تعتمد الدول المتحضّرة شبكات للصرف الصحي لتأمين تصريف آمن للمياه الآسنة والمبتذلة الصادرة عن المنازل والمنشآت بكافة أشكالها، ومعالجتها بالطرق العلمية والصحيّة، قبل رميها في الطبيعة أو إعادة استعمالها. أما في الدول النامية، ومنها لبنان، فتغيب هذه الشبكات عن مئات البلدات وتالياً يلجأ المواطنون إلى ما يسمونها "جوراً" أو حفراً صحيّةً، وهي واقعاً بعيدة كل البعد عما هو صحي.
وعندما يبني اللبنانيون منزلاً أو منشأةً ما، في المناطق التي تخلو من شبكات الصرف الصحي، يسلطون أنابيب الصرف الصحي الصادرة منه إلى حفرة قريبة، وهذه الحفرة عادةً ما تكون من حجارة متباعدة نوعاً ما، لكي تؤمّن تسرّب المياه الآسنة من داخلها إلى أعماق الأرض، وهنا تبدأ الكارثة، التي تهدد المواطنين وصحّتهم وكذلك تشكّل تهديداً حقيقيّاً للطبيعة.
عندما يبني اللبنانيون منزلاً في مناطق تخلو من شبكات الصرف الصحي، يسلطون أنابيب الصرف إلى حفرة قريبة.
خطر حقيقي
يتحدث قاسم نور الدين، وهو مواطن من جنوب لبنان، إلى رصيف22، عن معاناته مع ما تُسمّى الحفر الصحيّة، ويشير إلى أنها تصل إلى مرحلة تعجز معها التربة عن امتصاص المياه الآسنة المجمّعة داخلها، وعندها تفيض الحفرة ويضطر الناس إلى الاستعانة بشاحنة مخصصة لشفط هذه المياه ورميها بعيداً، على الأغلب في الوديان حيث لا حسيب ولا رقيب، ويتكلفون أعباء ماديةً قد تصل حتى 100 دولار، أي أكثر من الراتب الشهري لموظفي القطاع العام.
ويضيف نور الدين: "البعض يلجأ إلى مضخة صغيرة تضخ المياه من داخل الحفرة إلى خارجها، ويرمي الصادر منها في أرضه كل عشرة أيام أو كل شهر، وأحياناً تفيض هذه الحفرة وتتسرب مياهها إلى الخارج، وكل هذا يؤدّي إلى انتشار الروائح الكريهة التي تخنقنا، فضلاً عن تلوث الهواء والتربة وانتشار الذباب والبعّوض والديدان، خصوصاً في الصيف".
رئيس بلدية بني حيّان في قضاء مرجعيون في جنوب لبنان، يحيى جابر، يتحدث إلى رصيف22، عن مشكلات الحفر الصحية ويقول: "تعتمد معظم بلداتنا على الآبار الارتوازية للريّ والشرب والاستعمالات اليومية، وممنوع أن تكون هناك حفر صحية عمقها أقل من 500 إلى 1000 متر عن البئر الارتوازي، كون هذه الحفر تسرّب المياه داخلها إلى عمق 500 متر بحسب الخبراء، ووجود الحفر الصحية على أقل من هذه المسافة يشكل خطراً حقيقيّاً على مصدر المياه الوحيد للأهالي".
ويتحدث جابر عن الإشكالات التي تحصل أحياناً بين الأهالي جرّاء الحفر الصحية، خصوصاً عندما تفيض الحفرة بالمياه الآسنة، وتؤدي إلى انزعاج الجيران جراء الروائح الكريهة وما يرافقها من حشرات، لكن تتم معالجة الأمر فوراً عبر الحل الوحيد والممكن ألا وهو تفريغ هذه الحفر من المياه الآسنة.
حفر الصرف الصحي في لبنان وتبدو المياه الآسنة وهي تخرج منها
مكوّنات مياه الصرف الصحي
يشرح المهندس البيئي والزراعي الدكتور حسين مرتضى، لرصيف22، عن مكونّات مياه الصرف الصحي، فهذه المياه تتكوّن بشكلٍ تقريبي من 99% من المياه و1% من المواد العضوية وغير العضوية على شكل مواد ذائبة تتكون من البروتين والسيليلوز والدهون والمواد غير العضوية، وأخرى عالقة تتألف من مواد كحولية ودهون حمضية وأحماض أمينية.
وتتراوح قيمة الرقم الهيدروجيني في مياه الصرف الصحي المنزلية ما بين 6.7 إلى 8، في حين تقع القيمة الطبيعية في مياه الصرف المعالجة ضمن نطاق من 7.0 إلى 10.5، أي أن هذه النسبة لا زالت ضمن ما هو مسموح به، إلا أن الخطورة الأكبر تكمن في مياه الصرف الصحي الصناعي، إذ يختلف هذا الرقم حسب المكوّنات الكيميائيّة لها، ويتعدى التوصيات المسموح بها لاحتوائها على مواد كيميائية مختلفة، ولا بد من الإشارة إلى خطورة وجود كائنات حية دقيقة متنوعة في مياه الصرف الصحي ما بين الفطريات والبكتيريا والأوليات والفيروسات والطحالب الدقيقة.
البعض يلجأ إلى مضخة صغيرة تضخ المياه من داخل الحفرة إلى خارجها، ويرمي الصادر منها في أرضه، وأحياناً تفيض هذه الحفرة وتتسرب مياهها إلى الخارج، وكل هذا يؤدّي إلى انتشار الروائح الكريهة، فضلاً عن تلوث الهواء والتربة وانتشار الذباب والبعّوض والديدان
ويضيف مرتضى: "كذلك تحتوي مياه الصرف الصحي على كمية عالية من المواد السامة الناتجة عن المعادن الثقيلة، مثل الكادميوم والكروم والرصاص والنيكل والزئبق وغيرها، والتي لها تأثير سلبي على حياة الإنسان بشكل عام، وكذلك على التربة والنبات. الخطورة هنا تتمثل في حال تركيز هذه المعادن السامة أعلى من الحدود المسموح بها من جانب المنظمات العالمية متل الوكالة الأوروبية للبيئة، واللجنة الدولية للتغيرات المناخية، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومشروع حكم نظام الأرض وغيرها".
أمراض خطيرة
تؤثر مياه الصرف الصحي بشكل سلبي على الإنسان والبيئة المحيطة، إذ يؤكد مرتضى أن هذه المياه تساعد على انتشار الميكروبات ومسببات الأمراض، ما يزيد من احتمال الإصابة بالأمراض المستعصية، بالإضافة إلى العديد من الأمراض، أبرزها التهابات وتقرّحات الأمعاء الدقيقة والكوليرا والتيفوئيد وأمراض الجهاز التنفسي والحمّى واليرقان.
كذلك تسبب الفيروسات الموجودة في هذه المياه التهابات الأمعاء والتهاب السحايا والشلل واليرقان وأمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب غير المألوفة، كما تسبب الأحياء الأولية إصابة الإنسان بالإسهال والأميبا وأوبئة الكبد وغيرها من الأمراض، واستهلاك الأوكسيجين المذاب في الماء بواسطة الميكروبات، مما يؤدي إلى موت الكائنات الحية المائية، وحدوث عفن في المياه، وانتشار الروائح الكريهة.
كذلك يشير نور الدين، إلى أن البعض يروي مزروعاته بالمياه الآسنة التي يسحبها من هذه الحفر، ظنّاً منه بأنها مفيدة كالسماد المصنع، وهذا يشكل خطراً كبيراً على صحة الإنسان، وفي أكثر من مناسبة أتلفت وزارة الزراعة حقولاً كان أصحابها يروونها بمياه الصرف الصحي خوفاً من انتشار الأمراض مثل الكوليرا.
ضرورة بناء شبكات ومحطات تكرير
يلفت مرتضى إلى أن الحفر الصحية أصبحت اليوم تشكل مبعثاً للقلق ولتلوث التربة والمياه الجوفية على حد سواء، وأصبح من الضروري إيلاء الاهتمام اللازم واجتراح حلول جذرية لمعالجة مياه الصرف الصحي في الاستعمالات اليومية، والاستفادة منها في مختلف المجالات، من خلال تركيب نظم معالجة مياه الصرف الصحي لتصبح بالإمكان إعادة استخدامها في المصانع، أو في المنشآت الزراعية أو غيرها.
ويمر نظام المعالجة للمياه بمجموعة من المراحل لضمان الحصول على مياه نقية خالية من كافة الشوائب، بدءاً من المعالجة الأولية، وصولاً إلى مرحلة الترسيب النهائية، وهو موجود جزئياً في بعض المنشآت في لبنان لكن المياه الناتجة عنه ليست آمنةً تماماً لعدم اتّباع كافة مراحل المعالجة المطلوبة.
حفر الصرف الصحي في لبنان وتبدو المياه الآسنة وهي تخرج منها
كما أن الحل يبدأ من بناء شبكات صرف صحي لكل المنازل والمجمعات والمنشآت المأهولة، تتصل في ما بينها لتصل إلى نقطة تجمع ألا وهي محطات التكرير، وداخل هذه المحطات تجري عملية المعالجة عبر مراحل متعددة، وفي المحصلة نحصل على مياه معالجة صالحة للاستخدام اليومي، وهنا نكون قد جنّبنا الطبيعة ويلات الصرف الصحي الملوِّث، وأمّنا مصدر مياه جديد يُستخدم في المصانع والمنازل والمزارع.
بدوره يؤكد جابر، أن الحل الجذري هو في إنشاء شبكات للصرف الصحي ومحطات للتكرير، ويلفت إلى أن هناك عائقين يحولان دون ذلك، الأول وهو الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان، فهذه المشاريع بحاجة إلى ميزانية ضخمة لا يمكن للدولة تحمّلها في حال لم تؤمَّن من جهات مانحة، أما الثاني فيتعلق بجغرافيا البلد، فانتشار البلدات على الجبال والتلال والهضاب وفي الأودية يعقّد الأمور لناحية تدفق المجاري باتجاه المحطات.
الحل يبدأ من بناء شبكات صرف صحي لكل المنازل والمنشآت المأهولة، تتصل في ما بينها لتصل إلى محطات التكرير، وداخل هذه المحطات تجري عملية المعالجة عبر مراحل متعددة، وفي المحصلة نحصل على مياه معالجة صالحة للاستخدام اليومي
ويلفت جابر إلى أن أول تجربة لمشروع صرف صحي في قضاء مرجعيون بدأت في بلدة الخيام والبلدات المحيطة بها، عن طريق بناء محطة معالجة وشبكة تربط البلدات ببعضها وتصب في المحطة، والآن المشروع قيد التنفيذ، ويرى المتحدث أنه يجب أن يعمَّم على كافة الأراضي اللبنانية.
الحفر الصحية في لبنان قنابل موقوتة تحت كل بيت، واليوم ومع ازدياد النمو السكاني والنشاط العمراني بشكل عشوائي وغير مدروس، تبرز الدعوة إلى إعادة فتح هذا الملف، فالبلدات التي تفتقر إلى هذه الشبكات بحاجة إلى الشروع ببنائها، والبلدات التي توجد فيها هذه الشبكات، نراها في النهاية تصب في مجاري الأنهار والأودية والبحر، لأنها تفتقر إلى محطات المعالجة والتكرير، فمن هنا نجد أن لا خلاص إلا بمحطات المعالجة والتكرير، مع بناء شبكة متكاملة للصرف الصحي لتجنيب الإنسان والكائنات الحية والطبيعة المزيد من الأوبئة والأمراض والكوارث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...