لا يمكن فصل الحديث عن الأصول الفينيقية لسكان الجزر البريطانية، عن سياق عام عنوانه البحث عن هوية جامعة "إنكليزية-بريطانية"، تجمع سكان تلك الجزر، ثم تفرّقهم عن البرّ الأوروبي، وتؤكد أن هذا البحر الصغير الذي فصلهم عن العمق الأوروبي، وهو بالمناسبة بحر عمره بضعة آلاف فقط من السنوات، كان منطلقاً لبناء أمة عظيمة متمايزة عن البرّ الأوروبي.
وبرغم أن مؤرخين موهوبين قد تصدّوا لهذه المهمة القومية الطابع، وكانت غايتهم جميعاً تأكيد فرادة العنصر البريطاني، إلا أنهم كثيراً ما وقعوا في جملة من المغالطات، ليس أولها تسفيه روايات بعضهم البعض أحياناً، فهذه من طبائع الأمور، بل إن الوقوع في خلط يجمع الأسطورة مع الواقع، ثم محاولة قياس مجموعة بشرية عاشت منذ آلاف مضت من السنين بمقاييس القوميات الحديثة، وإعطاءها لبوساً قومياً حديثاً، أفعال غير بعيدة عنهم.
مردّ هذه العثرات قد يكون أن الجزر البريطانية كانت بعيدةً عن المراكز الحضرية العظمى في أوروبا القديمة كأثينا وروما، مما سهّل انتشار الخرافات، كخرافة العمالقة، وهو ما قلّل من عدد الوثائق القديمة التي قد تؤكد أو تنفي مثلاً وجود شخصية ملهمة كالملك آرثر، والتي استمر الجدل التاريخي حول وجودها من عدمه حتى سبعينيات القرن العشرين. ويمكن أن نضيف أن محاولات رسم هوية بريطانية مستقلة استمرت ما يقرب من ألف عام، مع كل ما سيجرّه ذلك من اختلافات في أساليب البحث والتمحيص عبر هذه القرون الطويلة، وحتى استخدامات اللغة نفسها من الإنكليزية القديمة إلى اللاتينية إلى اللغات الأوروبية القديمة.
الجزر البريطانية كانت بعيدةً عن المراكز الحضرية العظمى في أوروبا القديمة كأثينا وروما، مما سهّل انتشار الخرافات، كخرافة العمالقة، وهو ما قلّل من عدد الوثائق القديمة التي قد تؤكد أو تنفي مثلاً وجود شخصية ملهمة كالملك آرثر
بداية الربط
يستعرض المؤرخ سام حاسبلي، في بحثٍ له منشور، عدداً من هؤلاء الكتّاب والمؤرخين. ولعلّ أول من ربط بين الشعب البريطاني والفينيقيين هو كاتب يُدعى جون توين (1509-1580)، في كتابه "De rebus albionicis, Britannicis atque Anglicis": "عن المسائل البونية والبريطانية والإنكليزية"، ونُشر الكتاب بعيد وفاة الكاتب عام 1590 باللاتينية، والبونيون هم فينيقيو غرب البحر المتوسط.
الكتاب وهو من مجلدين، يُظهر نقاشات مع كاهن يُدعى جون فوش، وهو آخر رئيس لدير القديس أوغسطين في كانتبري، يرفض الرواية السائدة عن الأصول الطروادية لبريطانيا، خاصةً بروتوس الطروادي حفيد أينيس الملك الأسطوري، الذي ذاع صيته في القرون الوسطى كمؤسس مملكة بريطانيا، ثم يعلن أن ألبيون، ابن الإله نبتون، هو الذي استقر في بريطانيا أولاً، ثم أسس سلالةً من العمالقة من سكان الكهوف.
بعد ذلك، كان الفينيقيون أول الأجانب الذين وصلوا إلى هذه الجزيرة، حيث اجتذبتهم معادن الكورنيش "وهم سكان منطقة كورنوال جنوب غرب بريطانيا". ثم يقدّم مجموعةً من الأدلة الحسّية مثل "الثوب البوني" الذي لا تزال ترتديه بعض النساء في ويلز، بالإضافة إلى "الأكواخ البونيقية" في تلك المنطقة، كذلك العادة البريطانية الشهيرة المتمثلة في طلاء الجسم بالطين؛ وكانت محاولةً من قبل الفينيقيين لاستعادة بعض اللون الذي فقدوه على مدى أجيال عديدة بسبب الشمس.
فكرة الانتساب إلى الفينيقيين عبقرية، وبرغم أن جون توين تمتع بتعليم كلاسيكي عالٍ، لكنه لم يستطع الفصل بين الأساطير، ولا أن يقرّبها من الواقع والمنطق الحسي. ولطالما حاول التصدّي لها، لكنه لم يتحرر تماماً من سلطانها. لكن في الوقت نفسه رفض خرافة الأصول الطروادية، وحاول بناء تاريخ للأمة البريطانية أقرب إلى المنطق والعقل.
منذ طوفان نوح
في القرن السابع عشر، ظهر المؤرخ وعالم الآثار آيليت سامس (1636-1679)، وهو نبيل إنكليزي وضع كتاباً بعنوان "The antiquities of ancient Britain derived from the Phœenicians": "آثار بريطانيا القديمة المستمدة من الفينيقيين"، يعالج فيه تاريخ بريطانيا القديمة انطلاقاً من طوفان نوح حتى وصول السكسون في القرن الثامن.
برغم تقدّم الوقت، بدا سامس أكثر جذريةً وتعصباً للفكرة من سلفه توين، بل إنه أعطى القضية بعداً سياسياً فاقعاً، فهو جعل من الفينيقيين أمةً تامةً بل دولةً أنتجت أمةً أخرى هي بريطانيا، ويركّز على الجانب البحري. فقوة الفينيقيين كانت في البحر وكذلك البريطانيين، في مواجهة الدولة البرّية القوية المجاورة؛ العدو اللدود فرنسا الأقرب إلى الرومان اللاتين، كشكل من التميز الذي فرضه بحر المانش الذي فصل الجزر البريطانية عن أوروبا منذ زمن غير بعيد في عمر الجغرافيا.
يدّعي واديل أن الفينيقيين ينتسبون إلى العرق الآري الأبيض، وأن لغتهم ليست ساميةً بل آريةً، وأن عبادة إله الشمس انتقلت من آسيا الصغرى إلى بريطانيا، قبل أكثر من ألف عام قبل ميلاد المسيح، وهناك أسسوا حضارةً أشعّت ليس على بريطانيا وحدها بل على كامل البرّ الأوروبي
يُعدّ كتابه واحداً من الإنتاجات الأثرية الأكثر جدلاً في القرن السابع عشر، إذ يؤكد أن بريطانيا استوطنها في الأصل الفينيقيون، الذين أسسوا ثقافةً مزدهرةً هناك، "ومنهم اشتُقّ اسم بريطانيا"، إذ يقول إن أصل كلمة BRITAIN من جمع كلمتين BARAT-ANAC، أي الأرض الغنية بمناجم القصدير والرصاص عند الفينيقيين، ويؤكد أن معظم الأماكن الخاصة بالطوائف القديمة فيها مشتقة تماماً من اللسان الفينيقي، واللغة نفسها في معظمها، بالإضافة إلى أن العادات والأديان والأصنام والنصب والكرامات الخاصة بالبريطانيين القدماء كلها فينيقية بشكل واضح، وكذلك أدواتهم الحربية. الكثير من الأدلة التي يقدّمها سامس لغوية، والكتاب مليء بمحاولات ليّ عنق اللغة، وبرغم احتوائه مجموعةً من الرسومات الرائعة، إلا أنه سقط في فخ الموثوقية.
الواضح أن سامس اعتمد على كتاب Geographia Sacra seu Phaleg et Canaan، أي الجغرافيا المقدسة لفالج وكنعان. وفالج مذكور في الكتاب المقدس العبري كجدّ للإسماعيليين وبني إسرائيل، والكتاب للمستشرق واللاهوتي الفرنسي صمويل بوخارت (1599-1667)، حاول فيه التأكيد على التأثير الفينيقي الثقافي، خاصةً اللغوي، على كامل حوض المتوسط وصولاً إلى بريطانيا.
العرق الآري
لعل آخر مؤلف يتحدث عن الموضوع هو كتاب The Phoenician Origin of Britons Scots and Anglo Saxons: "الأصل الفينيقي للبريطانيين الإسكتلنديين والأنغلوسكسونيين"، وهو كتاب صدر عام 1924 للطبيب الكولونيل والمستشرق الإسكتلندي لورانس واديل (1854-1938).
في هذا الكتاب، يقدّم واديل قصةً أكثر إثارةً ودراميةً من سابقيه، إذ يدّعي أن الفينيقيين ينتسبون إلى العرق الآري الأبيض، وأن لغتهم ليست ساميةً بل آريةً، وأن عبادة إله الشمس انتقلت من آسيا الصغرى إلى بريطانيا، قبل أكثر من ألف عام قبل ميلاد المسيح، وهناك أسسوا حضارةً أشعّت ليس على بريطانيا وحدها بل على كامل البرّ الأوروبي، ثم ينفي بشدة صفة التوحش السائدة عن الإنكليز القدماء، والتي روّجها الرومان إبان غزوهم للجزر البريطانية.
ويؤكد وجود آثار سومرية وفينيقية في بريطانيا، ويستشهد خصوصاً بحجر تيوتن، وهو حجر وُجد قرب منزل نيوتن عليه نقوش غامضة تعود لـ400 عام قبل الميلاد يدّعي أنها باللغة الفينيقية، كما يستدل بالنقوش على العملات البريطانية قبل الميلاد التي تقدّم دليلاً على وجود سومري وفينيقي، بل يؤكد الكشف عن الأصل الفينيقي للّغات السلتية (لغة إيرلندية قديمة)، والكيمرية (لغة ويلزية قديمة)، والقوطية والإنكليزية، وتأسيس لندن.
قد يُعدّ هذا الكتاب استكشافاً مثيراً لأصول الثقافة والهوية البريطانيتين، ويقدّم منظوراً فريداً لتاريخ الجزر البريطانية. وبرغم التعليم العالي الذي تمتع به واديل وثقافته العظيمة وإتقانه العديد من اللغات القديمة كالسنسكريتة والسومرية، وبرغم أنه مشهور كعالم آثار وكتبه إلى الآن مقروءة ومثيرة للنقاش، إلا أنه لم ينَل الاعتراف الأكاديمي الكافي كعالم بالسومريات القديمة.
حمّى الأصول الفينيقية تصل إلى إيرلندا
في كتابه أوجيجيا ogygia، الصادر عام 1685، يشير اللورد والمؤرخ الإيرلندي رودريك أوفلاهرتي (1629-1716)، إلى جزيرة أجيجيا كرمز لجزيرة إيرلندا، وأجيجيا هي جزيرة كاليبسو في ملحمة هوميروس. وبرغم أسطورية العمل، إلا أن الكاتب اعتمد على وثائق قديمة تؤكد أن مملكة إيرلندا أقدم من بريطانيا، وأن الفينيقيين هم أسلاف الشعب الإيرلندي.
أفكار أوفلاهرتي، وحتى الكاهن الفرنسي بوخارت، أثّرت بشدة على جنرال ومؤرخ بريطاني هو تشارلز فالانسي (1731-1812)، الذي أوفِد إلى إيرلندا كمهندس عسكري مسّاح، وهناك عشق إيرلندا ونشر مجموعة كتب ومجلدات عن تاريخها وأصبح عضواً مؤسساً في الأكاديمية الملكية الإيرلندية.
لا يمكن أبداً نكران التأثير الحضاري للفينيقيين على كامل حوض المتوسط، وصولاً إلى الجزر البريطانية. وهذا يدلّ على أن الشرق في الذاكرة الجمعية الغربية كان أكبر من قصص هارون الرشيد والجواري وقصص ألف ليلة وليلة والسندباد وغيرها
يستدل فالانسي كثيراً باستخدام اللغة، "فاللغة عنده لا تكذب"، وهي أحد أهم مفاتيحه لفهم التاريخ، إذ يجد أن اللغة الإيرلندية القديمة قريبة جداً من لغة هانيبال وحملقار برقا وغيرهما من قادة قرطاج.
ثم يؤكد العثور في ساحل إسيكس شرق بريطانيا على نقش مخصص لهرقل الصوري، ويتابع فالنسي أن مجرد نظرة خاطفة على الآلهة التي كان يعبدها الفينيقيون والإيرلنديون كانت كافيةً لإظهار أوجه التشابه، بعل baal، إله الفينيقيين، يتوافق مع bel بيل الإله الإيرلندي.
قد تحوي تلك الدراسات والكتب السابقة شحنات عاطفيةً، سواء قومية الطابع تبغي التميز والفرادة أو بنكهة تحرر وطني كالنموذج الإيرلندي وأحياناً تكون مزيجاً بين الأسطورة والتاريخ الديني كاستخدام طوفان نوح والانتساب إلى أبنائه. برغم علوّ كعب المؤرخين السابقين، لكن غالباً ما أخذتهم الحماسة، خاصةً أننا نتحدث عن مؤرخين أغلبهم عاشوا في عصر النهضة أو في فترة اشتعال نار القوميات.
لكن لا يمكن أبداً نكران التأثير الحضاري للفينيقيين على كامل حوض المتوسط، وصولاً إلى الجزر البريطانية. وهذا يدلّ على أن الشرق في الذاكرة الجمعية الغربية كان أكبر من قصص هارون الرشيد والجواري وقصص ألف ليلة وليلة والسندباد وغيرها، بل كان هناك اعتراف بأنه يحوي حضارات مشعّةً، قطعت البحور ونشرت الأديان والحَرْفِ والحِرَفِ وصهر المعادن والتجارة.
لم يعِ الفينيقيون أنفسهم أنهم أمة واحدة، حتى أن المؤرخ هيرودوت كثيراً ما أظهر إعجابه بهم، لكنه لم يقدّم أبداً وصفاً عرقياً لهم كما فعل مع المجموعات الأخرى كالمصريين والإثيوبيين والفرس. لكن كما يعود صدى الصوت إلى مصدره، ساهمت تلك الدراسات في محاولة تشكيل قومية جديدة في منطقة سكنها الفينيقيون؛ أي لبنان بشكله الحالي، لا تزال مثيرةً للجدل حتى اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 8 ساعاتHi
Apple User -
منذ 8 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا