في مثل هذا التوقيت من كل عام، يتمايل محصول الشعير بلونه الأخضر داخل الأراضي الزراعية الخضراء التي تمتد على مرمى البصر، ليرسم لوحةً فنيةً بديعةً في مدينة مرسى مطروح، إحدى المحافظات الساحلية في مصر، إلا أن المشهد اختلف هذا العام بعد انقطاع مياه الأمطار لمدة تجاوزت 50 يوماً عن المحافظة التي تعتمد على مياه الأمطار بشكل رئيسي في زراعة المحاصيل، لتتحول الأراضي الخضراء إلى صحراء خالية من النباتات.
"أمطار الخير"؛ هكذا يصف أبناء محافظة مطروح مياه الأمطار التي توفر لهم قوت يومهم من الغذاء، ومن دونها تتوقف حياتهم على حد تعبيرهم. محمد إسرافيل، أحد أبناء قرية "سيدي براني" في مرسى مطروح، أشار إلى تأخر زراعة محصول الشعير 60 يوماً بسبب غياب الأمطار، ولفت خلال تصريحات لرصيف22 إلى أن الأهالي لن يجدوا رغيف الخبز لإطعام أسرهم أو العلف لمواشيهم، وانقطاع الأمطار سيؤثر بشكل كبير على إنتاجية المحصول هذا العام.
يقول إسرافيل: "بدو مطروح من قاطني المناطق الصحراوية، يعتمدون على مياه الأمطار كلياً في زراعة محاصيلهم والشرب، من خلال تخزينها في الآبار، ويبلغ عدد سكان سيدي براني، 30 ألف نسمة، لا مصدر دخل لنا سوى زراعة الشعير والقمح والزيتون والتين، وعند حصاد المحصول نخزن ما يكفينا لمدة 3 أشهر ونبيع الباقي في المحافظات المجاورة، ونتيجة انقطاع مياه الأمطار بشكل مفاجئ الشهر الماضي، تعطلت الحياة عند جميع المزارعين".
بعد انقطاع مياه الأمطار لمدة تجاوزت 50 يوماً عن مرسى مطروح، تحولت الأراضي الخضراء إلى صحراء خالية من النباتات.
ووفقاً لإحصائيات وزارة الزراعة، تبلغ مساحة الأراضي المزروعة بالشعير في مطروح، قرابة 200 ألف فدان تعتمد على الري المطري، وتمتلك المحافظة مساحات كبيرةً من الأراضي الخصبة التي تصلح للزراعة، وهي ثاني محافظات مصر من حيث المساحة.
"من سيعوّضنا عن الخسارة؟"
كعادته، استأجر إسرافيل جرّاراً زراعياً لحرث أرضه، استعداداً لتجهيزها لزراعة الشعير في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وهي الفترة المناسبة للزراعة والحصول على إنتاجية مرتفعة، إلا أن غياب الأمطار تسبب في تأخير الزراعة، وتحمّل المزارعين نفقات كبيرةً على حد قوله. وأضاف المزارع: "حتى لو استقبلنا الأمطار في الأيام القادمة، فلن تجدي نفعاً، لأن موسم الزراعة تأخر ما يقارب الشهرين، وإنتاجية المحصول ستنخفض إلى النصف والفلاح وحده من سيتحمل الخسارة".
بدوره، اشتري عبد الله أبو مازن، 1،200 شتلة زيتون وجهّز أرضه وأتمّ الإجراءات اللازمة لزراعة محصوله كعادته من كل عام، إلا أن تأخر سقوط الأمطار عن موعدها عطّل المزارعين وأصبحت الشتلات مهددةً بالتلف. يقول لرصيف22: "تصل قيمة إيجار الفدان الواحد إلى 8 آلاف جنيه في العام (330 دولاراً)، من دون مصاريف الزراعة من أسمدة وأجور عمالة ومبيدات زراعية، والتي تتخطى تكلفتها 12 آلاف جنيه للفدان الواحد خلال الموسم (500 دولار). اشترينا شتلات الزيتون التي تشتهر بها مطروح، وانتظرنا سقوط الأمطار للبدء بالزراعة، إلا أن تأخرها خيّب آمال المزارعين، وجلسوا في منازلهم منتظرين عدالة السماء، ولا ندري من سيعوض خسائرهم".
ودفع انقطاع مياه الأمطار بمجموعة من كبار العائلات في مطروح، لجمع 60 ألف جنيه لحفر بئر جديدة، تحدث عنها عبد القادر شعيب، أحد أهالي مطروح، قائلاً: "نحن بدو الصحراء حياتنا صعبة وننتظر رحمة ربنا علينا، ولم يفكر أحد من المسؤولين في حل مشكلاتنا. المقتدرون فكروا في حفر بئر في محاولة لإنقاذ المحصول من التلف، إلا أنه لا يكفي سوى لزراعة مساحة محدودة، وارتفاع تكلفة حفر الآبار أدى إلى تحجيم الفكرة".
"نداء إلى جميع أهالي سيدي براني، ندعوكم إلى صلاة الاستسقاء". تلبيةً لهذه النداءات، ضجت مساجد مرسى مطروح بداية الشهر بتكبيرات المصلين، أملاً بسقوط الأمطار وقطع الجفاف الذي أصبح يهدد أراضيهم، إذ يرون أن الأمر لم يعد في أيدي البشر وإنما الحل سيأتي من السماء.
كعادته، استأجر محمد جرّاراً زراعياً لحرث أرضه، استعداداً لتجهيزها لزراعة الشعير في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وهي الفترة المناسبة للزراعة والحصول على إنتاجية مرتفعة، إلا أن غياب الأمطار تسبب في تأخير الزراعة، وتحمّل المزارعين نفقات كبيرةً
وقد أطلقت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، العام الفائت، تطبيقاً إلكترونياً تحت اسم "هدهد"، بغرض مساعدة الفلاحين في تحسين الزراعة وتفعيل منظومة الإرشاد الزراعي حسب احتياجاتهم. لكن نفى المزارعون ممن تحدثنا إليهم معرفتهم بأى تطبيق يخصهم، وانتقد أحدهم اعتماد الحكومة على التكنولوجيا الحديثة لمساعدتهم، مشيراً إلى ارتفاع نسبة الأمية بين الفلاحين، خاصةً في القرى البعيدة، كما أن شريحةً قليلةً من المزارعين تمتلك هواتف ذكيةً.
ظواهر متطرفة
عبر صفحتها على فيسبوك، تنشر الهيئة العامة للأرصاد الجوية المصرية، بيانات يوميةً تعلن فيها عن حالة الطقس، وتكشف توافر فرص ضعيفة لسقوط الأمطار على السواحل الشمالية، وارتفاع الحرارة عن معدلاتها الطبيعية في شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بنسبة تتراوح ما بين درجتين وثلاث درجات مئوية.
الدكتور أحمد عبد العال، الرئيس السابق للهيئة العامة للأرصاد الجوية، أوضح أن التغيرات المناخية من الأسباب الرئيسية في تغير حالة الطقس في مصر والعالم بأكمله، والقطاع الزراعى الأكثر تضرراً، لافتاً خلال تصريحات لرصيف22، إلى أن تعرّض البلاد لمرتفعات جوية في طبقات الجو العليا، واستقبال كتل هوائية قادمة من الصحراء، ساعدا على رفع حرارة الطقس وسطوع أشعة الشمس واختفاء السحب المنخفضة والممطرة.
وتوقع عبد العال، انحسار سقوط الأمطار على مناطق من السواحل الشمالية، وكما شهدنا طقساً متطرفاً في الصيف حين تجاوزت الحرارة 40 درجةً مئويةً، على غير المعتاد، جنوب البلاد، من المتوقع أن نشهد ظواهر جويةً متطرفةً خلال الشتاء الحالي، مثل السيول.
ضمن السياق نفسه، يؤكد الدكتور مجدي علام، أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، أن أحد الأسباب الرئيسية في انقطاع سقوط مياه الأمطار في مواسمها الطبيعية، هو التغير المناخي، ولفت خلال تصريحات لرصيف22، إلى صعوبة التنبؤ بسيناريوهات حالة الطقس وخريطة سقوط الأمطار وسرعة الرياح، لأن الأقمار الصناعية لا تستطيع التنبؤ بتوقعات الطقس لأكثر من أسبوع واحد، وتالياً قد نفاجأ بأن التقديرات غير صحيحة.
وأشار إلى أنه خلال السنوات الأخيرة، حدث انحسار لجزء كبير من الحزام المطري، ما أثر بشكل كبير على الأراضي الزراعية التي تعتمد بشكل رئيسي على الأمطار، بدايةً من مدينة العريش المصرية حتى السلوم، بمسافة تصل إلى 450 ألف فدان.
التغيرات المناخية تسببت في انزياح أماكن سقوط الأمطار في المنطقة، وباتت تسبب حدوث نوبات جفاف متقاربة.
كما أوضح الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الزراعة في جامعة القاهرة، لرصيف22، أن التغيرات المناخية تسببت في انزياح أماكن سقوط الأمطار في المنطقة، فمثلاً في شهر آب/ أغسطس الفائت، كان يفترض أن تصل الأمطار إلى اليمن لكنها سقطت في السعودية والإمارات. ويؤثر ذلك على مصر التي تعتمد الزراعة في عدد من مناطقها، مثل مطروح، على مياه الأمطار.
كما نبّه إلى أن التغيرات المناخية باتت تسبب حدوث نوبات جفاف متقاربة، فبدلاً من حصولها في السابق كل 10 أعوام، باتت تحدث كل خمس سنوات، بجانب حدوث الظواهر الجامحة مثل السيول التي تأتي في غير مواعيدها، وتدمّر المحاصيل الزراعية والقرى والبنى التحتية. ويضيف أن انتظام سقوط الأمطار أفضل من استقبالها دفعةً واحدةً، لأن ذلك يحول دون الاستفادة منها.
حلول لإنعاش القطاع الزراعي
ذكر مجدي علام، أن تهديد التغيرات المناخية للقطاع الزراعي دفع الدولة لتحديد مناطق سقوط الأمطار في نطاق محافظة مرسى مطروح، للاستفادة منها، عن طريق إنشاء آبار وخزانات لتجميع الأمطار وتخزينها داخل أنابيب من الفخّار، منعاً لتبخّرها، لاستخدامها في الأغراض المنزلية والشرب وسقي الحيوانات والري.
وحول إمكانية اللجوء إلى تلقيح السحب والاستمطار الصناعي، أوضح علام أن التجربة طُبّقت في مصر، إلا أنها لم تحقق النجاح المطلوب، لأنه حتى الآن يصعب تحديد الأماكن التي تتطلب سقوط الأمطار عليها بدقة، إذ تم حقن سحب ركامية وأمطرت في صحراء ليبيا، وهو الأمر الذي يعمل عليه العلماء الآن لتحديد الأماكن بدقة أعلى.
من جانبه، أكد الدكتور شريف أبو القاسم، أستاذ الكيمياء والمبيدات في كلية الزراعة في جامعة الأزهر، أن الزراعة في "الصوب" ستكون من أهم الحلول لمواجهة التغيرات المناخية، إلى جانب تعزيز استنباط أصناف محاصيل مقاومة للتقلبات المناخية، وتغيير مواعيد الدورات الزراعية وفقاً للتغيرات الحالية والمستقبلية.
كما نبّه أبو القاسم إلى ضرورة تعزيز نظم الإنذار المبكر والتنبؤ بالمناخ الموسمي للحد من المخاطر، وزيادة رقعة المساحات الخضراء والتشجير، واستخدام عوامل المكافحة الحيوية للآفات، بجانب زيادة عدد المبيدات المستخدمة في المحاصيل المستقلبة، وهو حل منخفض التكلفة نسبياً وبسيط لكنه قد يكون غير فعال إذا انتشرت العديد من الآفات الحشرية وقاومت هذه المبيدات.
من الحلول المطروحة لمواجهة أزمة انقطاع الأمطار شحن الآبار الجوفية من خلال تخزين الأمطار في داخلها واستخدامها عند الحاجة، واتّباع نظام الخندقة وهي أشبه بالترعة أو الأنهار الصغيرة الموسمية لحصاد الأمطار، ونظام البيّارات وهو يشبه بلاعات الصرف الصحي المتجاورة
أما نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، فقد انتقد غياب الإرشاد الزراعي والمعلومة التي تساعد الفلاح في زراعة محاصيله، وقال لرصيف22: "كان على وزارة الزراعة أن تخبر الفلاحين بأن هذا الموسم جاف، حتى يؤجلوا زراعة المحصول إلى حين ظهور مؤشرات على ظهور السحب الممطرة وتوافر فرص سقوط الأمطار"، مطالباً الحكومة المصرية بعمل مخرات السيول وحفر الآبار وتحلية المياه حتى تصبح صالحةً للشرب، لاستخدامها في المواسم التي تنقطع فيها الأمطار.
وتحدث نادر نور الدين، عن بعض الحلول لمواجهة أزمة انقطاع الأمطار، منها شحن الآبار الجوفية في مناطق مثل شمال سيناء والعريش من خلال تخزين الأمطار في داخلها واستخدامها عند الحاجة، كذلك اتّباع نظام الخندقة وهي أشبه بالترعة أو الأنهار الصغيرة الموسمية لحصاد الأمطار، ونظام البيّارات الذي يلجأ إليه البدو، وهو يشبه بلاعات الصرف الصحي المتجاورة، فتُحفر بؤر عميقة أسفل الأرض، تحجز في داخلها مياه الأمطار، وتُغطّى إلى حين استخدامها، وهي غير مكلفة، ويمكن سحب المياه منها باستخدام محركات كهربائية.
ولفت نور الدين إلى أن السدود الترابية من الرمال، والتي يتراوح ارتفاعها من 5 إلى 10 أمتار، من الحلول العملية أيضاً، وفي محافظات الصعيد جنوب البلاد تقام مخرات للسيول أسفل البيوت، وتستقبل مياه الأمطار وتصبها داخل نهر النيل، لذلك نرى عكارة النهر وقت حدوث السيول؛ لأنها تحمل التربة الزراعية والرمال أيضاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 10 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 11 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت