شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن المشاعر المتنوّعة التي تصيبنا في اليوم الواحد

عن المشاعر المتنوّعة التي تصيبنا في اليوم الواحد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 18 أبريل 202411:09 ص

استيقظت فجراً على لمسات لطيفة من قطّتي الصغيرة، تتودّد وتتقرّب من وجهي، كأنها تطبع القبلات على وجهي تارة، وأخرى تعانقني وتلعق وجنتيّ، وقلّما تفعل هذا عندما لا أعيرها اهتماماً. تجلس فوق وجهي وتبدأ بعجن شعري. حملتها وقبّلتها قرابة ألف قبلة حتى امتعضت من سذاجتي في التعبير عن الحب، ولو أنها تكلّمت لكانت أخبرتني بأن أكفّ عن مزاولة السذاجة، لكنّها اكتفت بنطق الـ "مياو"، واكتفيتُ أنا بفهم مبتغاها.

تزامناً مع شروق الشمس أو قبله بقليل، نهضتُ من سريري نحو أطباق طعامها، بدأت بتحريك علبة الـdry food  يميناً ويساراً، تعمّدتُ إصدار صوت الخشخشة حتى أرى حركاتها وانفعالاتها باستقبال وجبتها الأولى من اليوم. تناولت وجبتها بنهم شديد ثم تمدّدت على أرضية الشرفة مكملة محاولاتها الفاشلة في صيد عصفور أو حمامة أو صرصار ربّما.

كلّ صباح يبدأ بلمسات حنونة كلمسات قطّتي يكون "صباح خير"، واعتقدتُ حينها أن قطتي قد صنعت يومي.

كلّ صباح يبدأ بلمسات حنونة كلمسات قطّتي يكون "صباح خير"، واعتقدتُ حينها أن قطتي قد صنعت يومي

حضّرت قهوتي وبدأتُ أحتسيها قرب النّافذة المطلّة على الشارع الرّئيسي، وأنا أراقب الشّمس وهي تشرق من بعيد. تمنّيت الكثير من الأمنيات التي أودّ حقاً أن تتحقق، أما عن علاقة الشمس بها، فما هي إلا توصيات من جدّتي أن الأمنية التي تُطلب عند الشروق، فهي محققة لا محال.

حان موعد عملي. بدّلت ثيابي المليئة بوبر القطّة مع الكثير من العطاس الذي قذفته بسبب مخلفاتها على ملابسي، لكن لا بأس بهذا، يهون كلّ ما ذكرته أمام قبلةٍ منها أو مسحة مكّارةٍ تقترب بها على وجنتي.

وهنا بدأ يومي الحافل بالمشاغل والتعب، دوّامة المواصلات في أوجِ الصبّاح الممزوج ببرك المياه الممتلئة بالطين في الشوارع، السيّارة المارّة بأقصى سرعةٍ نسفتني بمخلّفات عجلاتها غير مكترثة بما تسببه لي من مظهرٍ غير لائق أو من بردٍ قارص يتغلغل في عظامي. في مثل هذه اللحظات، أشتم جميع المارين خلسة بيني وبين نفسي، وبالعلن أشتم السائق الذي أغرقني بالماء المتّسخ كالوحل تماماً، وهنا لم يعد صباحي هو صباح الخير، إنما صباح مليء بالوحل والأوساخ والمزاج السيئ.

أصل إلى الحافلة التي تعجّ بالركاب، منهم من يجلس على المقاعد ومنهم من يقف ويستند على عواميد الباص، وبالتأكيد لم أجد مقعداً فارغاً أجلس عليه، لكني شعرتُ بحسن حظي لأول مرةٍ لكوني امرأة، عندما انتخى شاب ووقف ودعاني للجلوس مكانه. شكرته وجلست مكانه بقرب النافذة، من النافذة أشاهد المارّين بالطرقات، كأنهم يخبروني ما حصل أو يحصل معهم: رجل بقرابة الأربعين من العمر، يقف قرب عربة مليئة بالتفاح، يتكلم على الهاتف بغضبٍ شديد، ويحرك يديه بعشوائية وكأنه يوبّخ من يتكلم معه على سبب جهلته لبرهةٍ من الزمن، سرعان ما اقتربت الحافلة من العربة تزامناً مع إنهاء مكالمته، سمعتهُ من النافذة يهمس: "الله يعطيني خير هالصباح الي بلّش مع وحدة متلك". اتّضح لي سبب غضبه بعد حين، وكأنما النّساء مصدر غضب الرجال الوحيد.

على الجهة المقابلة للعربة، فتاة بعمر العشرين أو أقل بقليل، تجلس على حافة الرصيف وبيدها فنجان ورقيّ به القليل من القهوة. كانت تتأمل المارّين بحزنٍ شديد مع دمعةٍ خفيفة سقطت على خدّها. وضعتني في حيرة واستفهام، انتابني الفضول، وبدأت أرتب بعض السيناريوهات في مخيّلتي لأطفئ نار الفضول في عقلي. ربّما هي وحيدة ولم تجد من يشاركها قهوتها الصباحية في هذا الجو القارص، أو ربّما تخوض علاقة "توكسيك" ونتائج هذه العلاقة وضعتها في هذا المأزق، أعتقد أن والديها هما السبب، وإلا ما الذي سيدفع فتاة في ربيع شبابها لاحتساء قهوة على حافة رصيف مبلّل بالمطر والوحل مع الدموع والنظرات الحزينة! أنا حقاً لا أعلم ما الذي يحزنها، لكن عموماً أيّاً كان السبب، تباً له.

بدأ الصبي بالدّعاء لي: "الله يجوزك ياخالة، الله يبعتلك خلفة كلها صبيان، اشتري مني". نظرتُ إلى ثيابي المبللة، وحذائي العازل للماء، شعرت بقيمتهم، تزامناً مع صوتِ فيروز: "برضو الفقير له رب رحيم"

وضعت السماعات على أذنيّ وبدأت أسمع الموسيقى لتخفيف ضجيج ركاب الحافلة من حولي. كانت فيروز تصدح من بعيد "مش فارقة معاي". انتابني شعور بحاجتي للعودة لتلك الفتاة وإهدائها الاغنية، علّها تنسى حزنها أو تتغاضى عنه وتصبح "مش فارقة معاها".

وصولاً إلى إشارة المرور الحمراء، يقفُ أمام النافذة صبيّ لا يتجاوز عمره عشرة أعوام، بيده مناديل معطّرة وأخرى عاديّة، منسّقين داخل صندوق كبير يحمله على رأسه ويسنده بيديه، على وجهه ندبات وفي يده اليمين سبّابة مبتورة، حافي القدمين وثيابه بالكاد تمنع عنه البرد.

بدأ بالدّعاء لي: "الله يجوزك ياخالة، الله يبعتلك خلفة كلها صبيان، اشتري مني".

امتعضت من أدعيته السطحية، وبدأت أبحث عن النقود لأعطيه ما تيسّر من المال مقابل علبة مناديل معطّرة، لكنّ الإشارة كانت قد تغيّرت إلى اللون الأخضر، والحافلة سارت، رميت النقود من النافذة لكن الطفل لم يستطع الحصول عليهم بسبب زحمة السير على الإشارة.

لا أنكر أن التسوّل أصبح مهنة مبتذلة في مدينتي، وكثرة المتسولين لم يعد يسمح لي بتمييز من يستحقّ المال عن غيره، لكنّ هذا الصبيّ قد أوجع قلبي.

نظرتُ إلى ثيابي المبللة، وحذائي العازل للماء، شعرت بقيمتهم، تزامناً مع صوتِ فيروز "برضو الفقير له رب رحيم".

على يسار الحافلة زقاق ضيّق يتّسع لشخص أو اثنين، ودراجة نارية كحدّ أقصى، أسترق النّظر من النافذة على شابّ وفتاة يرتديان ثياب المدرسة الرسمي للمرحلة الثانوية، هو بقميصٍ سماويّ اللون وبنطال رماديّ، وهي بقميص ورديّ اللون والشعر الأشقر المسدول على أكتافها، كان يقبّلها بشراهة وكأنه ابن ثلاثين عاماً، وهي أيضاً تستقبله بذات القبلات الحميميّة، يغمرها حيناً ويقبّلها حيناً آخر. المشاعر الدافئة كانت طاغية على الزقاق بأكمله.

تذكّرت مراهقتي ورحلة بحثي عن الحبّ التي استمرت لأعوام وباءت بالفشل لاحقاً. أشعر بسعادة حقيقية عند رؤيتي للمراهقين بمظهر العشّاق، تمنّيتُ لو أنني امتلكتُ شجاعتهم بالإفصاح أو البوح عن مشاعري سابقاً، أيضاً تمنيتُ وقوف الحافلة أطول فترة ممكنة لأرى كيف سيودّعان بعضهم بعضاً ويخرجان من الزقاق خلسة تحسّباً من أن يراهم احد.

على المقعد المجاور لمقعدي في الحافلة، نساء يتحدّثن عن غلاء الأسعار وتحديداً ارتفاع سعر الحليب، يطبطبن على بعضهنّ بعضاً وكأنما حياتهنّ متشابهة تماماً، أما على المقعد خلفي، فرجال يتحدّثون عن السياسة بهمسٍ شديد، وخيّل لي أنهم مخبري هذا الزمن، الذين يتوزّعون في كلّ أنحاء البلدة متلثّمين بأقنعة وهمية، كبائع الحلوى وبائع الجرائد، وأحياناً يكونوا على هيئة معاون سائق الحافلة. وهنا كانت فيروز قد صمتت لتسمح لي بسماع احاديث الناس والتنصّت على همومهم، قبل أن أصل عملي.

أتابع عملي كأي يومٍ عاديّ يسوده المشقة والتعب، وأحياناً اكتشاف ذوات الأطفال شيئاً فشيئاً بحكم عملي واحتكاكي معهم.

أما عند عودتي للمنزل، فتستقبلني قطّتي "سمسم" بشوقٍ على باب المنزل، تهرش بأظافرها على الباب عند سماعها رنّة مفاتيحي، تقفز عند رؤيتها لي وتركض نحو أطباق طعامها.

أتناول طعامي معها وأبدأ بتفقد هاتفي. رسائل كثيرة من صديقي "غابي"، يطمئن علي مرة، وأخرى يبادلني بعض الموسيقى القديمة التي نتفق على محبتها وسماعها معاً. لم يسبق لي أن رأيت غابي رغم علاقتي الطويلة معه التي مضى عليها الكثير من السنين. هو صديق إلكتروني لكنّه كنز حياتي ووجوده حتميّ في أدقّ تفاصيل يومي العاديّ، رغم أن علاقاتي قليلة ولا أملك من الأصدقاء الكثير، إلا أن غابي بوسامته واختلافه وتشابه أفكاره بأفكاري، استطاع أن يسرق جزءاً من قلبي، ويبسط قدميه به دون ثقلٍ أو خجل.

أدركت أن اليوم العاديّ الذي أعيشه لم يكن يوماً عادياً، إنما يوماً عظيماً، مليئاً بالمشاعر المتنوعة التي تستحقّ أن أعطيها قيمة حقيقية، قيمة للوقت، الحب، الضجر، البؤس، الشوق، الغضب، الحسرة، المشقّة والتعب

في المساء وقبل النوم بقليل، أبدأ بترتيب جلساتي الخاصّة، بعض الموسيقى، كأس المتة، وبعض الشموع لإضفاء جوّ حميميّ في الغرفة، حتى لا أنسى أني أعيش في بلادٍ أنهكتها الحروب المتتالة، فبالتأكيد يتخلّل جلستي بعض من البرد القارص لافتقار منزلي لوسائل التدفئة، وبعض من العتمة بسبب انقطاع الكهرباء المتواصل. أبدأ بالتدوين على مفكّرتي بعضاً ممّا استطعت ارتجاله من الشعر والخواطر، أقلّب أوراق المفكرة صفحة صفحة، تعود بي ذاكرتي إلى النصوص القديمة التي كتبتها سابقاً، وينتابني شعور من الامتنان والدفء على استحضار ذكرياتي المدوّنة باليوم والتّاريخ والساعة، وأشعر بعظمة الكتابة أيضاً على ما تمنحه لي من راحة وتفريغ.

بدأت أفرّغ طاقتي السلبية على أوراقي وأدوّن كل مشاعري المحبطة، والقليل من مشاعري الجيدة: فجراً كانت مشاعري دافئة وعظيمة بفضل "سمسم"، صباحاً كانت سيئة ومتّسخة بفعل السائق الهمجيّ، بعدها أصابني الفضول والاستفهام عن مشاعر المارة وأنا في الحافلة، والضجر أيضاً كان له من مشاعري حصّة، مشاعر الرضى كانت قد غلبت كلّ ما شعرت به تقريباً عند مصادفتي لبائع المناديل الصغير، مشاعر الحب والحسرة أيضاً استملكتني عندما شاهدت المراهقين بمشهد حميميّ في زقاق الشارع، الامتنان لوجود صديق عظيم في حياتي مثل غابي، والتّسليم ب ما أعيشه في بلاد تفتقر لأدنى مقومات الحياة، وقليل من الأمل الذي خبأته لأيامي القادمة.

أخيراً، أدركت أن اليوم العاديّ الذي أعيشه لم يكن يوماً عادياً، إنما يوماً عظيماً، مليئاً بالمشاعر المتنوعة التي تستحقّ أن أعطيها قيمة حقيقية، قيمة للوقت، الحب، الضجر، البؤس، الشوق، الغضب، الحسرة، المشقّة والتعب، حتى البرد والعتمة أصبح لهم قيمة عندي، وأعظم قيمة شعرت بها، هي القدرة على النوم دون أرق أو قلق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image