شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أنا أحمد زكي وجارتي هند رستم

أنا أحمد زكي وجارتي هند رستم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأحد 22 يناير 202302:58 م


في يوم من شتاء 1992 تركنا البرد يدق البيبان في الخارج، وجلسنا داخل بيت عمي نلتف حول شاشة التلفزيون، الذي لا يعرف مؤشره سوى قناتين لا ثالث لهما، مجموعة من الصبية أكبرهم لا يزيد عمره عن عشر سنوات، كنا ننتظر الفيلم الذي سوف يعرض لأول مرة بعد قليل، نحارب ملل الإعلانات بأكل اليوسفي، الذي قارب قشره أن يناطح قمة جبل إفرست.

قال لي ابن عمي، وهو أكبرنا سناً وأقلنا عقلاً، لا بد أن نتخلص من قشر اليوسفي قبل أن تأتي خالته حتى لا تتهمنا بأكل "القفص كله" حينها خالفت نظريته القاعدة القانونية المعروفة "المتهم برئ حتى تثبت إدانته" وحولها إلي "المتهم برئ حتى تحضر خالته" وقال لكل واحد فينا باسمه وشخصه، ويسألونك عن اليوسفي "قول كان فيه وخلص".

طقوس الفرجة القديمة

بعد لحظات جاءت المذيعة ومعها الخبر الأكيد، سيبدأ الفيلم بعد قليل، عم السكون المكان، وبدأ فيلم "شمس الزناتي" يمهد للقصة المأخوذة عن الفيلم الأمريكي "العظماء السبعة"، الذي عرض عام 1960، وكيف تحولت حياة "شمس" عادل إمام من البلطجة والشقاوة في القاهرة إلى بطل شعبي يحمي أهل الواحة من بطش "الهليبة"، ونهب خيراتها، بقيادة "المرشال برعي" محمود حميدة، كان الفيلم مثيراً نتمنى ألا ينتهي، بقدر ما نريد أن نعرف هل سينتصر شمس الزناتي ورجاله في النهاية، ومن منهم سوف يفقد حياته لأن لكل معركة خسائرها.

كانت تقلد هند رستم في مشيتها وهي تسير أمامي، ربما تعودت عليها بعد أن تقمصت شخصيتها، عندما عرفت أن جيرانها أطلقوا عليها لقب "هند رستم" أو ربما هي تأثرت بشخصية هند في الصغر

انتهى الفيلم، وانطلقنا في قطعة أرض فضاء ملك أحد جيرانا، كنا نستغلها في لعب الكرة، نحاول تقليد شخصيات الفيلم، ونوزع الأدوار بيننا حسب السن، كان من نصيبي شخصية "عوض الكلاف"، التي جسدها عبد الله محمود، وهو الشاب الأسمر نحيل الجسد، الذي رفضه شمس في بداية الفيلم، أن يكون واحداً من رجاله بحجة صغر سنه، كنت سعيداً بالشخصية لأنها هي الوحيدة التي سوف تعيش للنهاية، وتنتصر لأهل الواحة الطيبين، بينما سوف يموت ابن عمي، الذي اختار دور "جعيدي"، جسده إبراهيم نصر، ولا يهمه في الفيلم سوى الأكل، ويدعي المرض حتى لا يذهب إلى المدرسة".

فارس، مدخن، غاضب

عشقت ومازلت، الفنان أحمد زكي وأتقمص شخصياته في أفلامه، تأثرت بشخصية "علي عبد الستار" في فيلم "الحب فوق هضبة الهرم"، وهو شاب موظف لا يستطيع توفير نفقات زواجه من "رجاء"، زميلته في العمل، فيقرر أن يتزوجها سراً، وعندما يفشلان في الحصول على مكان مناسب، يتقابلان فيه لا يجدا سوى هضبة الهرم.

كنت في مرحلة الإعدادية عندما شاهدني الأستاذ "مرتضى" مدرس الجغرافيا، وكان يسكن بجوار بيتنا بمسافة قريبة، وأنا خلف مبنى المدرسة أدخن سيجارة وعندما سألني عمن علمني التدخين، أجبته دون خوف أو تأنيب ضمير، تعلمت من "أحمد زكي"، وأحاول تقليده في "مسكة" السيجارة، حينها لم يتمالك نفسه من الضحك، وقال لي مازحاً، وهو يضربني فوق ظهري "يعني لو تقمصت دور عادل إمام في فيلم المشبوه هتطلع حرامي؟".

التأثر بالشخصيات السينمائية والدرامية في الصغر يظهر بوضوح ويطغى على شخصياتنا الحقيقية عندما نكبر، حتى لو لم نلاحظه على أنفسنا سوف يلاحظه شخص آخر، بوضوح.

في يوم من صيف 2014 وقف الحظ بجانبي، وجلست على كرسي بجوار السائق بجوار الشباك، بعد أن نجوت من ملل وضيق الكنبة الأخيرة في السيارة الـ"بيجو"، المتجهة من سوهاج جنوبي البلاد إلى مدينة الغردقة التابعة لمحافظة البحر الأحمر، كان السائق نحيل الجسد، يميل وجهه ناحية السمار، يدخن بشراهة، يضع علبة سجائره رخيصة الثمن أمامه على "التابلو" بجوار ولاعة مكتوب عليها بالإنجليزية "Marlboro"، كان يحاول أن يثبت مهارته في قيادة سيارته القديمة، ويسابق الشاحنات.

شاهدني مدرس الجغرافيا، وأنا خلف مبنى المدرسة أدخن سيجارة، وعندما سألني عمن علمني التدخين، أجبته تعلمت من "أحمد زكي"، وأحاول تقليده في "مسكة" السيجارة، لم يتمالك نفسه من الضحك، وقال لي: "يعني لو تقمصت دور عادل إمام في فيلم "المشبوه" هتطلع حرامي؟"

السائق قليل الكلام، شارد الذهن، لا أحد يعلم فيما يفكر في الطريق أم في معاناة لحقت به، وتركت أثراً داخل نفسه، أحل الظلام، ودخل الليل بوحشيته المعتادة، وهو مازال ينظر أمامه، وعجلات سيارته تشق طريقها بنفس السرعة وسط جبلين، أخرج سيجارة، وراح ينفث دخانها، الذي تطاير في الهواء على شكل دوائر، وأنا أختلس النظر له بطرف عيني من وقت لآخر.

كنت أود سؤاله عن سبب الحزن الذي بات واضحاً على قسمات وجهه، ربما كلامه يخفف عنه، ويهدأ من السرعة الجنونية التي حذره منها أحد الركاب، مستأنساً بالمثل الشعبي "في التأني السلامة وفي العجلة الندامة"، تركته وحزنه، أخرجت يدي من الشباك، وأمسكت بالأخرى هاتفي، وفتحت "ساوند كلاود"، واخترت أغنية، تقول كلماتها:

لملمت خيوط الشمس علشان أغزلك شال، وعزفت حروف الهمس، وف أجمل غنوة اتقال، وناديتك ماسمعتيش والحال هواه الحال".

ثمة ابتسامة خفيفة بدت تعلو وجهه، وتزيح عنه الحزن، وفجأة كسر صمته، وسمعته يقول لي بحماس: "حلوة الأغنية دي مين اللي بيغنيها" فأجبته المطرب أحمد الحجار، اجتاحني يقين أن السائق متأثر بشخصية "فارس"، التي جسدها أحمد زكي في فيلمه "طائر على الطريق" إذ كان يعمل سائقاً بسيارات الأقاليم، ويرتبط بقصة حب بريئة مع "عصمت"، وتقوده الصدفة في أن يتعرف على "فوزية" فردوس عبد الحميد، التي تعاني مع زوجها "جاد"، فريد شوقي، وتولد بينهما قصة حب.

ليلى أو هند رستم

قادتني الصدفة في عام 2017 أن أسكن مع أحد أصدقائي في إحدى المناطق الشعبية بالقاهرة، كانت الشقة برغم صغر مساحتها لها ميزة تجعل كل من في الشارع يحسدنا عليها، فهي تطل على شقة "ليلى"، فاتنة الشارع وكل الشوارع المحيطة، عرفت اسمها عندما حذرني صديقي من الوقوف في "البلكونة" حتى لا يعتقد البعض أني أقف من أجل رؤيتها، كانت فائقة الجمال، ونالت عن جدارة واستحقاق لقب "هند رستم"، منحه لها جيرانها، انتابني الفضول لرؤيتها بعد حديث صديقي عنها، وهو يمتدح في جمالها ويتغزل في أنوثتها الطاغية.

مر نحو ثلاثة أيام، ولم أشاهدها حتى نعتني صديقي، وقال أنها كانت تخرج وتقف كل يوم في شرفة شقتها قبل قدومي الذي جلب له النحس، على حد تعبيره وسوء تربيته.

في صباح اليوم الرابع، تصادف خروجي من بيتي مع خروج فتاة من البيت المقابل، كانت جميلة تشبه نسمة هواء، تلطف جو الصباح، تمتلك جسداً ممشوقاً، وشعراً أشقر، حينها دون أن أسأل أحد أنها "ليلى" جارتي التي حدثني عنها صديقي.

كانت تقلد هند رستم في مشيتها وهي تسير أمامي، ربما تعودت عليها بعد أن تقمصت شخصيتها، عندما عرفت أن جيرانها أطلقوا عليها لقب "هند رستم" أو ربما هي تأثرت بشخصية هند في الصغر، وباتت كل حركاتها، من ضحكة و"مشية" تلازمها عندما كبرت، وباتت جزءاً من شخصيتها.

وقفت بجوارها عند أول الشارع، في انتظار الأتوبيس الذي جاء في موعده لأول مرة، حتى يحرمني من الوقوف بجوارها أطول وقت ممكن، صعدت هي وجلست على كرسي خلف السائق، وجلست أنا في الكرسي المقابل لها، بجوار رجل خمسيني، لم تنزل عينه من عليها منذ أن وطأت قدماه سلم الأتوبيس، وعندما نزلت بعد محطتين نزل الخمسيني خلفها، وأكاد أجزم أنه نزل في محطة غير محطته، وترك بجواري إحدى الجرائد القومية، وكيس عيش.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard