فُصل رامز الذي يبلغ من العمر 38 سنةً، من عمله في منشأةٍ في منطقة السيدة زينب، جنوب العاصمة دمشق، حين انتبه مديره في العمل إلى أنه يُهمل مهامه، ويمضي ساعاته في أثناء الدوام الرسميّ وهو يستخدم هاتفه المحمول، على نحوٍ غير معتاد، ليتبيّن في ما بعد أنه يمتهن وظيفةً أخرى وهي "كار" "جمع رأسين على وسادة واحدة"، لقاء مبلغٍ ماديٍّ و"بحبوحة".
باختصار، اتّضح أنّه يعمل وسيطاً لتأمين فتياتٍ سورياتٍ مقبلاتٍ على الزواج لشبانٍ عراقيين، يرغبون في عقد قرانهم على سوريات، لقاء "كومسيون" قد تصل إلى مليوني ليرة سورية، يتلقّاها رامز من الشاب العراقي، في حال تمّ توقيع عقد الزواج، وقبول الفتاة وإتمام الزيجة.
ساعدت معرفة رامز الواسعة بأفراد المنطقة ومحيطه، ومساعدة زوجته ووالدته له، في تسهيل الاستدلال
إلى المنطقة التي يتواجد فيها رامز، يتوافد الكثير من العراقيين بشكل متواصل، ويحرص الشاب "الوسيط" على كسب قلوب الشبّان، أو العوائل العراقية القادمة إلى سورية؛ بهدف السياحة الدينية والعلاجية، ويضطرّ إلى التحدث إليهم بلهجتهم، والتقرّب أكثر منهم وملاطفتهم، والإشادة بهم كشعب. يَظهر رامز في أسلوبه هذا نصف حقيقي، يُمثّل المستضيف السوري الذي من شيمه حُسن الاستقبال والضيافة لأيٍّ كان، أما نصف أسلوبه الآخر فمبالغٌ فيه، يستعين به لتقديم نفسه على أنّه رجل جدير بالثقة، وأنّه حاضر لمهمة "المليوني ليرة"، في حال كانوا يضعون في حسبانهم أنّهم بحاجة إلى المساعدة في إيجاد عروسٍ سوريةٍ لا سيّما أنّهم في بلد غريب!
ساعدت معرفة رامز الواسعة بأفراد المنطقة ومحيطه، ومساعدة زوجته ووالدته له، في تسهيل الاستدلال، واختيار الفتاة أو الزوجة المناسبة، وفقاً للمعايير والصفات المطلوبة، وضمن جوّاله يحتفظ بأسماء عوائل في منطقته، ترغب في تزويج بناتها من عراقي، فيتواصل معهم ويعرض صفات الشاب المتقدِّم للخطوبة ويراعي التنسيق بين الطرفين إلى حين اللقاء والزيارة.
غالباً ما تميل تلك العوائل إلى القبول وتفضيل الزوج العراقي على السوري؛ رغبةً منهم في تأمين حياة مستقرة لابنتهم تقوم على توافر المال والانتقال من سوريا، والسفر والخلاص من كلمة "لسّاتو احتفاظ" "وعليه عسكرية"، بالإضافة إلى السمعة التي لازمت الأزواج العراقيين: "بيدللوا زوجاتهم".
السيدة الأربعينية اختارتني لـ"أربعيني"
تقول فاطمة (28 سنةً)، وتتحدر من مدينة حمص: "في أحد الأيام اتصلت بي سيدة أربعينية كانت جارتنا. رحّبتُ بها في بادئ الأمر، فبادرتني بكلمات الإطراء والمديح، ثم تلعثمت بعض الشيء إلى أن عرضت عليّ الزواج من شاب عراقي يبلغ من العمر 45 سنةً، ثري وعزب. هنا وقبل أن تسهب أكثر اضطررت إلى قطع الاتصال بانفعال من دون أي إجابة، وعلمت في ما بعد أنها تعمل 'سمسارة زواج'".
وتضيف: "لمتُ نفسي على انفعالي، لأنني قطعت الاتصال وأنهيت المكالمة مباشرةً، خصوصاً أن الزواج المطروح هو في الحلال، لكن ما كان عليَّ فعله هو أن أقول للسيدة 'السمسارة' إنني أرغب في زوج سوري عزب، ولا أرغب في السفر، ولا أرغب في أن يكون ثرياً، وإنني وإن كنت في أواخر العشرينات من عمري فهذا لا يعني أني 'كهلة' وعليَّ القبول بأيٍّ كان، وكان عليَّ القول لا داعي لأن تقنعيني وتطيلي حتى تتقاضي مليون ليرة سورية أو أكثر".
حب على نهر دجلة
كثيرةٌ هي حالات الزواج التي تمت بين الجنسيتين السورية والعراقية، من دون وسيطٍ يُذكر، إذ تمّت بشكلٍ مباشر بموجب تبادلٍ لنظرات الإعجاب والمراسلة.
احتفلت ريم (21 عاماً)، قبل نحو أربعة أشهر، بالذكرى الثالثة لزواجها من شابٍ عراقي، وأنعشت "الذكرى" حالة الحب بينها وبين شريكها، فاعتنت بترتيب الحفل حتى بدت كأنّها مراسم، حسب ما ظهر ضمن خاصية الستوري التي وضعتها على إنستغرام! عشاءٌ فاخرٌ ضمن قرية دجلة السياحية، وزينةٌ ملائمةٌ للمناسبة الرومانسية، ورحلة على يخت.
قبل نحو ثلاث سنوات، كانت ريم، تعمل في مركز طبّي تخصصي في دمشق ممرضةً، والتقت آنذاك بزوجها الذي قَدِمَ من العراق للعلاج والسياحة معاً، ثم وقع الشريكان في حبٍ متكافئ، إلّا أن الشاب أخبرها في ما بعد أنه متزوج ولديه طفل! امتنعت على إثره الفتاة من إكمال علاقتها به، مخافة أن تكون سبباً في تفريق العائلة.
يعمل رامز وسيطاً لتأمين فتياتٍ سورياتٍ مقبلاتٍ على الزواج لشبانٍ عراقيين، يرغبون في عقد قرانهم على سوريات، لقاء "كومسيون" قد تصل إلى مليوني ليرة سورية
عاد الشاب إلى العراق، ثم ما لبث أن عاد إلى دمشق مرةً أخرى بعد نحو شهرين، يحمل في جعبته أخباراً وأوراقاً تثبت استكماله إجراءات الطلاق من زوجته الأولى، وأخبر ريم بأنه غير راضٍ عن زواجه الأوّل في الأصل، وأنه أحبها ويريد الزواج منها وسط ترحيب ذويه.
تفاخر ريم بزواجها، خصوصاً وأن زوجها يدعمها في إتمام "كورسات" عدة في مجال التخصص التجميلي، وافتتح لها مركزاً خاصاً بها وسط العاصمة بغداد، بات يحقق لها أرباحاً وعوائد جيدةً.
ومؤخراً استطاعت تجديد سيارتها واستبدال القديمة بأخرى حديثة من نوع "dodge srt" وشاركت صورة السيارة على واتساب، وكتبت على "حالتها" بلهجة عراقية: "حلالي الجديد".
"عدت بلا روحي"
هربت سارة، من العراق إلى سوريا قبل نحو سنة، بعد نفاد طاقتها على تحمّل الإهانات والقسوة والتعنيف اللفظي والجسدي الذي واجهته من زوجها العراقي وذويه. تحدثت إلينا عن قِبابِ أصابعها التي تورّمت لكثرة إجبارها على عجن الخبز وصنعه يومياً، وتحكي عن معاناتها مع مراهم البثور والثآليل التي ظهرت في أقدامها، بعد قيامها بالأعمال المنزلية مكرهةً. كانت تخدم ذوي زوجها وإخوته، وعند التقصير تُشتَم ابنة الشهيد سارة بـ"يا بنت النعال"!
سارة فتاة قاصر ويتيمة، تتحدر من شمال سوريا، استُشهد والدها خلال سنوات الحرب الأخيرة، وتقصدت والدتها بعد ذلك تزويجها لشاب عراقي طمعاً بمهرٍ كبير وحياة أفضل قد لا تقوى على توفيرها لابنتها لضيق الحال.
تقول سارة: "لم تكن تظهر على الزوج وعائلته عند الخطوبة وخلال تلك الفترة أي علامات تشي بأنهم قد ينكثون بوعد الحفاظ علي واحترام، ليتبيّن في ما بعد أنهم استقدموني لأكون جاريةً".
من بين كل عشرة عقود زواج في منطقة السيدة زينب، يوجد عقد زواج رسمي لخاطب عراقي
تكرار محاولات التضييق والترهيب والإذلال من قبل زوج الفتاة وعائلته دفع سارة إلى استغفالهم والهروب بابنتها الوحيدة ذات السنة، والتجأت بعد ذلك إلى عشيرةٍ في العراق على قرابة مع عائلة زوجها، وشرحت ما عانته لهم وطلبت منهم مساعدتها في العودة إلى دمشق.
تقول الفتاة: "تفهمت العشيرة وضعي، وسعى كبارها إلى تأمين عودتي إلى دمشق، لكن لم أكن أعلم أن القانون لا يسمح لي بأخذ ابنتي إلى سوريا من دون موافقة والدها. لم أحتمل البقاء في العراق، ولم أحتمل العودة إلى سوريا من دون طفلتي. كان عليَّ أن أختار بين أن أبقى في زنزانة زوجي، أو أعود بلا 'روحي'"!
تتابع: "ودّعتُ طفلتي ببكاء شديد، شددت على جسدها واحتضنتها أربع ساعات، مبلِلةً شعرها بالدموع، وتركتها وعدت إلى سوريا مصطحبة ملابسها معي... لا هيَ!".
عقوبة هروب سارة، لم تمر مرور الكرام. تواجه الفتاة اليوم الانتقام العابر للحدود من طرف زوجها بغرض ابتزازها وإجبارها على العودة إلى العراق لرعاية ابنتها. ينشر صورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي تارةً، ويرفقها بألفاظ نابية تارةً أخرى، ويستعين بوسطاء، ثم يعاود الكرّة والضغط والابتزاز!
لا تلوم الفتاة والدتها التي استعجلت في زواجها، وتتحسر على طفلتها.
عُدن "جثثاً"
عادت "ز. ع." (20 عاماً)، من العراق إلى حمص جثةً هامدةً، بعد 40 يوماً على ولادتها ابنتها. حقيقة سبب وفاتها متباينة وتتأرجح ما بين وفاتها بسبب ما يُسمّى بـ"حمّى النفاس" وموتها خنقاً على يد "ضرّتها" وزوجها العراقي لأسباب مجهولة.
أما جثة الفتاة "م. أ." (25 عاماً)، فعادت هي الأخرى من العراق إلى حمص بعد أسبوع واحد على زواجها من رجل عراقي أربعيني. وكانت ضرّةً بعد زوجتين إحداهن هي من قتلتها طعناً بالسكين بدافع الغيرة حسب ما أُشيع. لكن الغريب في الأمر أن الزوج الثري دفع فديةً لدم زوجته السورية لأهلها، كذلك دفع مبلغاً آخر لإخراج زوجته العراقية التي قتلتها من السجن.
المغدورة "م. أ." كانت لها تجربة زواج سابقة من رجل عراقي يتحدر من البصرة، وصفه المقربون منها بأنه كان محترماً ومثقفاً ومحبّاً و"مدللها"، لكنها رفضت البقاء في العراق وأصرّت على العيش في دمشق والعودة.
انفصلت "م. أ." عن زوجها العراقي الأول بسبب الاختلاف على مكان الإقامة، ثم عاودت الكرّة وتزوجت من "عراقي" آخر، ولم تكن تعلم أنها اختارت درب موتها.
لماذا الفتاة السورية؟
بحثنا عن أسباب رواج هذه الزيجات بين البلدين، ورغبة الشبان العراقيين في الزواج من فتاة سورية على وجه الخصوص، وحصلنا على الإجابة من العراقيين أنفسهم، واتضح أن البعض منهم تستهويهم اللهجة الشامية والأسلوب ولون البشرة الفاتحة، فيما يحبّذ آخرون الخروج عن نطاق العادات والتقاليد التي تفرض على الشاب عقد القران على ابنة عمه، أو إحدى بنات العشيرة من دون رضى تام ومطلق من قبل الشاب في بعض الأحيان، بالإضافة إلى ملل البعض منهم من تدخل عموم العشيرة في خلاف الأزواج، إذ تخلو الخلافات التي من الممكن أن تُحلّ بمرونة من اللين والاعتدال، وقد تتطور وتُفضي إلى اقتتالٍ بين أبناء العشيرة.
لم تكن تظهر على الزوج وعائلته عند الخطوبة وخلال تلك الفترة أي علامات تشي بأنهم قد ينكثون بوعد الحفاظ علي واحترام، ليتبيّن في ما بعد أنهم استقدموني لأكون جاريةً
ومنهم من اختار سوريةً بسبب التفاوت في المهور بين البلدين، إذ وجدوا أن المهور في سوريا أدنى منها في العراق، وأن الفتاة السورية لا تتمتع بالتكبّر والاستعلاء، ومخملية الطباع إذا ما قُورنت بغيرها من فتيات البلدان الأخرى.
قاضٍ يُعلّق!
يقول أحد القضاة السوريين إنّ من بين كل عشرة عقود زواج في منطقة السيدة زينب، يوجد عقد زواج رسمي لخاطب عراقي، ما يعني أن "الأصهار العراقيين" في تزايد وفي إقبالٍ مستمرٍ لا سيّما في الفترة الأخيرة.
ويعلّق في حديثه لرصيف22 على بعض حالات الطلاق التي قُدّمت من جهة الزوجة السورية، قائلاً إن غالبيتها مُنحت مهلةً للإصلاح لكون الأسباب غير كافية للبت في الأمر، وتمثلت في "صعوبة الاندماج مع البيئة العراقية التي لا تتشابه مع البيئة السورية إلى حد ما: كفرض ارتداء عباءة الرأس، وتقييد حركة عملها، وزياراتها، وغيرها... خصوصاً في المناطق الواقعة خارج العاصمة".
ويضيف: "جرى الحديث عن حالات استغلالٍ ماديٍّ واحتيال تُمارَس من قبل الفتاة السورية بحق الخاطب العراقي، كأن تخدعه وتوهمه برغبتها في الزواج ثم يتم تسجيل المهر، فتقبض الفتاة المهر وبعد ذلك تتهرب وتختفي، وهذا ما دفع العديد من الشبان العراقيين إلى تقديم شكاوى في محاكم دمشق".
لا يمكن التكهن حول ما إذا كانت كفة الزواج الناجح تغلب لصالح كفة الزواج الفاشل أو العكس في حالة "المصاهرة العراقية"، التي أصبحت رائجةً منذ نحو سبع سنوات، إذ تقابل كل حالة زواج مستتبّ وناجح حالة أخرى غير مستقرّة وفاشلة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...