في عام 2018، سمعت "أم أحمد" أن هناك مشروعاً جديداً يفتتح في قريتها "بلمشط"، إحدى قرى مركز منوف بمحافظة المنوفية في دلتا مصر، وهو عبارة عن "مشغل للخياطة" يبعد عن منزلها خطوات معدودة، ويقدم لمن تريد الانضمام تدريباً قبل بدء العمل. لم تتردد في الذهاب للسؤال عن فرصة في المشروع الجديد، فقد أجهدت من العمل كبائعة في سوق القرية، تضطر لترك أبنائها ساعات طويلة بحثاً عن الرزق، بعد تسريح زوجها من عمله بإحدى البلدان العربية، وعودته إلى قريته "عاملاً باليومية" التي لا تكفي قيمتها قوت اليوم، فلجأ الزوجان إلى السحب من "تحويشة العمر" التي نفدت كلها على تكاليف المعيشة.
في الأيام الأولى من التدريب على العمل الجديد، سمعت أم احمد كلمات للمرة الأولى مثل: "الموضة المستدامة، إعادة تدوير هادر المصانع، مشروع اجتماعي صديق للبيئة، تحويل قصاصات من القماش إلى ملابس تتماشى مع الموضة"، واستغرق الأمر منها عدة شهور حتى صارت واحدة من أفضل العاملات بإحدى ورش "جرين فاشون"، بل تم ترقيتها مشرفة على الإنتاج في المشروع الجديد.
في قرية بلمشط هناك العشرات مثل أم أحمد على اختلاف ظروفهن، يحتجن للعمل، أغلبهن يدخلن سوق العمل للمرة الأولى، للمساعدة على تكاليف المعيشة، أو لكونهن مطلقات أو أرامل معيلات، أو حتى موهوبات يردن تنمية مواهبهن، لكن ظروفاً كثيرة تمنعهن، بدءاً من بعض العادات والتقاليد خاصة إذا كانت البيئة غير آمنة، أو انشغال السيدات بأعمال المنزل التي تستغرق وقتاً طويلاً، كما أن الوظائف المتاحة بعيدة عن منازلهن في مدينة السادات، حيث مصانع الملابس، التي تقضي بها العاملات ثماني ساعات إضافة إلى ساعتين ذهاباً وإياباً، وينقضي أغلب الراتب في الإنفاق على المواصلات ووجبة طعام، ثم يعدن إلى المنزل وقد تركن أولادهن 10 ساعات، على غير عادات القرية المصرية.
من اهتمامها بقضايا التغيرات المناخية وعلمها بأوضاع سيدات قريتها، نبتت الفكرة في رأس هدير شلبي، مؤسِّسَة "جرين فاشون"، المشروع الاجتماعي الصديق للبيئة، الذي يستهدف تمكين النساء ونشر ثقافة "الموضة المستدامة" من خلال إعادة تدوير هادر المصانع لإنتاج ملابس تتماشى مع الموضة
وتأتي محافظة المنوفية ضمن 10 محافظات في قائمة أكثر المحافظات من حيث عدد المهاجرين غير النظاميين (غير الشرعيين)، وفق تقارير رسمية صادرة عن وزارة الهجرة. كما أنها من أكثر المحافظات التي تشهد نسبة كبيرة من الهجرة الداخلية والخارجية من قِبَل الرجال، الذين يتركون وراءهم الزوجات ونساء الأسرة ملزمات بالمسؤوليات الأسرية المادية والرعائية، والوظائف المتاحة لهن لا تفي بمعايير الوظائف اللائقة، ولا تراعي ظروف مسؤولياتهن تجاه أطفالهن.
ووفق دراسة تناولت أوضاع محافظة المنوفية، أعدت بالمشاركة بين وزارة التخطيط المصرية وصندوق الأمم المتحدة للسكان، حول أهداف التنمية المستدامة في مصر، فإن نسبة سكان المحافظة الواقعين تحت خط الفقر الوطني، تصل إلى 26%.
"جرين فاشون"
من اهتمامها بقضايا التغيرات المناخية ودراستها ريادة الأعمال، وعلمها بأوضاع سيدات قريتها، نبتت الفكرة في رأس هدير شلبي، مؤسسة مبادرة "جرين فاشون"، وهي مشروع اجتماعي صديق للبيئة يستهدف تمكين المرأة ونشر ثقافة الموضة المستدامة من خلال إعادة تدوير هادر المصانع لإنتاج ملابس تتماشى مع الموضة.
كل خطوة من خطوات إنتاج الملابس هنا خضراء أو صديقة للبيئة، بدءاً من جمع القصاصات المهدورة من المصانع القريبة، واستخدام ماكينات خياطة تعمل بالطاقة الشمسية، وأصباغ من مواد طبيعية، وحتى العاملات يأتين من أماكن قريبة من دون الحاجة لاستخدام وسائل مواصلات
تقول هدير لرصيف22 إنها رأت في قريتها فرصة جيدة لتدشين مشروعها الذي شاركها فيه بدايةً اثنان من زملائها: "غالبية الأزواج في القرية عملهم باليومية اللي ممكن توصل لـ50 جنيه (نحو دولارين)، والسيدات اللي بتحاول تشتغل بتصحى الساعة 5 الصبح علشان تروح المصانع في مدينة السادات ويرجعوا بالليل، وده بيأثر على المستوى الدراسي للأولاد اللي بيفضلوا طول اليوم بدون أب أو أم في البيت، وده كان بداية التفكير في تمكين السيدات من العمل في مكان قريب من المنزل وفي نفس الوقت نقدملهم مزايا تساعدهم على الجمع بين العمل ومسؤولية الأبناء".
وأضافت: "ومن ضمن مقومات قرية بلمشط إن فيها سيدات عملوا بمصانع السادات وعندهم مهارة الخياطة، وده ساعدنا مانستهلكش وقت كبير في التعليم والتدريب، توفيراً للنفقات لإننا مبتدئين، وعلشان نقدر نوفر للعاملات رواتب من البداية، وكمان مصانع السادات قريبة مننا نقدر ناخد منها هادر القماش ونعيد نصنيعه دون تكلفة نقل عالية، وقرية بلمشط تتوسط 7 قرى فيمكن [لنساء القرى الأخرى] الوصول إليها بسهولة".
الموضة المستدامة VS الموضة السريعة
كل خطوة من خطوات إنتاج الملابس في مبادرة "جرين فاشون" خضراء أو صديقة للبيئة، بدءاً من جمع القصاصات من المصانع القريبة من ورش التصنيع، واستخدام ماكينات خياطة تعمل بالطاقة الشمسية، واختيار خامات قابلة للتحلل كلياً أو جزئياً في التربة، وأصباغ من مواد طبيعية مثل البنجر، وترشيد استخدام المياه، وحتى العاملات اللواتي يأتين من أماكن قريبة من دون الحاجة لاستخدام وسائل مواصلات سعياً لتنفيذ عملية تصنيع كاملة من دون كربون.
تتلخص مبادئ "الموضة المستدامة" في إعادة تدوير الملابس المستعملة بدلاً من التخلص منها بالدفن أو الحرق، وتقليل إهدار الأقمشة، واستخدام ألياف قابلة للتحلل في التربة، وترشيد استخدام المياه. ويضاف إلى هذا كله ظروف عمل تحترم العاملات والعاملين
ويعمل مشروع "جرين فاشون" على نوعين من المخلفات، توضح هدير: "فيه قطع قماش كبيرة بنقدر نشتغل عليها براحتنا، وفيه قطع تانية بتبقى ربع متر ونص متر، بنوظفها وبنطلع منها منتج، وده بيرجع للمصممين اللي شغالين معانا واللي بيدربوا السيدات على استغلال كل قطعة قماش ولو كانت عدة سنتيمترات، لتقليل الهادر بقدر الإمكان، ولإن ده أسلوب أصعب لتفصيل الملابس، استغرقنا حوالي سنة في بداية المشروع في التدريب للوصول للجودة المطلوبة".
وتضيف: "إعادة تدوير الملابس المستعملة بدلاً من التخلص منها ينتهي بها المطاف إلى الدفن أو الحرق، وتقليل هدر الأقمشة، واستخدام ألياف قابلة للتحلل في التربة، وترشيد استخدام المياه، كلها عمليات تهتم بها الموضة المستدامة، تلك الصيحة النامية لإيجاد طريقة بديلة لتصنيع أو اقتناء الملابس بصورة صديقة للبيئة، تقف على النقيض مع "الموضة السريعة"، المصطلح الذي يشير إلى الإنتاج الضخم السريع للملابس وبيعها بأسعار زهيدة تسمح للمستهلك العادي شراء آخر صيحات الموضة في كل موسم، بغض النظر عن الأضرار البيئية التي تقف وراء هذه العملية".
صناعة الأزياء تمثل نسبة 20% من مياه الصرف الصحي عالمياً. ورغم كل هذه الأضرار تجري إعادة تدوير جزء بسيط فقط مما يتم تصنيعه، بينما تحرق 87% من إجمالي مدخلات الألياف المستخدمة في الملابس أو ترسل إلى مكب النفايات
وبحسب "بلومبرغ"، تعتمد صناعة الأزياء الحديثة بشكل كبير على المنتجات البتروكيماوية، التي تأتي من العديد من شركات النفط والغاز، وتمثل الموضة ما يصل إلى 10% من إنتاج ثاني أكسيد الكربون العالمي - وهو معدل يزيد عن المنتج من الرحلات الجوية الدوية والشحن مجتمعة، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة-
كما أن الموضة السريعة تمثل مصدراً لخُمس البلاستيك المنتج عالمياً كل عام (300 مليون طن)، إذ يتجاوز استخدام البوليستر - وهو شكل واسع الانتشار من البلاستيك المشتق من البترول- استخدام القطن باعتباره العمود الفقري لإنتاج المنسوجات، وتعتبر الملابس المصنوعة من البوليستر والألياف الصناعية الأخرى، مصدراً رئيسياً لتلوث البلاستيك الدقيق، الذي يعد ضاراً بشكل خاص بالحياة البحرية.
إضافة إلى ذلك، بحسب مقال "ريتشاد دوليتل" و"جاكي غو" لبلومبرغ، فإن صناعة الأزياء تمثل نسبة 20% من مياه الصرف الصحي عالمياً. ورغم كل هذه الأضرار تجري إعادة تدوير جزء بسيط فقط مما يتم تصنيعه، بينما تحرق 87% من إجمالي مدخلات الألياف المستخدمة في الملابس أو ترسل إلى مكب النفايات.
بيئة عمل صديقة للمرأة
وجدت "أم يوسف"، إحدى نساء قرية بلمشط ما يناسب طموحها في ورش "جرين فاشون"، فعلى الرغم من حصولها على مؤهل عالٍ، لم تتمكن من العمل بعد زواجها، وفي نفس الوقت تسعى لزيادة دخلها لضمان تعليم أفضل لأبنائها: "أسلوب العمل في ورش جرين فاشون مرن، فممكن نشتغل 8 ساعات بنظام يوم كامل، أو 4 ساعات بنظام نصف يوم، وفيه كيدز إريا لأطفالنا، نقدر ناخدهم معانا ونتطمئن عليهم في أي وقت"، وبفضل لباقتها وسرعة استيعابها أصبحت "أم يوسف" مدربة للعاملات الجدد وتتقاضى أجرين، مقابل عملها ومقابل التدريب.
تقول هدير شلبي إن السيدات اللواتي يعملن في ورش المشروع، لهن العديد من المزايا، منها: الحصول على راتب ثابت وحوافز تتعلق بالجودة والإنتاج، وإمكانية العمل أربع ساعات فقط داخل الورشة واستكمال الإنتاج من المنزل، وإمكانية العمل من المنزل: "كل العاملات عندنا من النساء، وبيعمل عندنا في الورش بشكل أساسي 50 سيدة، لكننا في الواقع دربنا أكثر من 350 سيدة على العمل، واللي مش بتفضل تنزل الورش ممكن نستعين بيها في أوقات الضغط وتاخد شغل تعمله من بيتها، وأحياناً بنوفر ماكينات خياطة، لكن على نطاق ضيق، لإن بعض السيدات لما بيمروا بأزمات مادية بيبيعوا الماكينات، واحنا مش بناخد عليهم إيصالات أمانة أو أي ضمانات لإن اللي هتدفع الثمن في الآخر هي المرأة".
إلى جانب ذلك، عقدت "جرين فاشون" عدة اتفاقات مع جهات حكومية وخاصة، لتوفير مزايا أخرى للعاملات مثل: إعاشة في شهر رمضان، وبطانيات في فصل الشتاء، وحملة للكشف عن العيون، وتقديم دعم نفسي للنساء المعنفات، وإعانات للدراسة لأطفال غير القادرين، وكذلك فصول محو أمية، وربط التعليم بالترقي في العمل: "كل دي حوافز بتحمس السيدات للعمل في ورش جرين فاشون، وفيه سيدات بعد تلقي التدريب بيختاروا يفتحوا مشروع من بيتهم، وده شيء بيسعدنا"، والآن يجري المشروع شراكة مع «صناع الخير»، و مبادرة «حياة كريمة» (حكومية مدعومة من البنك الدولي) لتكرار التجربة في قرى أخرى.
يجدر بالذكر أن هناك 40 مليون شخص حول العالم يعانون مما يعرف بـ"العبودية الحديثة"، أغلبهم من النساء والصغيرات اللواتي يعملن في صناعة الأزياء أو معامل "الموضة السريعة" في قارة آسيا. وبحسب تقرير أصدرته أوكسفام - الاتحاد الدولي للمنظمات الخيرية التي تركز على تقليل حدة الفقر في العالم- عام 2019 بعنوان : "صنع في فقر- السعر الحقيقي للأزياء"، فإن عمال مصانع الموضة يتقاضون في المتوسط 4% من سعر بيع الملابس بالتجزئة، أي أنه عندما يباع فستاناً بـ25 دولاراً في دار للأزياء السريعة، يذهب دولار واحد إلى جيب العامل.
خطوات نحو النجاح
حصل مشروع " جرين فاشون" على عدة جوائز على مدار عمره البالغ أربع سنوات، مثل جائزة القلادة كأفضل مشروع اجتماعي بيئي ناشئ من مؤسسة محمد بن فهد العالمية، واجتاز مراحل متقدمة في مبادرة "بداية حلم" الحكومية لدعم المبادرات الاجتماعية، وجائزة مسابقة الشركات العربية الناشئة لمنتدى MIT لريادة الأعمال في العالم العربي، وغير ذلك. تقول شلبي: "كل دعم أو أموال تأتي للمشروع تدخل في رأس المال علشان نقدر نكمل، لإننا بدأنا بتمويل ذاتي".
ومؤخراً تأهلت المبادرة للمشاركة في مؤتمر المناخ COP 27، الذي استضافته مصر بين 6 و18 نوفمبر/ تشرين 2022، وعرضت أفكارها تحت منصة أكاديمية البحث العلمي، وخلال المؤتمر تواصلت مع أصحاب أفكار جديدة بينها " Smart Recycle Bin". توضح شلبي: "دي عبارة عن سلة ذكية بتجمع مخلفات الملابس من الأماكن المختلفة، وهتتعاقد مع الجامعات، لنشر ثقافة الموضة المستدامة بين الطلاب، وهيقدر كل طالب عنده ملابس قديمة يتبرع بيها للسلة وياخد مقابلها خصومات على منتج من منتجاتنا".
واليوم ارتفع عدد مؤسسي "جرين فاشون" إلى 15 شخصاً، واستطاعت سيدات المبادرة إنتاج أكثر من 60 ألف قطعة ملابس صديقة للبيئة، تم تصدير 60% منها لمعارض في الخارج في دول مثل المغرب والإمارات، أما الـ40% المتبقية فتم بيعها محلياً. تقول هدير شلبي: "من مميزات منتجاتنا إن أسعارها متقاربة مع الأسعار السائدة في السوق للملابس الجاهزة، ومع ذلك إحنا بنقدر نحقق مكسب، وبنسعى للحصول على شهادات مثل Eco Label، علشان نقدر نصدر للدول الأوروبية، فمثلا ألمانيا بتطلب شهادات تثبت أن منتجاتنا 100% صديقة للبيئة وخالية من الإشعاعات والمواد الكيميائية وغير مضرة بالجلد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...