شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
في مصر...

في مصر... "مشاتل نباتات الزينة" الطريق الأقصر إلى التصحّر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الثلاثاء 7 فبراير 202310:14 ص

عشر سنوات مرت على آخر زيارات أسرتي لقرية العائلة في إحدى قرى محافظة البحيرة، اضطررت خلالها إلى السفر في زيارات خاطفة لأداء واجب عزاء أو لمُباركة زواج، وشعرت حينها بالضيق مع تغير ملامح الريف الذي اعتدته.

كان التطوير هو الهدف الأول للتغيير، إلا أنه جاء باهتاً مُشوّهاً لطبيعة البيئة، فطوال الطريق امتدت مبانٍ سكنية على الأراضي الزراعية، وداخل المنازل استقرت النساء أمام مباريات المصارعة الحرة والمسلسلات التركية، وظل الأبناء على حالهم، فقلّما التحق أحدهم بالتعليم الجامعي، بينما استبدل الآباء الزراعة بالتجارة وقيادة "التوك توك".

لم يكن ذلك الوجه الأوحد لتغير طبيعة البيئة الريفية المصرية، ففي الجيزة اتخذت القرية شكلاً آخر للتشبه بالمدينة، وتنازل المزارعون وملاك الأراضي عن طبيعة عملهم ضمن بيئة مُنتجة رغبةً في الربح المادي، بغض النظر عما يُمثله ذلك من خطورة على التربة الزراعية، وأحالوا نشاطهم من زراعة المحاصيل إلى مشاتل نباتات الزينة.

في الجيزة تنازل المزارعون عن أراضيهم وأحالوا نشاطهم من زراعة المحاصيل إلى مشاتل نباتات الزينة رغبة بالربح.

ولا تقتصر الأزمة كما اتضح خلال العمل على هذا التقرير على قرى الجيزة، فالسلوك ذاته يتكرر في كثير من المناطق الزراعية في مصر.

المجازفة بحثاً عن حياة كريمة

عاش محمد سميح، في بيئة مُنتجة خالصة مع أسرته، فوالده يمتلك أرضاً زراعيةً ومزرعة مواشٍ صغيرةً تدرّ ربحاً جيداً يُغطي نفقات الأسرة ويفيض. كان الأخ الأكبر يُشارك الأب في الزراعة وتربية المواشي، وما أن كبر الأشقاء الثلاثة الأصغر الحاصلون على قسط من التعليم، حتى قرروا تحويل نشاط الأرض إلى مشتل لزراعة نباتات الزينة. يقول محمد لرصيف22، إن الجهد الأقل والدخل الأكبر كانا الهدف الرئيسي لقرارهم، فالمشتل يحقق لهم الدخل المادي الكافي لحياة كريمة.

يعتمد سميح وأخوته على النباتات "الحَوْلِيّة" في كسب رزقهم، أي التي تعيش لموسم أو عام واحد على الأكثر، وتشمل البيتونيا والقرنفل والبانسيه والجازنيا والأقحوان والسيلڤيا والونكا، ويوضح أن حجم المكسب من زراعة فدان المشتل وإنتاجيته أفضل كثيراً من فدان المحاصيل الزراعية، برغم المجازفة في مجال المشتل، فبعض النباتات تموت بعد فترة قصيرة ولا تتحمل التخزين لموسم كامل كما يحدث مع المحاصيل الزراعية، إلى جانب مشكلات أخرى متعلقة بالمشاتل، إلا أن ذلك لم يثنِه عن الاستمرار في نشاطه الجديد.

ووفق تقديراته، فإن قرابة 40% من الأراضي الزراعية في قريته الواقعة في منطقة المنصورية في الجيزة، حُوّل النشاط فيها إلى مشاتل نباتات الزينة، إذ إن الحواصل الزراعية في القرية لم تعد تُحقق الاكتفاء الذاتي، ويقول سميح إن تجريف الأرض أكبر الأضرار الناتجة عن ذلك التحول، إذ يتوقف الملاك عن تقليب الطبقة الخارجية من الأرض، كذلك تفتقد التغذية التي تنالها وقت زراعة المحاصيل.

الربح السريع

لم يختلف الأمر كثيراً في حالة زياد العربي، الذي يعمل في مجال المشاتل منذ سنوات، ويعتمد فيها على زراعة الدارنتا والهايبسكس واليوفريبا وغيرها، رغبةً في الربح الوفير في مدة زمنية قصيرة.

يقول زياد لرصيف22، وقد فضّل استخدام اسم مستعار، إنه كان يزرع القمح أو البرسيم بتكلفة مادية مرتفعة جداً، بين أسمدة ومبيدات وري وعمالة، مقابل عائد قليل، مضيفاً أن القمح يُباع للحكومة بسعر محدد لا يتناسب مع المدة اللازمة لزراعته ونفقاته، فيبقى في الأرض ستة أشهر، ولا بد من إراحتها شهراً كاملاً قبل زراعة محصول آخر، ويُباع الأردب (150 كيلوغراماً)، بمبلغ 700 جنيه مصري فقط (قرابة 24 دولاراً)، بينما يُنتج الفدان ما يُقارب 17 أردباً فقط.

وبسبب الرغبة في تحقيق الأرباح، بات ملاك الأراضي يفضلون تأجيرها كمشاتل لقاء 60 ألف جنيه (2،000 دولار)، للفدان في العام، بدلاً من 10 إلى 20 ألف جنيه للفدان في العام في حالة تأجيرها لزراعة المحاصيل.

ويشير المتحدث إلى أن قريته الواقعة في جنوب الدلتا تحولت بأغلبيتها إلى مشاتل، واصفاً ذلك بأنه "كارثة" تحوّل الأرض إلى كتل خرسانية، فالمشاتل لا تسمح بدخول آلة الحرث للأرض أو تقليبها، وفي حالة العودة إلى زراعتها بالمحاصيل يجب تقليبها على عمق لا يقل عن متر ونصف أو مترين لإعادة إحيائها.

ويختم حديثه بالقول: "لو كنت أحصل على العائد المناسب من المحاصيل الزراعية، لم أكن لأتحول إلى زراعة المشاتل، والمؤسف أنه مع توقف الزراعة في القرية بشكل شبه كلي، صرنا أنا وغيري من الأهالي نشتري مستلزماتنا من القرى المجاورة".

تحويل نشاط الأرض الزراعية إلى المشاتل يُفقدها الخدمة والحرث، مما يزيد فيها المياه الجوفية والأملاح وتالياً التصحر، فتكون الأرض حينها غير قادرةً على الإنتاج الزراعي، فضلاً عن تقليل الكائنات النافعة في التربة، فإذا زُرعت بالمحاصيل مرةً أخرى تنخفض إنتاجيتها

ارتفاع الإيجارات

إقبال مُلاك الأراضي على تأجيرها كمشاتل، وضع المزارع كامل حسن مزارع في مأزق، هو وغيره من المستأجرين، ويقول لرصيف22، إن المشاتل ظهرت في قريته كفر حكيم في الجيزة منذ 15 عاماً، إلا أنها تزايدت في السنوات الخمس الأخيرة، موضحاً أنه كان يستأجر الفدان بمبلغ 10 أو 12 ألف جنيهاً (400 دولار) في العام، لكن منذ ظهور المشاتل قرر أصحاب الأرض رفع الإيجار لمجاراة المشاتل التي تصل قيمة إيجاراتها إلى 40 أو 50 ألف جنيه للفدان في العام الواحد، وذلك يفوق قدرته.

العجز عن توفير الطعام الأساسي من داخل القرية شبح يلاحق حسن وأمثاله، فالعائلات الكبرى في قريته والتي تمتلك المساحة الأكبر من الأراضي الزراعية حوّل أبناؤها النشاط إلى زراعة المشاتل، ويوضح أن القرية كانت تنتج القمح والخضروات وهو ما كان يُحقق لسكانها الاكتفاء الذاتي، ففكرة شراء الخضروات لم تكن مُنتشرةً في مجتمعهم، إذ إن وفرة الإنتاج تخلق نوعاً من التراحم بين أهالي القرية ليوزع كل منهم على جيرانه، لكن اليوم تحولت قريته إلى شبه مدينة تستورد احتياجاتها من القرى المجاورة بسعر المدينة.

بسبب الرغبة في تحقيق الأرباح، بات ملاك الأراضي يفضلون تأجيرها كمشاتل.

الخروج الآمن

في حزيران/ يونيو 2018، أعلن مستشار رئيس الجمهورية للقطاع الزراعي الدكتور هاني الكاتب، عن فقدان مصر 3.5 فدادين من مساحتها الزراعية كل ساعة، وهو ما ذُكر في تقرير الأمم المتحدة بمناسبة اليوم العالمي للتصحر في حزيران/ يونيو 2011، حسب ما نشرته الصحف المصرية حينها، وتحتل مصر مرتبةً مرتفعةً ضمن البلدان المعرضة لخطر التصحر.

الدكتور أبو زيد عبد المحسن باحث أول في معهد المحاصيل الزراعية التابع لوزارة الزراعية المصرية، يقول لرصيف22، إن تحويل نشاط الأرض الزراعية إلى المشاتل يُفقدها الخدمة والحرث، مما يزيد فيها المياه الجوفية والأملاح وتالياً التصحر، فتكون الأرض حينها غير قادرةً على الإنتاج الزراعي، فضلاً عن تقليل الكائنات النافعة في التربة، فإذا زُرعت بالمحاصيل مرةً أخرى تنخفض إنتاجيتها.

تتسع دائرة الضرر في رأي أبو زيد، مع بناء أحواض شتلات بمواد البناء التي تزيد نسبة الجير في التربة وتؤثر على خصوبتها، موضحاً أن إنتاجية الأرض تنخفض بنسبة 60% خلال مدة تتراوح بين 3 إلى 4 سنوات، فالشتلات ترفع مستوى المياه الأرضية، وتظهر معها الحشائش المعمرة مثل النجيل والسعد، مضيفاً أن الأمر لا يقتصر على شتلات نباتات الزينة فقط، فحتى شتلات الخضروات والفاكهة تضرّ بالأرض الزراعية، فالأزمة في الشتلات ذاتها وليس في نوعها، وهي منتشرة في جميع أنحاء مصر بشكل عام.

قرابة 40% من الأراضي الزراعية في قريته، حُوّل النشاط فيها إلى مشاتل نباتات الزينة، إذ إن الزراعة لم تعد تُحقق الاكتفاء الذاتي، وتجريف الأرض هو أكبر الأضرار الناتجة عن ذلك التحول، إذ يتوقف الملاك عن تقليب الطبقة الخارجية من الأرض، كذلك تفتقد التغذية التي تنالها وقت زراعة المحاصيل

وفي 2020 أصدر الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تقريراً حول مساحة الأراضي الزراعية في مصر لسنة 2019، فبلغت مساحة الأراضي الزراعية 10.3 ملايين فدان عام 2019، مقابل 10.2 مليون فدان عام 2017 بزيادة 0.8%، بينها 9.2 مليون فدان صالحة للزراعة، و1.1 مليون فدان غير قابلة للزراعة، وذكر التقرير انخفاض مساحة الأراضي الزراعية المملوكة للأهالي بنسبة 0.5%، فبلغت 7.41 مليون فدان عام 2019، مقابل 7.45 مليون فدان عام 2017، فيما شهدت الأراضي الزراعية المملوكة للحكومة زيادةً بنسبة 7.5%، فبلغت 1.8% مليون فدان عام 2019، مقابل 1.7 ملايين فدان عام 2017.

لم تُذكر المشاتل كسبب لتلف الأراضي الزراعية في أي من البيانات الرسمية حتى الآن، ولم تُعلن الحكومة مبادرةً رسميةً للحد من انتشارها ضمن الأراضي الزراعية والعمل على نقلها إلى الصحراء. يكمن الحل الأمثل في نظر عبد المحسن، في استخدام الأراضي الأقل خصوبةً وغير المُجدية في زراعة المحاصيل، واستغلال الأراضي التي لا تصلها مياه الري الواقعة في نهاية الترع كمشاتل.

ويختم بالقول: "لا يصح إهدار الأراضي الزراعية وإنتاجها الذي يُمثل الأمن الغذائي لنا وللأجيال القادمة لصالح المشاتل، كما أن انخفاض الإنتاج اليوم يأتي في ظل أزمة العملة الصعبة التي تحول دون استيراد المحاصيل من الخارج. الإنتاج هو الدور الأساسي للقرية، وما يحدث من تحويلها من بيئة مُنتجة إلى مُستهلكة يغير مفهومها ويحولها إلى نسخة جديدة من المدينة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image