اللبنانية.
يزور عماد السوق مع صديقته الشابة التي تهوى جمع الأشياء العتيقة، وكانت سعيدةً بـ"الكنز" الذي حصلت عليه، وهو راديو يعود تاريخه إلى عشرات السنوات.
محمد وحاتم قدِما من العراق إلى بيروت للاستمتاع بأجوائها، واستوقفتهما الزحمة في ساحة الشهداء وهما يمشيان في رحلة استكشافية. أما رنا، وهي أمّ لطفلين، فأتت بهما كي "نرفّه عن أنفسنا من الضيق الذي نعيشه"، وتروي تجربتها معه: "الصراحة بيفرج الهم، بتشوفي الناس، بتغيري جو وبتشتري كم غرض ناقصينك بأسعار أرخص من برا. بتحسّي حالك ربحتي شي".
"طاقة قدر"
يصف الشاب ديب الحاج الذي يعمل في إنتاج المؤونة البلدية المحلية الصنع في لبايا، في البقاع الغربي، وسط بيروت بأنه ممر إستراتيجي، فهو يصل بين شمال لبنان وجنوبه. ويشكو من كساد البضاعة بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ نحو سنتين.
وعن أهمية السوق بالنسبة إليه يقول: "إنه بمثابة طاقة قدر فُتحت لنا أنا وأهلي ونحو عشر عائلات من ضيعتي نعمل في المهنة ذاتها. إنه فرصة لمحاربة الظروف القاهرة حولنا".
عام 2015، وفي عزّ تظاهرات شعبية ضد السلطة، أطل رئيس جمعية تجار بيروت ليقول: "ما بدنا السوليدير (وسط بيروت)، يتحوّل لأبو رخوصة"، في جملة أراد منها الاعتراض على مظاهر العربات والبسطات التي انتشرت بين المتظاهرين... "أبو رخوصة" تحوّل لاحقاً إلى سوق منظّم
أما ريتا أيوب فتعمل في بيع الثياب المستعملة المستوردة وتشارك في السوق منذ سنتين. تعرّف إليها زبائن كثر وتعرّفت أيضاً إلى تجار تبادلت معهم الخدمات لاحقاً. تقول: "عندي زبائن تعرّفوا إليّ في السوق وصاروا مخلصين لي خصوصاً أنني من بائعي الثياب القيّمة بكلفة لا تتعدّى عشرات آلاف الليرات".
توافقها الرأي الشابة سارة الصايغ التي تعمل في حفر الخشب. تروي كيف بات يقصدها عشرات الأشخاص من كل الجنسيات والبلدان بعدما شاهدوها وهي ترسم بواسطة الليزر أمام أعينهم في "أبو رخوصة". وتتّفق الاثنتان على أن السوق "وجهه خير على الجميع كالمزارعين والتجار والطلاب والحرفيين والزائرين والأطفال".
ولـ"أبو رخوصة" أهمية خاصة لدى البائع الفلسطيني عماد مختار، فهو إلى جانب كونه مكاناً لتصريف أعماله، يعدّه مكاناً عبّر من خلاله عن مشاعر الحب الممزوجة لديه تجاه بلدين قدّما له الكثير، حسب تعبيره. على البسطة أمامه تتوزّع أعلام فلسطين ولبنان، والأرزة االلبنانية وغصن الزيتون، رمز المقاومة الفلسطينية، وعبارة "القدس لنا"، وعبارة "بحبك يا لبنان".
"سوق أبو رخوصة أعطاني الفرصة لعرض أعمالي الحرفية"، تقول السيدة الثلاثينية روندا بعلبكي التي تشارك فيه ببسطة من الأكسسوارات المصنعة يدوياً منذ سنوات، وتضيف: "الهدف منه هو استرداد الأملاك العامة فقد أعاد شكل البلد إلى أسواق شعبية كما عرفها أهلنا وأجدادنا".
وتضيف: "هدفنا نحن أوائل المشاركين فيه، كان تسويق المنتجات في وسط البلد (وسط بيروت)، وتحديداً بعد أن أصبح حكراً على علامات تجارية عالمية ليس باستطاعتنا الاقتراب منها". وعن أهمية السوق المعنوية تعلّق: "انتزعنا رغماً عن أنوفهم عام 2019 ترخيصاً دائماً للسوق من محافظ بيروت بالرغم من الضغوط وهو ما عددناه ثورةً حقيقيةً. فنحن أثبتنا حقّنا في الملك العام خصوصاً بعد تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر التي بلورت فكرة الملك العام لدى الناس".
العقبات القانونية
"ما بدنا السوليدير (وسط بيروت)، يتحوّل لأبو رخوصة"، قال رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس، خلال مؤتمر صحافي عام 2015. يومها كان اللبنانيون يشتمّون رائحة أزمة اقتصادية ستعصف بالبلاد، فتظاهروا وراح بعضهم يبيع بعض المنتجات البسيطة بين المتظاهرين، ما أثار حفيظة شماس.
ما أن سمع بعض الشباب المتظاهرين هذه الجملة حتى هرعوا إلى جلب أغراضهم البيتية وعرضوها في ساحة رياض الصلح المجاورة لساحة الشهداء، حيث يقام السوق أسبوعياً حالياً. منذ ذلك الوقت، أقيم سوق شعبي مراتٍ متفرقةً في المنطقة بتنظيم متواضع.
"’أبو رخّوصة’ طاقة قدر فُتحت لنا أنا وأهلي ونحو عشر عائلات من ضيعتي نعمل في المهنة ذاتها. إنه فرصة لمحاربة الظروف القاهرة حولنا"
"صنّف نقولا الناس آنذاك حسب الطبقات الاجتماعية، ومنع ذوي الدخل المحدود من الدخول إلى وسط البلد"، تعلّق المحامية فداء عبد الفتاح، المسؤولة عن الملف القانوني للسوق ومن أوائل منظميه.
وتتابع: "عانينا كثيراً للحصول على التراخيص. في كلّ مرة أردنا تنظيم السوق، كانت الجهات المحاربة كثيرةً وأهمها شركة سوليدير (الشركة المالكة لمنطقة وسط بيروت)، التي كانت تضغط بكل قواها لإيقافه مع أن حججها كانت ضعيفةً جداً كحجة ‘تشويه المنظر العام’، وحجة ‘إقامته مقابل مسجد’، أو حجة ‘الرمزية المقدّسة لساحة الشهداء’ التي ستشوَّه مع إقامة مثل هذه الأسواق".
بعد حروب ومماطلة، حصل السوق الشعبي في كانون الأول/ ديسمبر 2019، على موافقة من محافظ بيروت القاضي زياد شبيب، لإقامته بشكل دوري، شرط عدم المس بالبنى التحتية والطرق والأرصفة وعدم التأثير على حركة السير والمحافظة على النظافة والسلامة العامة، وفق ما ورد في الكتاب الرسمي المنشور على صفحات السوق على مواقع التواصل.
وسط بيروت والأسواق الشعبية
قبل بداية الحرب الأهلية عام 1975، كان وسط بيروت يحوي الكثير من الأسواق التي تنوعت بين الشعبية، كسوق سرسق الذي كان يكتظ بباعة الأقمشة والثياب الجاهزة، والوسطى والجيدة كسوق الطويلة الذي كان يُعدّ شارعاً تجارياً حديثاً تحمل محالّه أسماء فرنسيةً، وتُباع فيه الملابس والعطور والمواد الفاخرة الأخرى، وبذلك لبّت هذه الأسواق لفترة طويلة حاجات جميع الفئات الاجتماعية، على اختلافها، سواء في بيروت أو في المناطق كافة، حسب المؤرّخ والأستاذ الجامعي حسّان حلاق.
ويوضح حلاق أن "بعض الأسواق كانت تعود إلى العهد العثماني، وهناك أسواق صُمّمت في فترة الانتداب الفرنسي، وأسواق جديدة تعبّر عن فترة ما بعد الاستقلال. لكنها في أكثريتها كانت مراكز للتلاقي الاجتماعي بين الناس على اختلاف مشاربهم، ونقطة تفاعل بين التجار أنفسهم وبينهم وبين الزائرين من كل البلدان".
ظلّ وسط المدينة ركيزة التقاء أساسيةً إلى أن أتت "الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط مدينة بيروت" (سوليدير)، في تسعينيات القرن الماضي، وحوّلت وسط العاصمة إلى شركة تجارية، بحجة "تطوير المدينة" بعد الحرب الأهلية. ولكن كثيرين يرون أن الهدف الرئيسي كان تحويل وسط العاصمة إلى مركز للأغنياء، بعد خصخصتها بغية جذب سياح من طبقات معيّنة.
وفي سبيل بناء "الوسط التجاري الجديد"، أو "الداون تاون"، قضت المشاريع على معالم تاريخية يحمل كلّ حجر من شوارعها وأبنيتها حكايةً من حكايات بيروت العتيقة.
وبعد قيام المشروع، حتى أبناء الطبقات الوسطى غير العليا، لم يكونوا يمرّون في وسط بيروت إلا لمشاهدته، بسبب الغلاء الفاحش للأسعار فيه، وأصبحت محالّه ومقاهيه ومطاعمه مقتصرةً على ذوي الدخل المرتفع.
ولكن هذا المشهد تغيّر مع قيام تظاهرات ضد السلطة عام 2015، ترافقت مع إقامة عربات وبسطات للفقراء وذوي الدخل المحدود، ما أعاد بعضاً من مظاهر الحياة إلى مدينة فقدت هويتها وملامحها التاريخية وصدرها الرحب الذي جمع مختلف الطبقات والفئات المجتمعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...