بُعيد العصر بقليل، في التاسع من نيسان/ أبريل عام 1973، كان عادل نعيسة، عضو قيادة البعث السوري القطرية المستقيل، يحلق ذقنه في بيته المستأجَر في حي المزرعة مقابل جامع الكويتي في دمشق استعداداً لأمر ما، حين داهمت بيته قوة من زوّار الفجر واقتادته إلى مقرّها. لم تتعامل القوة المخابراتية معه بعنف، ولكنها لم تسمح له بإكمال حلاقة ذقنه. بعد نحو ربع قرن على تلك الواقعة، عاد عادل نعيسة إلى ذلك البيت المستأجر ليجد فرشاة الحلاقة وشفرات "الناسيت" في مكانها نفسه.
ما ستقرؤونه محاولة لتوثيق تاريخ رجل حاول في وقت ما أن يكون مفيداً لبلده وناسه وفق رؤيته التي لم تخلُ، على ما يبدو، من مثالية تناقض عوالم السياسة التي أتقنها خصومه حتى بات نسياً منسياً لربع قرن وأكثر في السجون. وقد استندت المادة التوثيقية إلى شهادات كثيرة من أرض الواقع ومن الأهل والجيران والأصدقاء الذين عايشوا الراحل حتى لحظاته الأخيرة.
سيرة فتى من بسنادا
وُلد عادل عطا نعيسة، في بسنادا، وهي قرية من قرى مدينة اللاذقية وقتها، في الأول من أيار/ مايو عام 1937. والده عطا عمل مدرّساً لمادة اللغة الفرنسية في ثانوية تجهيز اللاذقية (جول جمال لاحقاً)، ومن بين طلابه كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد (مواليد 1930)، وقد أنشأ الوالد الكادر التدريسي في مدرسة جبلة الحكومية.
ينتمي عادل إلى عائلة من صغار الملّاك مقيمة في المنطقة منذ قرون، ويقع منزل العائلة الأساسي والمهجور اليوم، بالقرب من نبع بسنادا، وغالبية أفراد العائلة متعلمون تعليماً عالياً. منهم من كان في جهاز الدولة السورية خلال السبعينيات وما بعدها وتسلّم مناصب فيها، في حين أن قسماً آخر عاش المنفى وقسماً ثالثاً قضى في السجن سنوات مختلفة العدد، ومنهم أخوة عادل، الدكتور في الأدب العربي "جهاد" الذي قضى عشر سنوات بتهمة الانتماء إلى البعث الديمقراطي، وصلاح وفؤاد وعلي. ومن بين رموز العائلة التي يعرفها السوريون، المحامي الراحل أكثم نعيسة الذي عمل طوال عقود في منظمات حقوق الإنسان السورية، وهو ابن عز الدين نعيسة، محافظ الحسكة (1966-1968)، وصديق الأسد الأب، وكان الأخير قد حلّ مرات عدة ضيفاً على العائلة خلال حقبة الانفصال حين كان مطارَداً.
تحصّل عادل على الثانوية العامة عام 1955، وبعد الثانوية توجّه إلى دراسة الأدب العربي، وبعد أربع سنوات حصل على إجازة في الأدب العربي من جامعة دمشق ثم حصل على دبلوم في التربية. دخل البعث مبكراً، فكان من البعثيين الأوائل، وعلى ما وصلنا من معلومات متقاطعة فإنّ رقمه الحزبي يقع ضمن البعثيين الألف الأوائل في اللاذقية، ومن نسّبه إلى البعث هو الطبيب وهيب الغانم، من لواء إسكندرون، وهو أحد مؤسسي البعث بجانب زكي الأرسوزي.
ما ستقرؤونه محاولة لتوثيق تاريخ رجل حاول في وقت ما أن يكون مفيداً لبلده وناسه وفق رؤيته التي لم تخلُ، على ما يبدو، من مثالية تناقض عوالم السياسة التي أتقنها خصومه حتى بات نسياً منسياً لربع قرن وأكثر في السجون... عن عادل نعيسة، آخر الشهود على المرحلة "العاصفة للبعث"
بعد الانفصال والانقلابات
عمل نعيسة بعد تخرجه نهاية الخمسينيات، معلّماً للّغة العربية في طرطوس، ثم بانياس فاللاذقية، ولكنه كان مشغولاً بالسياسة والحزب. قرأ الأدبيات البعثية الأولى، وتأثّر بفكر ميشيل عفلق القومي ذي الطابع الطوباوي. تبع ذلك تأثره بالأفكار الاشتراكية ذات الطابع الطوباوي أيضاً، وطبعت هذه الأفكار حياته وعلى هديها قاس علاقته بالعالم والمحيط، وهو ما اتضح لاحقاً عند توزيع أراضي الإقطاع على صغار الملّاك والفلاحين إذ رفض إدراج أسرته ضمن من ستوزّع عليهم أراض من الأملاك المصادرة من الإقطاع.
شارك عادل في التظاهرات ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكان من الداعمين للوحدة معها عام 1958، وشاهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وهو يلقي خطابه أواخر شباط/ فبراير 1961، ويعلن في نادي ضباط اللاذقية عن استعداده لسحق معارضيه من القوى السياسية السورية "بالجزامي" (هناك رواية أخرى تنسب القول إلى نائبه عبد اللطيف البغدادي). ولكن هذا الكلام المزعج للسياسيين السوريين ومناصريهم لم يمرّ مرور الكرام، إذ لم تمضِ بضعة أشهر حتى شهدت دمشق حركةً انقلابيةً على ناصر، قادها عبد الكريم النحلاوي وآخرون، معلنين تفكيك الوحدة مع القاهرة.
لا نعرف بدقة موقف نعيسة من الانفصال، إذ لم يكن من صانعيه ولا من صانعي "ثورة آذار/ مارس"، وقد كان البعث في تلك المرحلة يعيش حالة حيرة وتخبّط سواء في قيادته القطرية السورية أو القومية العربية، وهو ما ظهر جلياً في توقيع صلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني على وثيقة الانفصال، مقابل رفض بعثيين آخرين الانفصال جملةً وتفصيلاً.
خلال السنوات من 1961 حتى 1963، كان عادل نعيسة من جملة المبعدين عن الحياة الحزبية نظراً إلى حلّ الحزب في اللاذقية وسوريا عموماً. وفي 8 شباط/ فبراير 1963، قام البعثيون بانقلاب في العراق، تلاه في 8 آذار/ مارس انقلاب مماثل في دمشق أتى بالبعث إلى السلطة، وأعاد كلاً من صلاح جديد وحافظ الأسد إلى السلطة بعدما كان النحلاوي قد سرّحهما من الجيش وأحالهما إلى وظائف مدنية، كما عاد عادل نعيسة إلى نشاطه الحزبي في اللاذقية.
تخلّى صلاح جديد عن رتبته العسكرية (لواء ورئيس أركان الجيش)، في شهر آب/ أغسطس 1965، وانتُخب أميناً قطرياً مساعداً في العام نفسه، وفي 23 شباط/ فبراير 1966، قام مع الأسد بانقلاب داخل البعث على القيادة القومية التي ضمت آنذاك عفلق ورئيس مجلس الرئاسة أمين الحافظ، وعُدّت الحركة تصحيحاً لمسار "الحزب الثوري" بعد خلافات كثيرة داخله، وقد تولى الأسد وزارة الدفاع بعد ترفيعه رتبتين عسكريتين.
بعد وقت قصير على حركة شباط/ فبراير، أُجريت انتخابات في فروع البعث نجح فيها عادل نعيسة في الوصول إلى منصب أمين فرع اللاذقية، وكان في أواخر العشرينات من عمره. وقتها قال عبارةً انتشرت بكثافة بين "الرفاق"، تقول: "هذا آخر سهم يرميه البعث، فإما يصيب أو نذهب إلى الهاوية". وفي لقاء لـ"الرفيق" أمين الفرع مع عمّال مرفأ اللاذقية في الأول من أيار/ مايو من ذلك العام، خطب خطبةً طويلة استمرت ثلاث ساعات تحدث فيها عن الصراع الطبقي بين العمال والفلاحين والقوى المعادية لثورة آذار/ مارس، وضرورة تضافر جهود الطبقات كلها لأجل معركة تحرير الأراضي المحتلة. وفي أيلول/ سبتمبر عام 1966، شارك في المؤتمر القومي التاسع للبعث في دمشق.
خلافات جذرية بين الرفاق
ثم خسرت سوريا الجولان في حرب 1967، وتفاقمت الانشقاقات والخلافات الداخلية في الحزب وخرج كثرٌ من رموز الحزب نحو العراق أو المنفى، فيما اشتد الصراع بين "الرفاق" على ما سيفعله البعث بعد الهزيمة المدوّية في حزيران/ يونيو، وشكّلت خمس نقاط خلافية أساسية بين أجنحة البعث مشهده حتى بداية السبعينيات وهي: اعتماد "حرب التحرير الشعبية" مقابل "الحرب النظامية"، و"التوازن الإستراتيجي" مع "إسرائيل"، ودور "الرجعية العربية" كعدو للمقاومة ولشعارات البعث في "الوحدة والحرية والاشتراكية"، والاعتراف بقرارَي مجلس الأمن الدولي 242 و338 لإزالة آثار العدوان الإسرائيلي على دول الطوق العربي، ودور الحزب وتحالفاته الطبقية.
بعد حرب حزيران/ يونيو، جذب الأسد إليه عدداً من الضباط المتّهمين بالإهمال في النكسة وحماهم. وعند إعلان صلاح جديد أن الأولوية للمسار الاشتراكي، اتجه الأسد إلى المناداة بالمصالحة مع مختلف طبقات الشعب السوري، وهو ما جعله مقبولاً في أوساط اجتماعية واقتصادية نفرت من إجراءات جديد، خاصةً بعد مآسي التأميم التي كادت تقضي على البرجوازية السورية. وفي رواية متداولة فإن تجّار دمشق بعد استلام الأسد نزلوا في مظاهرات شعارها: "طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد".
دخل عادل القيادة القطرية التي كان يقودها صلاح جديد، في المؤتمر القطري الرابع العادي، في 26 أيلول/ سبتمبرـ7 تشرين الأول/ أكتوبر 1968، الذي عُقد في يعفور في دمشق، مع صديقه محمد عيد عشاوي، وزير الداخلية، ونظراً إلى عدم حضور بعض القياديين ومنهم أعضاء قيادة فرع اللاذقية إلى دمشق، فقد شجبت القيادة القطرية "هذه التصرفات غير الشرعية" وأعلنت في تعميمٍ داخلي أن "قيادة سلطة الدولة لم تعد في يد الحزب".
كانت كارثة حزيران/ يونيو سبباً رئيسياً في اشتداد الصراع بين العسكر والمدنيين في البعث. ففي حين قدّم ناصر استقالته، لم يعترف أحد من البعثيين في القيادة المدنية في الشام بمسؤوليته عن الهزيمة، لا بل تم تصوير ما حدث على أنه انتصار للبعث لأن "الكيان لم يتمكن من إسقاط حكم البعث في سوريا". يروي الدكتور محسن الخيّر، أنّ المؤتمر القطري الرابع شهد مناوشات كلاميةً كبيرةً بين المؤتمرين لم تصل إلى مرحلة الانشقاق، ولكنها كانت مقدمةً لما جرى عام 1970.
الصراع في اللاذقية
اشتد الصراع بين أعضاء اللجنة العسكرية (جديد والأسد وغيرهما)، منعكساً على الفروع الحزبية، وظهر الشقاق إلى العلن أكثر بين العامين 1969 و1970 في اللاذقية، وبدأت فعلياً معركة كسر العظم بين القيادتين كما حصل في انتخابات نقابة المعلمين التي كانت تُعدّ عصباً مهماً في المدينة ولا تضم البعثيين فحسب بل الشيوعيين والقوميين الآخرين.
عندما حاول أنصار جديد المسيطرون على قيادة فرع البعث، ومن بينهم أمين الفرع عادل نعيسة، في 29 شباط/ فبراير 1969، التخلص من أنصار القيادة العسكرية، أصدر الأسد على الفور أوامره باعتقال قيادة فرع اللاذقية واستبدال أعضائها بأنصاره الذين فصلهم الحزب سابقاً، كما فُرضت الإقامة الجبرية على محافظ اللاذقية سامي هابيل، عضو قيادة فرع البعث (شارك في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي عام 1976، وتوفي عام 2011)، فيما شهدت طرطوس حركةً مشابهةً (كانت تابعةً للاذقية)، استُخدمت فيها مغاوير "بعثية" كانت مكلفةً بحراسة منشآت النفط في المدينة. وفي مدينة طرطوس اعتُقل عادل نعيسة للمرة الأولى من قبل رفاق الأمس وأُجبر مع المحافظ على مغادرتها إلى اللاذقية.
شارك عادل نعيسة في التظاهرات ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكان من الداعمين للوحدة معها عام 1958، وشاهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وهو يلقي خطابه أواخر شباط/ فبراير 1961، ويعلن في نادي ضباط اللاذقية عن استعداده لسحق معارضيه من القوى السياسية السورية "بالجزامي"
راديكالية عادل وثوريته حتى النخاع دفعتاه، كما يقول في حوار أجراه معه نقولا ناصر عام 2012، لتقديم استقالته من القيادة القطرية للبعث عام 1969، في المؤتمر الاستثنائي التالي، اعتراضاً منه على "السلطة التي باتت تمطر ذهباً وامتيازات وبعد أن كان الوزير البعثي يتلقّى نصف راتب الوزير العادي باعتبار بعثيّته تكليفاً لا تشريفاً فقد تغيّرت الأمور لفساد غير محتمل".
يروى هنا أنّ مبنى فرع حزب البعث الحالي في اللاذقية كان منزلاً لرجل الأعمال المعروف رودلف سعادة، صاحب أكبر شركة نقل في العالم حتى اليوم CMI، وتمت مصادرته في غمرة التأميمات التي ضربت البلاد في الستينيات، حتى أن البعثيين صادروا سيارته وحوّلوها إلى سيارة للفرع وكانت كاديلاك أمريكيةً بيضاء استخدمها عادل نعيسة فترةً من الزمن، ولكنه كان يرفض استخدامها إلا لأغراض لها علاقة بالحزب ومهامه. وفي رواية أنه رفض نقل ابن عم له وزوجته الحامل إلى منزله لأنها "عندما تكون سيارة أبي أنقلك بها".
حضر عادل المؤتمر القومي العاشر في دمشق أواخر أيلول/ سبتمبر 1968، ليظهر بذلك موقفه المناصر للتيار المدني في البعث الذي أعاد التأكيد على "اعتماد الكفاح المسلح كأسلوب وحيد لتحرير الأرض واستمرار النضال السياسي بما يخدم الكفاح المسلح"، وسوف يستهجن أنصار جديد في المؤتمر تدخّل العسكر في شؤون قيادة الحزب ومؤسسات الدولة، فقد كان جزء كبير من الجهاز المدني للبعث مقتنعاً بأن طموحات العسكر تتفرمل عند طلب الحزب منهم ذلك، وما فاتهم أنّ حضور العسكر في الحزب هو فائض قوة يتفوق بالضرورة على التيار المدني الفاشل منذ الانفصال في وضع حد للضياع البعثي في حكم سوريا، ناسين أن التيار العسكري يمتلك أنصاراً غير الرفاق، أي المدافع والدبابات.
قبل ساعات من "الحركة التصحيحية"
وفق معلومات متقاطعة، فقد بدأت الحركة التصحيحية لحزب البعث السوري، بمحاولة مجموعة صلاح جديد ورفاقه، الاستئثار بالسلطة، عن طريق إزاحة مجموعة الأسد من الساحة السياسية. وبعدما كاد تدخل الجيش السوري بأوامر جديد في صراع الأردن مع المنظمات الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر 1970، يودي بالبلاد إلى حرب لا قدرة لها بها في ظل تهالك كل شيء في الجيش والبلاد، دعا صلاح جديد بصفته الأمين القطري المساعد، رفاقه لمؤتمر قومي استثنائي في دمشق عُقد في 30 تشرين الأول/ أكتوبر واستمر حتى 11 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه.
كانت كارثة حزيران/ يونيو سبباً رئيسياً في اشتداد الصراع بين العسكر والمدنيين في البعث.
يروي يوسف زعيّن (قضى 19 عاماً في السجون)، في مذكرات لم تُنشر حتى اليوم، "أنّ القيادة المدنية للبعث -وتضمّه وجديد ونور الدين الأتاسي وآخرين- تشاورت لنصب كمين للأسد على طريق المطار عام 1970 بهدف قتله، مشيراً إلى قرار القيادة عزله قبل تولّيه الحكم، ولكن تراجع أحد الأشخاص عن التصويت أوقف القرار، ثم اعتقل الأسد هذا الشخص (أحمد سويداني) عندما وصل إلى السلطة".
في أيام المؤتمر، حدثت مشادّات كلامية انتقلت إلى التراشق بالكراسي بين رفاق الأمس، واستخدم صلاح جديد قوته وحضوره في الجهاز المدني لينتزع قراراً من المؤتمر بإعفاء وزير الدفاع (الأسد)، ورئيس الأركان (مصطفى طلاس) من منصبيهما، وتكليفهما بمهام مدنية حزبية. ولكن الأسد ورفاقه كانوا مستعدين لما سيحصل، فلم يحضروا المؤتمر وكانوا وقتها يجتمعون مع الضباط البعثيين في مقر القوى الجوية، وأعلمهم الأسد أنه أقدم الأعضاء العاملين، وأن هؤلاء الذين في المؤتمر جاء بهم الجيش، وهو يعرف كيف يتعامل معهم.
في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر أصدر الأسد أوامره لناجي جميل، قائد الاستخبارات، باعتقال صلاح جديد ومناصريه من القيادة، ونُقلوا إلى مقر المخابرات. ولحقهم محمد رباح الطويل والأتاسي وزعّين وآخرون. وخلال أيام عدة، حتى السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، احتُلّت مكاتب الحزب وفروعه، ومنظماته الشعبية، وحقق الأسد ورفاقه السيطرة الكاملة على الجيش السوري ووحداته في المحافظات كلها.
وللمرة الأولى نروي الحادثة التالية من مصدر عاش تلك الوقائع وتوفي قبل سنوات، وننقل عنه ولا نتبنّى الرواية أو ننفيها: "في ليلة اعتقالهم زارهم الأسد في مكان اعتقالهم في شعبة المخابرات الجوية، وأحضر معه عشاءً وجلس الرفاق معاً. في تلك الجلسة عرض الأسد عرضه الأول لقادة الحزب المدنيين، وهو الخروج في اليوم الثاني من السجن والذهاب معه لاستلام المناصب التي يرغبون فيها داخل سوريا أو خارجها شريطة الالتزام بما يقرره هو والقيادة البعثية الجديدة والتوقف عن المهاترات الحزبية".
يؤكد يوسف زعين الرواية بنسخة مختلفة بعض الشيء: "بعد أربعة أيام (من المؤتمر القومي) جاءني صلاح جديد ومحمد عيد عشّاوي وزير الداخلية السابق، وقد تم اعتقالنا. أُخذنا إلى مقر مخابرات القوات الجوية، وفي المساء جاء حافظ الأسد. كنا منهكين. لم يعاملوننا بقسوة فقد كانوا مأمورين. المهم جاء الأسد وقال إنه يريد أن يتحدث معنا لنصل إلى صيغة محددة. كنا نعرف نواياه مسبقاً. صلاح جديد لم يقل كلمةً. غادرنا بعدها الأسد. أما ناجي جميل فكان قريباً أو نسيباً (صهراً) لمحمد عيد عشاوي وزير الداخلية، وأحضر لنا بعض الطعام. أكلنا أنا وعشاوي ولم يأكل صلاح جديد رحمه الله" (يذكر زعّين اسم محمد الشامل على أنه وزير الداخلية وأنه اعتقل وقتها ويبدو أنه أخطأ).
في تلك السهرة التي استمرت ساعات حتى الفجر، ووفق مصدرنا، قال جديد للأسد: "غداً سنسحلكم في الشارع". لم يعجب الجواب الأسد وقال له: "إذاً ابقوا هنا وسنرى". وبقوا طويلاً.
محاولات ومفاوضات فاشلة
في العامين التاليين، 1971 حتى 1973، ترك عادل العمل البعثي وتحوّل إلى العمل مع منظمة الصاعقة التي سبق للبعث أن أنشأها عام 1967، وشاركه في رحلته هذه محمد عيد عشاوي وزير الداخلية، الذي قدّم استقالته والتحق الاثنان بقوات الصاعقة وبقيا معاً حتى تاريخ اعتقالهما في دمشق.
يُروى أنّ المرحوم عشّاوي أعلن أمام مؤتمر قطري للحزب (ربيع 1969)، أنه سيتخلى عن جميع مناصبه الرسمية كي يلتحق بقواعد المقاومة في الأغوار في الأردن، وقد تعرّض مع المرحوم عادل لقصف جوي على المغارة الخفية التي كانت مقرّ قيادته، ولاحقاً تم اعتقال عشّاوي وعادل في فترات متقاربة.
تروي معلومات محلية تُنشر للمرة الأولى كما نعتقد، ونرويها كما هي دون تبنّي ما يرد فيها، أنّ الأسد طلب من عز الدين نعيسة، ابن عم عادل، سفير سوريا في دول عدة، قيادة مفاوضات مع عادل والآخرين للخروج من السجن خلال سنوات السبعينيات، ولم يصل إلى نتيجة معهم. وفي آخر جولة من هذه الجولات مطلع الثمانينيات، ننقل عن مصدرنا السابق، أنّ رئيس الاستخبارات السورية زارهم في السجن مرتين وعرض عليهم الانضمام إلى السلطة البعثية، و"طلب جديد مناظرةً مع الأسد تُبثّ على شاشة التلفزيون والراديو"، فوافق الأسد، ثم اشترط جديد شرطاً غرائبياً: "عودة الذين قُتلوا من البعثيين إلى الحياة"، ويعني محمد عمران وقد قُتل في بيروت، والبيطار وقد قُتل في باريس. فكان جواب الأسد شتيمةً من العيار الثقيل وتوقفت المفاوضات ولم تتكرر.
الرواية السابقة مصدرها موالون للأسد، في حين أنّ أشخاصاً من خارج هذه الدائرة نفوا نفياً قاطعاً قصة المفاوضات وأرجعوها إلى "حرب الشائعات" التي برعت فيها السلطة الجديدة ضد معارضيها من البعثيين، بهدف إظهار نواياها الحسنة تجاه رفاق الأمس.
في رواية لمقرّب من الراحل عادل، فإنه في أثناء زيارة رئيس الاستخبارات السورية في العام 1981 أو 1983، عرض الأخير الإفراج عنهم مقابل الانضمام إلى السلطة بشروطها، حيث كانت دمشق على أبواب مؤتمر قطري أو قومي بعيد أحداث حماة التي بدأت عام 1979، إلا أنّ عادل طلب محاكمةً علنيةً، ومن كلام المقرّب: "أنتم تقدّمون عرضاً لمساجين لا يمكنهم قبول العرض أو رفضه، حاكمونا وقرروا ما تشاؤون بعدها".
يذكر عادل نعيسة في تسجيل صوتي له أنّ السجن (في المزّة)، كان عبارةً عن زنازين انفرادية يجمع بينها ممر ضيق، سمّاه "بوابة العزلة"، ومن ضمن المساجين معه ضافي الجمعاني من الأردن، وسليمان العبد الله من العراق، ومحمد رباح الطويل من اللاذقية، وكان الأخير أقرب إلى جناح أكرم الحوراني، وغيرهم.
التجربة الأخيرة في المعارضة
صمت عادل بعد خروجه من السجن عام 1994، وقد دخله في عمر الثلاثين وخرج وهو في مطلع الستينات، وعندما انطلق الحراك في سوريا عام 2011، وكان قد تجاوز الخامسة والسبعين من العمر، خرج عن صمته وعزلته وسارع ليشارك فيه عبر المشاركة في تأسيس "الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير" التي ضمت معارضين سابقين، شيوعيين وناصريين وبعثيين ومستقلّين، أو للدقة من بقي منهم فاعلاً في الحياة السياسية السورية الخاوية على عروشها. كما شارك في منصات المعارضة ورفض أشكالها "غير الوطنية" التي لعبت بها دوائر القرار الإقليمية والدولية، كما بات عضواً في منصة موسكو المعارضة.
صمت عادل بعد خروجه من السجن عام 1994، وقد دخله في عمر الثلاثين وخرج وهو في مطلع الستينات، وعندما انطلق الحراك في سوريا عام 2011، وكان قد تجاوز الخامسة والسبعين من العمر، خرج عن صمته وعزلته وسارع ليشارك فيه عبر المشاركة في تأسيس "الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير"
تأسست جبهة التغيير بعد وقت قصير على انطلاق الحراك السوري، وكان الأخير قد تسلّح في أيامه الأولى بأسلحة بسيطة "لا تُسقط النظام ولكنها تستدعيه" كما قال عادل في حواره مع نقولا ناصر عام 2012، وعن حكم الحزب قال إن سوريا تحولت من "دولة الحزب إلى حزب الدولة". وعند سؤاله عما إذا كان البعث "يجدد" ذاته اليوم (2012) أجاب: "قطعا لاً"، مضيفاً: "حتى يصْلُح البعث عليه أولاً تنحية قياداته الحالية"، لذلك لا مشكلة لديه تحت أي اسم يمارس نضاله الوطني طالما "أعمل بنفس الأفكار والقيم التي أؤمن بها".
ويرى عادل في الحوار السابق معه، أن الأسباب التي قادت إلى اعتقاله ورفاقه في القيادتين القطرية والقومية للحزب، هي الخلافات حول توجهات السياسة السورية بعد حرب الـ67 "ليثبت تطور الأحداث اليوم أنهم كانوا على صواب"، وفق رأيه. لكنه يحرص على الجيش السوري كمؤسسة وطنية كان بناؤها الإنجاز الأهم للأسد الأب، بقدر حرصه على التحالفات الإقليمية والدولية التي أقامها، في الأقل حتى يتوفر بديل عربي ذو صدقية لها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
نهاية رجل شجاع
بعد عام من وفاة صلاح جديد، صيف العام 1993، خرج عادل من السجن، وبرغم وجود حكم قضائي بإعادة حقوقه المدنية وراتبه الوظيفي كمعلم في اللاذقية، إلا أنّ القرار لم يُنفَّذ. وفي بيته في اللاذقية قضى أيامه الأخيرة بعد إصابته بكسر في أحد أطرافه، وخلال سنوات عيشه التي تلت السجن لم يقم أحد بتوثيق مذكراته وبذلك خسرت سوريا مذكرات آخر شخص من تلك المرحلة السورية العاصفة، إذ إنّ غالبية رجالات تلك الحقبة قضوا في المنافي وآخرهم يوسف زعيّن في هولندا عام 2016.
لم يتزوج عادل وعاش شبه وحيد، ورحل وحيداً. عندما أفرج الأسد عنه من سجنه طلب أن يلتقيه. يروي عادل أنّ الأسد الأب استقبله بعبارة: "شبت يا عادل"، فرد الأخير عليه: "سبقتنا يا حافظ"، واستمر اللقاء بينهما بين ثلاث وخمس ساعات، ولم يلتقيا بعدها أبداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت