"عندما أسمع كلمة فريب، تنتقل حالتي النّفسيّة من الاكتئاب والضّجر إلى المرح والحلم بملابس جديدة، زهيدة الثمن، أنسّقها حسب الإطلالة التي أختارها"، هكذا تصف صديقتي سوق الملابس المستعملة في تونس، التي يطلق عليها اسم "الفريب" المأخوذ من كلمة fripe الفرنسية. تقوم بتوزيعها حوالي 250 شركة أجنبية ومحلية متخصصة في هذا المجال، وتجتذب أسعارها المقبولة أعداداً كبيرة من الزبائن الذين تتبخر رواتبهم قبل نهاية الشهر بسبب غلاء المعيشة.
وقد لاحظنا خلال السنوات الأخيرة اتساع هذه الأسواق، لتكتسح مساحات كانت مخصصة من قبل للملابس الجاهزة، وتحتل حيزاً هاماً من قطاع النسيج والملابس، إذ كشف استطلاع رأي أجرته شركة "سيغما كونساي" أن 70% من التونسيين يقتنون حاجاتهم من سوق الملابس المستعملة، وأن هذا القطاع يُشغّل أكثر من عشرة آلاف تونسي.
محل poupouma في المرسى للملابس المستعملة
ظهر "الفريب" وبيع الملابس المستعملة في بادئ الأمر مع تأسّس "سوق القشّاشين"، وتنحدر كلمة القشاشين من فعل "قشّ"، أي جمع أشياء مختلفةً من هُنا وهناك. تقع هذه السّوق غرب جامع الزّيتونة، وقد تمّ بناؤها زمن الدولة الحفصيّة، وكانت وجهة الفئة الفقيرة والمتوسّطة من المجتمع على حدّ سواء، تقصدها النّسوة لشراء ملابس مستعملة ذات جودة عالية ولكن بأسعار منخفضة جداً.
كشف استطلاع رأي أجرته شركة "سيغما كونساي" أن 70% من التونسيين يقتنون حاجاتهم من سوق الملابس المستعملة، وأن هذا القطاع يُشغّل أكثر من عشرة آلاف تونسي
اليوم تنتشر هذه الأسواق على شكل محلّات كبيرة، تُرتب فيها الملابس وتُعرض بشكل متناسق ومثير. أشهرها فريب "غريدا"، وهو سلسلة من المحلاّت التي تنتشر في كامل الولايات التونسية، وتتراوح الأسعار فيها بين دينار واحد و45 ديناراً.
نجد أيضاً عدة مشاريع انطلقت في السنوات الأخيرة من مبدأ الحفاظ على البيئة، مثل محل poupouma في المرسى، الذي يحاول بطريقة مبتكرة أن يخفف من الهدر والتصنيع، لأن صناعة الأزياء تسبب ضرراً كبيراً على المناخ، إذ تخلق 1.2 مليار طن من انبعاثات الغازات في كل عام، وهو أكثر مما تنتجه الرحلات الجوية والبحرية معاً. لذلك يتبنى المحل شعار "الملابس المستعملة لإنقاذ الكوكب".
تتجول التونسيات بين أكوام الملابس القديمة، أو ما يصطلح على تسميتها "بالات الفريب" لفرز الألبسة، وهي تلك الأكياس البلاستيكيّة التي توضع فيها الملابس ويتمّ فتحها بطريقة استعراضيّة، على حد قول سمية (33 سنة) التي تتّجه صباح كل يوم ثلاثاء لفريب "باب الفلة" خصّيصاً، كي تكون أوّل المكتشفين عند فتح البالة، فتحظى بفرصة اختيار القطع المميزة. تقول في حديث مع رصيف 22:
"في فريب باب الفلّة، تُفتح البالات الجديدة يوم الثلاثاء من السّاعة السابعة صباحاً، ليُشهر صاحب البالة سلعته وسط جَمع من الشّغوفين المتأهّبين لاختطاف القطع، وهي لا تزال تبحث عن طريقها للوقوع على الطاولة. تتهافت عليها الأيادي من كلّ صوب وحدب، وفي بعض الأحيان تشتعل المشاجرات حولها".
البالات: أكياس عملاقة مغلقة تُباع لصغار باعة الفريب
البالة نزوة الأغنياء
تقضي الشابات ساعات متنقلات بين بالة وأخرى دون ملل، بين الملابس والأحذية والحقائب، لكن الأسعار متفاوتة وقد تصل لحدود 220 ديناراً، وهو ثمن باهظ بالنسبة لملابس مستعملة، وكذلك بالنسبة لمواطن يعيش في بلد يبلغ فيه الحد الأدنى للأجور 471 ديناراً.
تعلّق سمية: "تعرض أسواق الفريب ملابس فاخرة لعلامات تجارية يقتنيها الأغنياء الذين باتت البالة قبلة لهم، مع مواكبتهم جنون الموضة وانتشار آخر صيحاتها عبر الإنترنت".
تصطف يومياً طوابير من السيارات الفاخرة القادمة من الأحياء الراقية على جنبات شوارع أسواق البالة التي تعرض سلعاً جديدة لماركات عالمية بأسعار مناسبة وتقدّم تخفيضات تمكّنهم من التوفير. هذه المنافسة التي تعتبر "غير شريفة"، باتت تؤثر سلباً على المواطن العادي
وبات العديد من المؤثرين في السوشيال ميديا يقومون بإعلانات لمحلاّت الثياب المستعملة التي اكتسحت للفضاء الإشهاريّ وبوابة الإنستغرام، ما أدّى إلى ارتفاع غير مسبوق للأسعار، وانهيار القدرة الشرائية للطبقتين الوسطى والفقيرة التي كانت تجد فيه متنفّساً.
إنفلونسر تونسية بلباس من البالة
تصطف يومياً طوابير من السيارات الفاخرة القادمة من الأحياء الراقية على جنبات شوارع أسواق الفريب التي تعرض سلعاً جديدة لماركات عالمية بأسعار مناسبة وتقدّم تخفيضات تمكّنهم من التوفير. هذه المنافسة التي تعتبر "غير شريفة"، باتت تؤثر سلباً على المواطن العادي الذي كان يتجه للفريب لإرضاء نفسه بملابس مناسبة تواكب الموضة.
تقول مريم (31 سنة) لرصيف22: "في السنوات الماضية، كنت أستطيع بمبلغ زهيد لا يكاد يتجاوز الثلاثين ديناراً أن أشتري العديد من القطع المتفردة التي تناسب ذوقي، وسط مجتمع يولي أهميّة كبرى لهذا الجانب، ولكن في السنوات الاخيرة، وبالأخصّ بعد الحجر الصحي، ارتفعت الأسعار بشكل مثير للقلق، وكأنّ الباعة يعوّضون خسائرهم باستغلال المواطنين الذين يبحثون عن ضالتهم في البالة".
كما أن إقبال الطبقة الميسورة على البالة جعلها في تشابه وتنافس مع ما يُعرض في محلات بيع الملابس الجاهزة، ونجد في البالة ماركات عالمية شهيرة لا نمتلك محلات لها في تونس، مثل "شانيل"، إذ يمكنك ببعض الحظّ العثور على حقيبة شانيل التي يتطلّب الحصول عليها اللجوء إلى خارج البلاد.
للملابس المستعملة في تونس رمزيّة متّصلة بالحب بشكل لا يخلو من طرافة، حيث تم تفعيل هاشتاغ "كان يحبّك يهزّك للفريب"، أي: إذا كان يحبك سيأخذك للفريب، وبالتالي فقد أصبح الفريب في السنوات الأخيرة جزءاً من حياة التونسيين
أجواء ملوّنة ومرحة
أمّا عن الأجواء التي تسود هذه الأسواق فهي الفكاهة والاستعراض، إذ يتفنن الباعة في مخاطبة المتسوقين لاستجلابهم، فيردّدون مثلاً: "اشري روبة تصبحي مخطوبة"، "البسي ) jupeتنورة( تتزوجي طبيب"، "هُزّي الروب بدينار "، "على كل لون يا كريمة"... جملٌ مرحة تدغدغ التونسي بما فيها من إيحاءات جنسيّة، وخصوصاً إذا تعلّق الأمر بالنّسوة اللواتي تراهنّ يقلّبن في هدوء وصبر أكداس الملابس القديمة...
زياد شاب يبلغ من العمر 35 عاماً، ينتمي إلى الفئة المتوسطة ويشتغل أستاذ تعليم ثانوي، كان من بين المولعين بالفريب منذ سنّ الحادية عشرة، لاقتناء ما يلزمه من ملابس بثمن منخفضٍ ووفقا للميزانيّة التي يوفرها له والداه، إلاّ أنّه ما يزال إلى حد الآن يرتاد السّوق مرتين في الشّهر.
يقول لرصيف 22: "الفريب هو المكان الوحيد الذي يناسب مقدرتي الشرائية ويمكّنني من شراء الماركات العالمية، خاصة الأحذية الرياضية بالتحديد، التي يكون ثمنها في الفريب حوالي 350 ديناراً، بينما يتعدّى ثمنها الحقيقي الألف دينار". ويبرّر الباعة، ومنهم محرز الذي يعمل في فريب "باب الخضراء"، هذا الغلاء بارتفاع تكلفة الشّحن، إلى جانب تفطّنه واطلاعه على عرض هذه الماركات العالميّة وأسعارها عبر الإنترنت، يقول: "الماركات التي أقدّمها هي نفسها التي تُعرض في أرقى المحلاّت حول العالم".
البالة والحب
للملابس المستعملة في تونس رمزيّة متّصلة بالحب بشكل لا يخلو من طرافة، حيث تم تفعيل هاشتاغ "كان يحبّك يهزّك للفريب"، أي: إذا كان يحبك سيأخذك للفريب، وبالتالي فقد أصبح الفريب في السنوات الأخيرة جزءاً من حياة التونسيين، وبالأخص في ذهنية الشباب العاطلين عن العمل، والطلبة الذين يريدون الشعور بأن بمقدورهم إهداء ملابس لبعضهم البعض من البالة، كدليل عن الحب وعلى تقاسم تفاصيل الحياة اليومية.
الاستهلاك هو أبسط شكل من أشكال الدواء عندما يتعلق الأمر بالتعويض عن إحباطات الحياة اليومية، وأن حاجة الإنسان إلى عامل الصدفة والمفاجأة يجعله يلبي هذه الرغبة أمام أكداس من الملابس التي تتنوع فيها الألوان والأشكال، ليشعر بهذا الانبهار المفاجئ عندما يجد صدفة ما يلبي رغبته
فستان vintage عاري الظهر من الفريب
تقول أماني (28 سنة) في حديث مع رصيف 22: "الفريب هواية أمارسها بشكل دوريّ، وعملية الفرز بالنسبة إلي فرصة نادرة للتخلّص من الضّغط الذي أعاني منه يومياً". وهنا، فإن للفريب فوائد اجتماعية ونفسية بات من الضّروري على علماء الاجتماع التطرق إليها، ويقول الأستاذ كارل كولمان، الذي أجرى بحثاً عن الشراء القهري لصالح غرفة العمل النمساوية "أربياتركامر"، إن الكثيرين يسعون لتخفيف الضغط الذي يتولد في نهاية يوم عمل مجهد، بمكافأة أنفسهم بشراء سترة جديدة.
ويضيف بأن الاستهلاك هو أبسط شكل من أشكال الدواء عندما يتعلق الأمر بالتعويض عن إحباطات الحياة اليومية، وأن حاجة الإنسان إلى عامل الصدفة والمفاجأة يجعله يلبي هذه الرغبة أمام أكداس من الملابس التي تتنوع فيها الألوان والأشكال، ليشعر بهذا الانبهار المفاجئ عندما يجد صدفة ما يلبي رغبته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون