مقال من سلسلة مقالات للكاتب بعنوان "كيف نقرأ غزّة عن كثب"
كثيراً ما يُقرأ الحصار على غزة من خلال سياقه السياسيّ المفروض على الحكم في غزة وحسب، أي الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وأحداث الانقسام السوداء المؤسفة وسيطرة حماس عسكريّاً على كلّ مفاصل الحكم وما تلاها من انقسام في النظام السياسيّ الفلسطيني.
ترتّبت على الحصار مشكلات عميقة في بنية النظام السياسيّ الفلسطينيّ، بعد أن خلق حكومتين ونظامين وأدوات سيطرة قانونية مختلفة في الضفة الغربيّة وقطاع غزة، وعمّق حالة الانفصال بين الفلسطينيين في القطاع وفي الضفة الغربية والداخل المحتلّ. فصارت غزة، تقريباً، معزولة عن الجسم الفلسطينيّ السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ.
بطبيعة الحال، لم تكن غزة حرّة الحركة والتنقل. ولم تكن تتمتّع على نحو كامل بسيادة التصرّف في المسائل السياسيّة والاقتصاديّة قبل الانقسام تماماً كالضفّة الغربيّة قبل الإنقسام وبعده، ،ذلك بسبب سياسات الفصل الإسرائيليّة وأدوات السيطرة العسكريّة الإسرائيليّة التي كانت تحجّم أيّة محاولة التحام فلسطينية على المستويين السياسيّ والاجتماعيّ وهذا ناتج بطبيعة الحال عن اتفاق أوسلو الذي أعطى الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا وليس دولة كاملة، إلى أن حدث الانقسام عام 2007. فكان الحدث الذي فصل قطاع غزة عن الكتلة الفلسطينيّة الجغرافية فصلًا كليّاً ترتّب عليه حبس أكثر من مليون ونصف فلسطينيّ في قطاع غزة آنذاك.
بنية النظام السياسيّ بعد الحصار
بعد أن فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، وجدت نفسها أمام إشكاليّات في البرنامج السياسيّ الذي تتبنّاه، وذلك الذي تتبنّاه منظّمة التحرير في إطار السلطة الفلسطينيّة. هذه الإشكاليّات لم تكن متعلّقة بالمحاصصة (فالحكومة العاشرة برئاسة إسماعيل هنيّة كانت تقود الحكومة)، إنّما بالبرنامج السياسيّ لحركة حماس، والذي لم يكن يتلاءم ويتوافق مع عمليّة التسوية السياسيّة والسلميّة التي تبنّتها منظّمة التحرير، والتي قادت بعد ذلك إلى اتفاق أوسلو في بداية التسعينيّات.
فانحصرت الرؤى السياسيّة وظهرت الاختلافات الجوهرّية بين الحركتين. وهنا من المهم الإشارة إلى أنّ حماس لم تعد حزباً معارضاً للسلطة السياسيّة القائمة، بل أصبحت جزءاً من هذا النظام. لكن على الرّغم من أنّها فازت في الانتخابات وشكّلت الحكومة وصار لها نوّاب في المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ، إلا أنّها استمرّت في معارضة النظام نفسه، من خلال رفضها التنسيق مع الاحتلال والاشتباك سياسيّاً مع فتح، الحزب الأكبر الذي يشكّل منظّمة التحرير والسلطة الفلسطينيّة.
ولم يكن ذلك فقط هو السبب في تفجير الاشتباكات العسكريّة والمسلّحة بين الحزبين والأحداث الدمويّة المؤسفة التي حصلت في القطاع بصورة أقسى مقارنةً مع الضفة الغربية. بل يعود السبب أيضاً إلى الصّراعات على الاجهزة الأمنيّة ودورها وتبعيّتها وتشكيلها والتاريخ الصعب بين بعض الأجهزة الامنيّة في السلطة وحركة حماس.
تمكّنت حماس سريعاً من بناء منظومة سياسيّة. نواتها الأساسيّة في البداية كانت من أبناء الحركة وعناصرها ومؤيديها. وكانت تسعى إلى تمكين نفسها في الحكم بأدوات أمنيّة صارمة ومختلفة، حتى على حساب الحريّات العامّة
شكّلت حماس، إضافة إلى الأجهزة الأمنية التي تواجدت سابقاً، جهازًا جديدًا أسمته "القوة التنفيذية". وهو الجهاز الذي كان يتبع بشكل مباشر لرئيس الوزراء ووزير الداخليّة الذين كانا من حماس، فازداد التوتّر والاحتقان بين الجهاز الأمنيّ المشكّل حديثاً وبين الأجهزة الأمنيّة السّابقة، حتى قررت حركة حماس فجأة أن تنقلب على النظام السياسيّ في قطاع غزة وتحسم هذا الخلاف، الذي لم يستطع أحد حلّه في جولات المصالحة في القاهرة ومكّة، وبشكل عسكري دموي صعب.
ترك هذا الحسم أثراً عميقاً، خاصة أنها المرة الأولى في التاريخ الفلسطينيّ الحديث الذي يقتل فيه الفلسطينيّ فلسطينياً مثله على خلفيّة اختلاف سياسيّ أو خلاف على شكل السّلطة، الأمر الذي دفع فتح إلى الاستنكاف عن العمل في غزة وترك السّاحة لحركة حماس. تمكّنت حماس سريعاً من بناء منظومة سياسيّة. نواتها الأساسيّة في البداية كانت من أبناء الحركة وعناصرها ومؤيديها. وكانت تسعى إلى تمكين نفسها في الحكم بأدوات أمنيّة صارمة ومختلفة، حتى على حساب الحريّات العامّة والحريّات السياسيّة.
أطبق الحصار على غزة بعد أن أغلقت مصر، أيضاً، معبر رفح. فصارت غزة تشبه إلى حد كبير "سجن بلا سقف"، مغلق من كافّة النواحي، بعد أن فشلت حكومة حماس المنفردة بحكم غزة في إقناع أيّ طرف إقليميّ ودوليّ بالاعتراف بشرعيتّها في حكم غزة، بما في ذلك تعطيل كلّ أشكال التنسيق مع الحكومة الاسرائيليّة، الأمر الذي أثّر على الجوانب الإنسانيّة والاقتصاديّة والمعيشية.
الشرخ الاجتماعي ما بعد الانقسام
يتجاهل الكثير من الباحثين والكتّاب في الشأن الفلسطيني هذه المسألة باعتبارها تاريخاً محموداً عند طرف فلسطينيّ ما وتاريخاً أسود عند الطرف الآخر، دون قراءة حقيقيّة لما حدث وما ترتّب عليه من شرخ اجتماعيّ كبير في العلاقات الأهليّة الفلسطينيّة داخل المجتمع. خاصة وأنّ المجتمع الفلسطينيّ في غزّة يتشكّل في أساسه من أبناء الفصائل والأحزاب السياسيّة. وفي كل بيت كان ثمة من يتبع لفتح ومن يتبع لحماس أو الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.
مطلب "فك الحصار عن غزة" يجب أن يشمل القدرة الشعبية على فكه وليس القدرة السياسية فقط
وهذا ما ولّد سنوات من الكراهية وسنوات أخرى من الاشتباك الحيّ بين أنصار فتح في غزّة وحكومة حماس المنفردة بالقطاع. وقد أنتج ذلك سلوكيّات أمنيّة قاهرة، بوليسيّة إلى حدّ كبير، بحق كل معارضي النظام في غزة. تجلّت هذه السلوكيّات مع حراك "اصحى" في عام 2009، الذي شكّلته مجموعة من الحقوقيين ونشطاء حقوق الإنسان والأكاديميين، رفضاً لسياسات وزير الداخليّة في حماس لفرضه إجراءات صارمة تقييديّة على الحريّات الشخصيّة والعامّة مثل اللباس والمظهر الشخصيّ وحرية النساء. فوضع قيوداً صارمة على المؤسسات الثقافيّة والأهليّة، حتى وصل الأمر إلى محاولة حماس منع الاختلاط في الفعاليات العامّة في غزة.
تلا ذلك حراك "رفض الانقسام" الذي انطلق في 15 أيّار/ مايو 2011. طالب الحراك بحكومة فلسطينيّة موحّدة ومصالحة فلسطينيّة وإنهاء الانقسام ومحاولة جبر الضرر الذي أحدثه الاقتتال المسلّح بين فتح وحماس. إلا أنّ حماس واجهته أيضاً بالقمع والرفض في محاولة لتكريس حكمها. وتكررت المعالجة الأمنية الصارمة من قبل حماس للأصوات المعارضة أيضًا في حراك "الكهرباء" عام 2017 وحراك "بدنا نعيش" عام 2019.
الواقع الاقتصادي في غزة بعد الحصار
أطبقت اسرائيل الحصار على قطاع غزة منذ عام 2007، جوّاً وبرّاً وبحراً. ومنعت العمّال الفلسطينيين من غزة من الدخول والعمل في الأراضي المحتّلة عام 48. وبالتالي، قيّدت الحركة التجاريّة والصناعيّة في غزّة ومنعت دخول معظم المواد الأوليّة والخام التي تستخدم في الإنتاج الصناعيّ. فشُلّت قطاعات كبيرة صناعيّة وإنتاجيّة في غزّة.
كما أنّ حكومة حماس المنفردة بحكم غزة لم تنجح في إيجاد نظام توظيف عادل يشمل الفلسطينيين كلّهم، بمعزل عن دينهم وانتمائهم السياسيّ وخلفياتهم الأيديولوجيّة. وخلقت نظاماً صارماً للتوظيف يجعل من موظفي حكومتها متشابهين معها في التفكير والاعتقاد السياسيّ. كلّ هذا وما نتج عنه من انهيار اقتصاديّ سريع لقطاع غزة أنتج أكبر معدل بطالة في تاريخ القطاع، حتى وصل إلى أرقام قياسيّة وغير مسبوقة تجاوزت 60%.
اعتمدت حماس في السنوات الخمس الأولى من حكمها على الأنفاق التجاريّة التي حفرتها من رفح الفلسطينيّة إلى سيناء لجلب المواد الغذائيّة ومواد البناء وبعض السلع الأساسيّة وغير الأساسيّة. وكان هذا مصدر تمويل أساسيّ لحكومتها، لكنه لم يكن كافياً لإدارة قطاع غزة ولا كافياً لحلّ مشكلات البطالة والفقر وسوء التغذية وانقطاع التيّار الكهربائيّ وشحّ المياه وسوء الخدمات الصحيّة بفعل الحصار وانهيار القطاع التعليميّ لسنوات طويلة بسبب الانقسام.
كما اعتقدت حماس في السنوات الخمس الأولى أنّ دعماً إقليميّاً ودعماً محليّاً، من خلال الأنفاق وفرض الضرائب والجباية، يمكن أن يسند حكومتها اقتصاديّاً وأن يخلق نظاماً اقتصاديّاً فعّالاً يمكن أن يعمل بشكل مختلف داخل الحصار. لكنّ ذلك الاعتقاد لم يفلح في إيجاد حلّ للأزمات الاقتصاديّة. بل على العكس، تفاقمت الأزمات، وراح الواقع الاقتصاديّ ينهار أكثر بعد الحرب على غزة عام 2008، حيث دمّرت إسرائيل كل ما كان موجوداً من عوامل البقاء الاقتصاديّ، ودمرت جزءاً هائلاً من الأراضي الزراعيّة التي كانت تشكّل السلة الغذائيّة للسّوق المحليّ في غزة.
لم تنجح حكومة حماس المنفردة بحكم غزة في إيجاد نظام توظيف عادل يشمل الفلسطينيين كلّهم، بمعزل عن دينهم وانتمائهم السياسيّ وخلفياتهم الأيديولوجيّة. وخلقت نظاماً صارماً للتوظيف يجعل من موظفي حكومتها متشابهين معها في التفكير
وعلى الرغم من أنّ اتفاق أوسلو نفسه قد حجّم من قدرة الهيكل الاقتصاديّ الفلسطينيّ على التطوّر والإنتاج الحيويّ والفاعل، إلا أنّ الحصار حطّم وقضى على كلّ الفرص التي كانت متاحة لتطوّر الاقتصاد والإنتاج في المجالين الصناعيّ والزراعيّ. وعلى الرغم من الظروف المستحيلة للتواصل مع الخارج داخل الحصار، حاول الغزيّون دائماً ألا ينغمسوا في حصارهم ويتقبّلوه ويتعاملوا معه كحقيقة حتميّة. فرفض الحصار والتمرّد على حالة العزل كان دائماً حاضراً في السلوك السياسيّ والثقافيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ.
وقد واجه هذا السلوك تحدّيات هائلة مرتبطة بطبيعة الحال بالفصل الجغرافيّ والمادي، إلا أنّ الغزيّين حاولوا دائماً فكّ العزلة والحصار وخلق وسائل وأدوات مبتكرة للتواصل والبقاء في الجسم الفلسطينيّ الكامل، ليس ذلك الذي يحوّلهم إلى "غزيين" كهوية، ولا حتى إلى "مجموعة من المحاصرين" البعيدين جغرافيّاً، والذين يشتغلون على قضاياهم الخاصّة والمنفصلة عن بقيّة الفلسطينيين. يدلّل على ذلك حقيقة أنّ غزة كانت دائماً حاضرة في الفعل الوطنيّ الفلسطينيّ خارج حدود غزة الضيّقة المحاصرة، ومشتبكة بشكل فاعل في الحركة الثقافيّة الفلسطينيّة.
في ظلّ ما نشهده في شهور الإبادة المستمرّة، يبدو أنّ رواية الغزيّين عن حياتهم وحصارهم لم تكن تجد مكاناً عند من هم خارج غزّة. وهذا ما يدفع الغزيّين دائماً إلى الكتابة والقول بصوت عال. نعم، تحتاج غزّة إلى رواية موضوعيّة خاصّة بها وبظروفها، إلى رواية أبنائها وبناتها عنها. ثمّة كذلك حاجة للمطالبة بإعطاء الفرصة والمساحة للغزيين كي يسردوا روايتهم عن أنفسهم وعن تجربتهم داخل الحصار ومع الحرب، عن إرادتهم وأحلامهم، عن طريقة تفكيرهم سياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً وعن أمانيهم للمستقبل، وحتّى عن الجدل العميق حول المشروع الوطنيّ. فالتجاهل المستمرّ لرواية الغزيّين عن أنفسهم لن يجدي نفعاً في رسم طريق مشترك جماعي للفلسطينيين في تقرير مصيرهم والانعتاق من الاحتلال.
ومطلب "فك الحصار عن غزة" يجب أن يشمل القدرة الشعبية على فكه وليس القدرة السياسية فقط، فالسياسة يمكن أن تتغير دائمًا بتغير الوقائع والظروف والمصالح، ولكن القدرة الشعبية يجب أن تتحرك باتجاه لمّ شمل الفلسطينيين وإشراكهم سياسيّاً. يجب كذلك أن تكون هنالك محاولة لفهم آلام الغزيين ومعاناتهم التي لم تتوقف حتى يومنا هذا، بل تُعمّق من فهمنا الموضوعيّ والوطنيّ والإنسانيّ الخالص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.