نهر العاصي، الذي خالف كل قوانين الأرض فسُمّي بهذا الاسم، يبدو غير قادر على قوانين البشر في سوريا. فكميات التلوث التي يتعرض لها حالياً جعلته يجفّ أحياناً، ويغيّر لونه أحياناً أخرى، والأسوأ يضطر إلى لفظ ما يملك من أسماك فتطفو فوق سطحه في حالة موت جماعي، وبالآلاف.
يدخل العاصي الأراضي السورية قادماً من لبنان في بلدة ربلة في ريف حمص، ويبلغ طوله 485 كيلومتراً، ثلاثة أرباعها تقع ضمن سوريا، ويسير فيها وصولاً إلى مصبّه في البحر الأبيض المتوسط في لواء إسكندرون. أما سبب التسمية فلأن مياهه عكسية تتجه إلى الشمال دوناً عن كل أنهار المنطقة.
وعندما نتحدث عن العاصي، لا نقصد فقط شريان الحياة الذي يمر في محافظتي حمص وحماه، فأهميته أكبر من ذلك لأنه يغذي المياه الجوفية في أربع محافظات، من ريف دمشق الشمالي إلى ريف حلب الجنوبي، ويُعدّ المصدر الرئيسي لتأمين المياه اللازمة لمعظم المنشآت الصناعية في المنطقة الوسطى، إذ تُستجرّ منه سنوياً قرابة 12 مليون متر مكعب، وهو المصدر الرئيسي للري فيها إذ يروي مساحةً إجماليةً تُقدَّر بـ49،000 هكتار. وترفده أنهار موسمية الجريان هي الساروت والبارد وسلحب.
كميات التلوث التي يتعرض لها نهر العاصي حالياً جعلته يجفّ ويغيّر لونه ويضطر إلى لفظ ما يملك من أسماك.
"مجزرة" جماعية
قبل مدة، نشر ناشطون مجموعة فيديوهات تحدثوا فيها عن تلوث العاصي وتغيّر لونه إلى السواد، ويوضح باسل (اسم مستعار)، من ريف إدلب، أن التلوث ليس مؤقتاً، فهو مستمر وتسببه معاصر الزيتون التي ترمي مخلفاتها في النهر، ما جعل رائحته كريهةً بسبب مادة البيرين وهي من مخلفات الزيتون، إلى جانب إلقاء الصرف الصحي فيه.
ويشرح باسل لرصيف22، كيف أن التلوث الأكبر جاء مع إعادة تشغيل معمل السكر في سلحب، فتسبب في نفوق أعداد كبيرة من الأسماك ما نتجت عنه خسارة كثر من الصيادين لمصدر رزقهم الوحيد، وتهديد الثروة السمكية، ويوضح المتحدث أن النفوق لم يقتصر على مخلفات المعمل وحده، إذ شهد النهر هذا العام ثلاث موجات نفوق متتالية.
معمل السكّر
في شهر تموز/ يوليو الماضي، بدأت عمليات تسويق محصول الشوندر السكري لشركة سكر تل سلحب في ريف حماه، بعد توقف دام 7 سنوات بسب ظروف الحرب، ومع إقلاع المعمل بدأت مظاهر التلوث تنتشر في نهر العاصي والمسطحات المائية في المنطقة المحيطة.
ونشر ناشطون فيديوهات لتسليط الضوء على هذه المشكلة، والمطالبة بإيجاد حلول ناجعة لها، لكنهم لم يلقوا أي آذان صاغية، ويوضح المحامي فراس السعيد، في حديث إلى رصيف22، أن في منطقة الغاب حُفراً مصدرها نهر العاصي يستفيد منها السكان في السقاية والصيد، كون مياهها نظيفةً وممتلئةً بالأسماك، لكن بعد إعادة معمل السكر تغير كل شيء، لأنه صبّ كل السموم الصادرة عنه في مياه النهر والترع، فتحول لونها وأصبحت رائحتها كريهةً، ما تسبب في موت الأسماك في ما يشبه الإعدام الجماعي.
ويطالب المحامي المقيم في مدينة سقيلبية في حماه، بإيجاد حل لتنقية المياه ومعالجتها قبل توجيهها إلى الترع والنهر، وتمكّن بالفعل من إيصال صوته إلى بعض وسائل الإعلام، لكن أحداً لم يحرّك ساكناً، وبقي التلوث قائماً حتى انتهاء عمل المعمل وإغلاق أبوابه، حينها ضخت الدولة أسماكاً جديدةً، لكنها وفق رأي المحامي لن تعود بالفائدة لأن المعمل سيعاود العمل السنة القادمة من دون إجراءات وقاية أو حلول، وتالياً ستموت الأسماك ثانيةً.
وتمنع القوانين السورية رمي المخلفات أو الأوساخ في الأنهار، وبموجب قانون نظافة وجمالية الوحدات الإدارية، تحظر المادة 18 من القانون 49، "إلقاء مخلفات الزيوت والشحوم والمواد السائلة المشابهة بجميع أنواعها في الحاويات والمسطحات المائية والمجاري العامة والأنهار ومجاري المياه وحرمها وفي العراء"، كما تحظر المادة 27، "تحويل المياه المالحة إلى مجاري الأنهار والبحيرات والبحار".
ويشرح السعيد، كيف أن العقوبات على المخالفات البيئية المتعلقة بالأنهار أوسع من ذلك بكثير، فالمادة 733 من قانون العقوبات تنص على أنه "يعاقب بالحبس حتى سنتين من هدم أو قلب أو خرب كل أو بعض الإنشاءات المشيدة للانتفاع بالمياه العمومية"، كما تنص المادة 734 على أنه "يعاقَب بالحبس من سكب في المياه العمومية سوائل أو مياهاً ضارةً بالصحة أو مانعةً من حسن الانتفاع من هذه المياه"، كما تنص المادة 735 على أنه "يعاقَب بالحبس من أقدم قصداً على تلويث نبع أو ماء يشرب منه الغير".
ويتابع السعيد: "في قانون البيئة يجب على كل منشأة أن تدرس تقييم الأثر البيئي، وتحدد طرق التخلص من النفايات، ولا يحق لها العمل من دون القيام بهذه الدراسة ورفعها إلى وزير البيئة والحصول على الموافقة، وأي تلويث يعاقَب عليه بغرامة للمنشآت من 400 ألف ليرة سورية حتى مليون ليرة أول مرة (65 وحتى 165 دولاراً وفق سعر الصرف غير الرسمي)، وإذا تكرر الأمر يمكن حبس المدير ثلاثة أشهر على الأقل. أما المنشآت العامة مثل معمل السكر، فلا يمكن تحريك الدعوى العامة ضدها مباشرةً، ويجب إرسال لجنة عن وزارة البيئة وإجراء دراسة، وإذا تأكدت المخالفة تُرفع الدعوى أو تُتّخذ إجراءات رادعة".
ملوثات صناعية وصرف صحي
من جانبه يشرح أكرم عفيف، المقيم في منطقة سهل الغاب، كيف أن النهر يتعرض لملوثات صناعية عديدة مصدرها الأول المجاري، أما الثاني فهي مخلفات معمل السكر "الذي ترك أثراً كارثياً عند تشغيله وسبّب موت الكثير من الأسماك"، على حد قوله لرصيف22.
وبرأيه فإن الحل يكمن في إقامة محطات تصفية، ويقترح إقامة مصفاة من دون تكاليف من خلال استخدام أحجار متدرجة من الكبيرة إلى الأصغر فالأصغر، ومن ثم حصيات مكسرة، ويزرع فيها الزل وهو نبات قصبي طويل، ما يشكل مصفاةً تسهم في تنظيف المياه الملوثة الخارجة من المجاري أو المعمل.
التلوث الأكبر جاء مع إعادة تشغيل معمل السكر في سلحب، فتسبب في نفوق أعداد كبيرة من الأسماك ما نتجت عنه خسارة كثر من الصيادين لمصدر رزقهم الوحيد، وتهديد الثروة السمكية، ولم يقتصر النفوق على مخلفات المعمل، إذ شهد النهر ثلاث موجات نفوق متتالية
بدوره يرى الدكتور موفق الشيخ علي، مدير عام شركة الأرض للتنمية المتطورة للموارد، واستشاري البيئة وإدارة الموارد الطبيعية، أنه لا يجب شن هجوم على معمل السكر برغم أنه أحد مصادر تلوث النهر، والحل هو في القيام بإجراءات لتحسين الوضع البيئي في حوض ونهر العاصي، أهمها إنشاء محطات الضخ والحواجز الإضافية على مجرى النهر، من أجل ضخ المياه السطحية ومياه الينابيع خلال فصل الشتاء إلى السدود، وتالياً زيادة المخزون المائي السنوي.
ومن الحلول التي يقترحها المتحدث، إعادة تأهيل شبكات الري والصرف الزراعي، والتي تعاني من انخفاض كفاءتها نظراً إلى قدمها، من أجل وقف استنزاف المياه الجوفية وتقليل الفقد المائي، وإعادة تأهيل النواعير وحواجزها الحجرية القائمة على مجرى النهر في مناطق عدة في حماه وإدلب. كما تجب إعادة تأهيل شبكات الصرف الصحي في المنطقة، وتزويدها بمحطات معالجة للتخلص من الحمولات الملوثة الواصلة إلى مجرى النهر، وإعادة تأهيل الغابات والمناطق الحراجية والمسطحات المائية، واستخدام التقنيات الحديثة في الري من أجل ترشيد استهلاك المياه.
