"لم يعد المنزل الذي تركه والدي لنا، أنا وأخي، كميراث، يسعنا جميعاً نحن والحيوانات التي نملكها"؛ بهذه الكلمات بدأ حمادة محمود، الفلاح أباً عن جد، حديثه إلى رصيف22، واصفاً مشكلته مع التغير الذي طرأ على حياته بسبب ظاهرة ارتفاع درجات الحرارة.
ويشرح الأمر بالتفصيل قائلاً إن البهائم في حظيرته القديمة كانت تتكدس فوق بعضها البعض، وكان يترك الحمار في الشارع لأنه لا يوجد له مكان في الداخل، ما تسبب في انزعاج الجيران، ناهيك عن زوجته التي كانت تعاني عند عملية الحلب أو العلف. ويضيف حمادة البالغ من العمر خمساً وثلاثين عاماً، والمقيم في محافظة الشرقية في مصر: "لم يكن أمامي في ظل ظروفي الاقتصادية السيئة سوى تجريف قطعة أرض زراعية، وهو أمر مخالف للقانون، وبناء زريبة واسعة عليها، واعتمدت في الإنارة على بعض الكشافات التي تضيء ليلاً، وأضفت فتحات تهوية في الجدران".
اشتريت قطعة أرض واسعة وبنيت حظيرةً أوسع بشكل بدائي، ونقلت المواشي إليها كحل إسعافي.
والمثير في حديث هذا الفلاح المصري، أنه لم يعد ينام في سريره الذي تربّى فيه منذ طفولته في منزل والده الصغير، وأخذ بعض الأغطية لينام على الأرض في حظيرته الجديدة ليحمي بهائمه من أي سطو مسلح. وحول التغيّر الذي حدث من هذه الخطوة أو فوائدها، أوضح لنا أن زوجته التي تتولى مهمة الحلب والحصول على اللبن من البهائم لاحظت زيادةً ملحوظةً بمقدار كيلوغرام يومياً، كما أن عجول التسمين الصغار ازداد وزنها نسبياً، بفعل المساحة الواسعة واستمتاعها بالجري واللعب والهواء الطلق، لكن حمادة يواجه عقوبة دفع الغرامة أو قيام قوة من الشرطة بهدم الجدران التي بناها على هذه الأرض الزراعية لأجل عيون "بهائمه".
"اضطررت إلى شراء مكان أكبر"
في السياق السابق نفسه، وبالحديث عن المتضررين من ظاهرة التغير المناخي، نجد أن الفلاحين والمزارعين ومربّي الأبقار والماشية، سواء كانوا صغاراً أو أصحاب مزارع كبيرة، من الفئات المتضررة بشدة من هذه الظاهرة، ويسعون إلى تقليل خسائرهم بشتى الطرق من خلال استحداث وسائل جديدة تساعدهم على التكيف مع الارتفاع الشديد في درجات الحرارة والحفاظ على ثروتهم الحيوانية والزراعية.
ولعل ذلك يظهر جليّاً في حديث أشرف مهدي (28 سنةً)، وهو مزارع في إحدى قرى محافظة الشرقية المصرية ويملك حظيرةً أو "زريبةً" كما يُطلق عليها بالعامية المصرية، وأوضح لرصيف22، أنه بدأ عمله في الفلاحة بعد وفاة والده عام 2011، وكانت الأمور تسير معه على ما يرام، لكن منذ ثلاثة أعوام تقريباً بدأ يستشعر الغضب لدى البقر والجواميس التي يملكها، وعددها لم يكن يتعدى 11 رأساً، والسبب ارتفاع درجات الحرارة.
"كان الحل في إضافة فتحات تهوية في الحائط، لكن ذلك لم يكن كافياً، فاشتريت قطعة أرض واسعة وبنيت حظيرةً أوسع بشكل بدائي، ونقلت المواشي إليها كحل إسعافي"، يقول مهدي.
البهائم في حظيرتي القديمة كانت تتكدس فوق بعضها البعض، وزوجتي كانت تعاني عند عملية الحلب أو العلف. لم يكن أمامي سوى تجريف قطعة أرض زراعية، وبناء زريبة واسعة عليها، واعتمدت في الإنارة على كشافات تضيء ليلاً، وأضفت فتحات تهوية في الجدران
سلالات جديدة
وعلى ما يبدو، فإن مصر ليست الدولة الوحيدة التي يعاني مربّو الماشية فيها من ظاهرة تغير المناخ. بالحديث مع إبراهيم الهواري الذي يعمل في إحدى مزارع الماشية في مدينة الدار البيضاء المغربية، يشير إلى أن تغير المناخ يهدد تربية الماشية، فهناك أنواع لا تتحمل ارتفاع درجات الحرارة، مثل البقر الحلوب المستورد، ومن أصنافه الهولشتاين والموبيليار والفليكفي، وهي أنواع متأقلمة على العيش في بيئة أقل حرارةً خلال الصيف، وتستوردها الدول العربية لإنتاجها الغزير من اللحوم والحليب.
ولتجنب حدوث كارثة أو نفوق المواشي، يقول إبراهيم إنه على الفور يتم تشغيل المراوح ورشاشات المياه إن تجاوزت درجات الحرارة المئوية الـ30، كما يحرصون على تقديم الماء البارد للماشية وتغييره باستمرار إن فقد برودته، كذلك بناء أسقف الصاج العازلة للحرارة وتقليل عدد الماشية سواء كانت بقراً أو جواميس في كل عنبر.
كذلك أوضح إبراهيم لرصيف22، أن السلالات البلدية تتحمل ارتفاع الحرارة نسبياً أكثر من المستوردة، ونصح كافة مربّي الماشية، خاصةً الصغار منهم، باتّباع الوسائل التي ذكرها حتى لا يتأثر الإنتاج من اللحم أو الألبان بسبب الإجهاد الحراري، كما أن نفوق واحدة من الماشية يكلّف الكثير من الأموال، فسعر البقرة يتجاوز 2،500 دولار، وهو ثمن خيالي حسب قوله.
منذ ثلاثة أعوام تقريباً بدأ يستشعر الغضب لدى البقر والجواميس التي يملكها.
الحمّى القلاعية
وإن تحدثنا عن المواشي هذه الأيام، فلا بد من التطرق إلى مرض الحمّى القلاعية الذي أصبح الشغل الشاغل لكل فلاح يملك بقرةً واحدةً على الأقل، إذ إن هذا المرض بدأ يتفاقم وقد تسبب في نفوق الكثير من المواشي هذا العام، وفي هذا الصدد تقول ياسمين عبد الرازق، الدكتورة البيطرية في معهد الهندسة الوراثية في المنوفية، إن مرض الحمى القلاعية هو في الأساس مناعي، ويصيب معظم الحيوانات ما عدا بعض الأنواع مثل الخيول نظراً إلى قوة مناعتها، مشيرةً إلى أن خطورته تتمثل في قدرة الفيروس على الانتشار السريع سواء من خلال اللبن أو اللعاب أو الرذاذ.
وتشير الطبيبة إلى أن هذا الفيروس ليس جديداً، لكنه اليوم ينتشر بشكل أسرع مع ارتفاع درجات حرارة الجو، وعدم وعي بعض الفلاحين والمربين بالإرشادات والوسائل الصحيحة للتعامل مع المواشي في فصل الصيف، مثل ضرورة التهوية الجيدة، وتعقيم الأيدي والأرجل فور الخروج من المزرعة أو الحظيرة، بالإضافة إلى أهمية تقوية مناعة الحيوان وعدم الاكتفاء بتقديم الغذاء والأعلاف له فقط، وتختم حديثها بالقول: "سيشهد العالم موجات متتاليةً من الحمّى القلاعية تشبه حدتها موجات كورونا بسبب تغيّر المناخ".
توصيات وحلول
تتسابق اليوم شركات الأعلاف لنيل بعض المكاسب من المخاوف المرتبطة بظاهرة التغيّر المناخي، فاستحدث بعضها أعلافاً تتميز بخصائص تجعلها خفيفةً وسهلة الهضم، إذ إن الأعلاف التي تقدَّم للماشية من أجل التسمين أو زيادة اللبن تكون ثقيلةً على المعدة والجسم نوعاً ما، وتُدخل الحيوان في حالة خمول وتؤثر على التمثيل الغذائي، لذلك حرصت بعض الشركات البيطرية على استحداث أعلاف تحتوي على مادة السالسليك أو الأسبرين القادرة على تخفيض درجة حرارة الجسم، وعلى عناصر الصوديوم والبوتاسيوم والغلوكوز.
لتجنب حدوث كارثة أو نفوق المواشي، يتم تشغيل المراوح ورشاشات المياه إن تجاوزت درجات الحرارة المئوية الـ30، وتقديم الماء البارد للماشية وتغييره باستمرار إن فقد برودته، كذلك بناء أسقف الصاج العازلة للحرارة وتقليل عدد الماشية في كل عنبر
وفي سياق متصل، يشير الخبير المناخي والمستشار الزراعي الدكتور محمد فهيم، إلى وجود تأثيرات واضحة لتغير المناخ على تربية المواشي، في مصر وغيرها من البلدان، ويعطي خلال حديثه إلى رصيف22، بعض التوصيات لمربّي الماشية لتجنّب أي خسائر في الرؤوس الحية خلال فصل الصيف.
من هذه التوصيات عدم تقديم التبن، الذي ينتج من عيدان القمح والذرة والأرز بعد جفافها وطحنها، لأنه يتسبب بالعطش إلى حد ما، خاصةً خلال فترة الظهيرة، والانتظار حتى وقت المغرب حتى تنخفض درجات الحرارة، والاهتمام بالغذاء الأخضر مثل البرسيم الذي يحتوي على كمية كبيرة من المياه ويرطّب كبد الحيوان.
بالإضافة إلى ما سبق، ينصح فهيم، المزارعين بتنظيف جلد المواشي بالمياه بشكل مستمر، حتى لا يتعفن وتصبح عرضةً للإصابة بالأمراض الفطرية والحشرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...