زهرة النيل
تغزو مياه العاصي في الصيف نباتات خضراء مزينة ببعض الورود، تبدو للعيان بأنها تمنح المكان مظهراً جميلاً وخضرةً لطيفةً، لكن الحقيقة بخلاف ذلك، فهذه النبتة هي زهرة النيل، الشهيرة بقدرتها الهائلة على التكاثر، وتسبّبها بسحب الأوكسجين من المياه ما يسبب موت الكائنات الحية، كما تسبب أعطالاً على عنفات التوليد ومضخات سحب مياه السقاية.
ويشرح أكرم عفيف كيف أن زهرة النيل في الصيف كانت تغطي كامل مجرى النهر من سد محردة حتى نهاية الغاب الشمالي، وهي تظهر سنوياً في فترة الصيف وتموت في الشتاء.
زهرة النيل - من صفحة أكرم عفيف
وعن الحلول المتّبعة لمكافحتها، يوضح: "حالياً تُنزع بشكل ميكانيكي وهو أمر مكلف ونتائجه غير مجدية"، وبرأيه إحدى طرائق استنزافها، تحويلها إلى سماد عضوي وغاز حيوي، كما يمكن إضافتها كمكون علفي بنسبة تتراوح من أربعة حتى عشرين في المئة، وهذا سيساعد في تشغيل اليد العاملة وفي توفير سماد عضوي في وقت ارتفعت فيه كثيراً أسعار السماد، والأمر ذاته ينطبق على الغاز الذي يمكن توليده منها ويمكن استخدامه في تشغيل مولدات كهرباء ضخمة، ويختم بأنه "يجب دائماً تحويل الكارثة إلى فرصة".
محطة حرارية
في منطقة محردة التابعة لمحافظة حماه، يأخذ التلوث شكلاً آخر، ويتحدث هادي سليم وهو أحد السكان بأن مصادر التلوث الأبرز هي "المحطة الحرارية ومياه الصرف الصحي"، ويشرح كيف أن المحطة تقع شمال شرق محردة قرب السد، وتخرج منها المياه بحالة غليان محتوية على بقايا فيول، وتصب في النهر من دون محطات تنقية.
ويشرح الدكتور الشيخ علي تأثير التلوث على النهر وتسببه في ندرة أو غياب الكثير من الأنواع الحيوانية والنباتية المائية، والتي أشارت إلى وجودها الدراسات المرجعية السابقة في حوض نهر العاصي وأصبح البعض منها في خطر الانقراض.
ويضيف أن من أبرز عوامل التلوث سوء إدارة كل من الموارد الحية والنظم البيئية الداعمة لها، واستثمار تلك المسطحات المائية في المجالات المنزلية والصناعية والزراعية، بالإضافة إلى تغيير مجرى النهر واستبداله بشبكات الري، وتجفيف المستنقعات والبحيرات الطبيعية، وإقامة السدود، فضلاً عن التلوث البيئي الناتج عن النشاطات البشرية المختلفة.
الحل يكمن في إقامة محطات تصفية، ويمكن إقامة مصفاة من خلال استخدام أحجار متدرجة من الكبيرة إلى الأصغر فالأصغر، ومن ثم حصيات مكسرة، ويزرع فيها الزل وهو نبات قصبي طويل، ما يشكل مصفاةً تسهم في تنظيف المياه الملوثة الخارجة من المجاري أو المعمل
ولا تنكر الجهات الحكومية الواقع السيئ الذي يعانيه النهر، إذ أشار مدير الشؤون الصحية في مجلس مدينة حماه الدكتور محمود العبيسي، في تصريح صحافي سابق، إلى أن "نهر العاصي ملوث"، وحذر من تناول المزروعات التي تُسقى بمياهه، ونوّه بأن "مياه العاصي تروي 3،500 هكتار بين سد الرستن ومحردة، كما يغذي شبكات ري تسقي 65 ألف هكتار من الأراضي الزراعية في منطقة الغاب".
وعلى الرغم من كل الظروف السيئة التي يعانيها النهر، لكنه يملك أيضاً الكثير من العوامل التي تساهم في تحسين مواصفات مياهه، بحسب الدكتور الشيخ علي، ومنها "المسافة الطويلة التي يقطعها ضمن الأراضي السورية حيث يمر على عدد من البحيرات والسدود، بالإضافة إلى وجود محطات معالجة مياه الصرف الصحي، وعوامل التنقية الذاتية لمياه النهر التي تؤدي مجدداً إلى عودة الحياة إلى مجراه في سد الرستن بعد مدينة حمص، وسد محردة بعد مدينة حماه، ومنطقة دركوش بعد مدينة جسر الشغور".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع