شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
76% من العيّنات ملوثة... مبيدات ممنوعة على موائد اللبنانيين

76% من العيّنات ملوثة... مبيدات ممنوعة على موائد اللبنانيين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 27 مارس 202211:33 ص
Read in English:

76% of samples contaminated: Banned pesticides garnish Lebanese dinner tables

ينشغل المزارع علي عيسى برشّ الأعشاب الضارة التي بدأت تنبت في حقله، بين المحاصيل. لا يتساهل معها أبداً لأنها تؤثر على الإنتاج وجودته وتجذب الأمراض والحشرات المؤذية. المبيد الذي يرشه ذو فعالية سريعة، تبدأ نتائجها بالظهور خلال يومين على الأكثر، لكنه واحد من المبيدات المحرّمة دولياً والمحظورة في لبنان منذ أكثر من عشر سنوات.

يصرّ عيسى (50 عاماً)، وهو من منطقة رأس العين في مدينة صور، على استخدام "الباراكوات" (Paraquat)، وهو مبيد ارتبط استعماله بظهور مرض الشلل الرعاشي (الباركنسون)، وحظرته بعض البلدان مثل السويد منذ عام 1983. يلجأ إليه بحكم العادة والتجربة فقد اختبر فعاليته على مدى سنوات طويلة، ولا يغامر بتجربة مبيدات جديدة لأن ذلك قد يعني بالنسبة إليه خسارة موسم بأكمله.

وعلى الرغم من مخاطره الصحية والبيئية وتأثيراته الاقتصادية المتمثلة في تراجع الصادرات الزراعية، ما يزال هذا المبيد، بجانب غيره من المبيدات المحظورة والممنوعة من دخول الأراضي اللبنانية، مستخدماً على نطاق واسع.

جُمع في لبنان... 76% من العيّنات ملوثة

قد تغرينا عبارات الباعة "حمرا وغندورة يا بندورة"، و"أصابع البوبو يا خيار"، لكن يمكن للمظاهر أن تكون خدّاعةً وقاتلةً أحياناً. للتأكد من هذه الفرضية، أخذنا عيّنات من الخضار وأخضعناها للفحص المخبري. فما لا تراه العين يفضحه المجهر.

الوجهة: الأراضي الزراعية في سبع محافظات لبنانية: بعلبك-الهرمل، والبقاع، والشمال، وعكار، وجبل لبنان، والجنوب، والنبطية.

المهمة: جمع عيّنات من البندورة والخيار لفحص متبقيات المبيدات فيها. اختير هذان الصنفان من المحاصيل الزراعية كونهما يشكلان 50% من المساحات المزروعة بالخضار في لبنان".

الزمان: صيف 2021.

جُمعت العيّنات من الأراضي الزراعية للتأكد من أن ما نجمعه مُنتَج في لبنان وليس مستورداً، وغير معَدّ للتصدير، أي أنه سيُستهلك من قبل المقيمين على الأراضي اللبنانية. كما تأكدنا من أن الثمر ناضج ومُعَدّ للقطاف وليس في فترة التحريم أو الأمان (المدة الزمنية ما بين الرشّ والقطاف)، وامتنعنا عن جمع أي ثمر أخبرنا المزارع بأنه مرشوش وينتظر أياماً كي يقطفه.

كانت رحلاتنا الأولى إلى المحافظات الساحلية (الشمال، عكار، جبل لبنان، والجنوب). موسم البندورة والخيار يبدأ أوائل فصل الربيع. الرطوبة عالية، ودرجات الحرارة بدأت بالارتفاع. طقس مثالي لهذين المحصولين، لكنه غير مثالي بالنسبة لنا، خصوصاً أن السيارة من دون تكييف.

في المناطق الساحلية، يسود نمط الزراعة المحمية، أي داخل البيوت البلاستيكية، كونها تحفظ الحرارة وترفع الرطوبة، خصوصاً في الشتاء. أما في المحافظات الداخلية (بعلبك-الهرمل، والبقاع)، فتغلب الزراعة الحقلية، لذلك يتأخر موسمها حتى بداية فصل الصيف.

بلغ إجمالي عدد العيّنات التي فُحصت في مختبرات RBML المعتمدة من قبل وزارة الزراعة، 46 عيّنةً، منها 25 عيّنة من البندورة، و21 من الخيار.

تبين أن 76% من هذه العيّنات ملوثة بالمبيدات. فقط 11 عيّنة من أصل 46 (24%)، لا تحتوي على متبقيات.

بعد مقارنة النتائج بلائحة مركبات المبيدات الممنوعة الصادرة عن وزارة الزراعة بنسختها الأخيرة في نيسان/ أبريل 2021، تبيّن أن أكثر من نصف العيّنات تحتوي على متبقيات لمبيدات ممنوعة في الأسواق اللبنانية، من بينها ما مُنع قبل سنوات، وخُمس العيّنات تحتوي على نسب عالية من المبيدات تتجاوز الحد الأعلى المسموح به، حسب المعايير المعتمدة من قبل مؤسسة المقاييس والمواصفات اللبنانية LIBNOR.

واحدة من العيّنات تجاوزت المتبقيات فيها الحد الأعلى المسموح به، أي 18 مرةً لمبيد ممنوع، وأخرى بأربع مرات لمبيد غير ممنوع، لكنه يُصنَّف من قبل منظمة الصحة العالمية على أنه شديد الخطورة، ويُشتبه في كونه يؤثر على الخصوبة ويؤدي إلى تشوهات في الأجنّة.

وصل عدد المركّبات المكتشفة في العيّنات إلى 20 مركّباً (مادة فعالة)، بينها تسعة ممنوعة، أي أن المزارع يستعمل المبيد الممنوع كما المسموح بالتساوي، وهذا دليل على انتشار المبيدات في الأسواق وسهولة الحصول عليها، على الرغم من ارتفاع أسعارها.

مصادر المبيدات

يحصل 89% من المزارعين على المبيدات من الصيدليات الزراعية، حسب نتائج استبيان أجرته معدّة التحقيق شمل 53 مزارعاً من مختلف المناطق اللبنانية. صرّح 47 منهم بأنهم يستخدمون المبيدات في زراعتهم أي بنسبة 89%، فيما أكد ستة مزارعين فقط أنهم لا يستخدمون أي نوع من المبيدات.

نسبة لا تتعدى الـ12% من المزارعين، تعمد إلى شراء المبيدات من باعة متجولين أو من مهربين أو من متاجر غير مرخصة، في حين أن الصيدليات المرخصة الخاضعة لرقابة وزارة الزراعة هي المصدر الأساسي لـ"فوضى المبيدات".

تؤكد شهادات المزارعين الذين قابلناهم خلال جولاتنا الميدانية أنهم يحصلون على المبيدات الممنوعة من الصيدليات الزراعية، ويتقصد أصحابها عدم عرضها على الرفوف وإخفاءها في مستودعات بعيداً عن أعين الرقابة، وبيعها لمعارفهم من المزارعين.

مُزراعون عرضة للسموم

تعمل وسام (16 عاماً)، في الزراعة منذ أن كانت في عمر الـ12 سنة، حالها كحال 75% من أطفال اللاجئين السوريين المقيمين في سهل البقاع، على الرغم من المخاطر التي يتعرضون لها، خصوصاً تعرضهم للمبيدات.

ساعات طويلة تقضيها وسام في الحقول، تقلع الأعشاب، وتحصد البطاطا، وتزرع الخيار والدخان. ومع أن رشّ المبيدات ليس من مهامها، إلا أن ذلك لا يجعلها في منأى عن الخطر. لا يسمح الشاويش (مسؤول المجموعة في المخيم أو المزرعة)، للعاملين بمغادرة الحقل عند الرشّ، ولا يؤمّن لهم أدواتٍ وقائيةً مثل الكمامات والقفازات والأحذية، فتكتفي وسام بلفّ المنديل على وجهها ليغطّي أنفها وفمها، إلا أن الرائحة القوية للمبيدات تخترق هذا الحاجز وتسببت مراراً في إصابتها بعوارض منها ضيق التنفس، والدوار، واحمرار العينين، والغثيان والتقيؤ. لا تتوقف أعراض التسمم هذه إلا بعد تلقّي مصل في المستوصف.

قد تغرينا عبارات الباعة "حمرا وغندورة يا بندورة"، و"أصابع البوبو يا خيار"، لكن يمكن للمظاهر أن تكون خدّاعةً وقاتلةً أحياناً. للتأكد من هذه الفرضية، أخذنا عيّنات من الخضار وأخضعناها للفحص المخبري. فما لا تراه العين يفضحه المجهر...

تقدّر منظمة الصحة العالمية حالات التسمم الحادة بسبب المبيدات حول العالم، بثلاثة ملايين حالة سنوياً، تنتج عنها 40 ألف حالة وفاة. في لبنان، لا إحصاءات حول حالات التسمم بالمبيدات، ولكن حسب الاستبيان، فإن مُزارعاً واحداً من بين كل خمسة تعرّض للتسمم مرةً على الأقل، نتيجة التهاون في الإجراءات الوقائية، خصوصاً أن النسبة ذاتها من المزارعين ترى أن المبيدات لا تشكل خطراً على الصحة، وهذا ما يفسر لجوء بعضهم إلى أنواع ممنوعة منها.

تظهر نتائج العيّنات أن مركّباً واحداً من بين تسعة مركّبات ممنوعة، ذو سمّية مرتفعة حسب منظمة الصحة العالمية، لكن ما هو لافت أن اثنين من المركبات غير الممنوعة مصنفة على أنها شديدة وعالية الخطورة، ما يضع علامات استفهام حول سماح وزارة الزراعة باستيراد مركبات شديدة السمية من دون الالتفات إلى ضررها الصحي والبيئي بذريعة أنها ما تزال مستخدمةً في الدول المرجعية، أي الدول التي يرجع إليها لبنان في منع أي مبيد أو السماح به، وهي: الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وسويسرا، وكندا، واليابان.

الجرعة التي تصنع السم

يلاحظ خبير المبيدات الدكتور سالم حيّار، أن "جميع المركّبات المستخدمة التي ظهرت في العيّنات (المفحوصة) هي لمبيدات تقليدية مضى الزمن على استعمالها، وكنت أنصح وزارة الزراعة بالإقلاع عنها، وإدخال مبيدات جديدة، لأن الحشرات أو الآفات اكتسبت مناعة ضدّها".

ويشرح أنه نتيجةً لذلك، "أصبح لزاماً على المزارع زيادة الكمية المستخدمة للرشّ ليزيد من فعاليتها، كما أنه يستعملها على مختلف المحاصيل من بندورة وخيار وغيرها".

خطورة هذه الممارسات، يتابع، تكمن في أنها "ترفع مقدار الجرعة المستهلكة من مركب كيميائي معيّن، ما يؤدي إلى تراكم السموم في الجسم، بينما الأفضل اعتماد أدوية انتقائية تعمل على حشرة أو آفة معيّنة، وتالياً تتوزع الجرعات على أكثر من مبيد، فيقلّ بذلك مقدار الجرعة المستهلكة ولا تتخطى نسبها الطبيعية، وعندها يمكن تناولها على مدى العمر من دون التعرض لخطر ملموس على الصحة".

ويشدد حيّار، على أن المبيدات تتحول إلى سمٍّ إذا تخطّت النسب المسموحة، تماماً كالأدوية البشرية، ويستشهد بمقولة لمؤسس علم السموم باراسيلسوس Paracelsus: "إنها الجرعة التي تصنع السم".

تتعدى التأثيرات الصحية للمبيدات تلك الآنية التي تظهر فور التعرّض لها عن طريق الجلد، والفم، والعين أو الاستنشاق، مثل التسمم والدوخة والغثيان، إلى آثار بعيدة الأمد أكثر خطورةً مثل التسبب بالسرطان، والاضطرابات العصبية، ومشكلات في الصحة الإنجابية (الإجهاض، وتشوّه الأجنّة، وضعف الخصوبة...)، وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة كالربو، وهذا مؤكد علمياً وليس محل جدل، لكنه يتوقف على كمية المبيد ومدة التعرض له.

"مافيات المبيدات"

"تلوث الغذاء والبيئة سبب أساسي في زيادة الأمراض السرطانية في البلاد"، تقول د. ندى نعمة، نائبة رئيس "جمعية المستهلك"، وهي جمعية تعمل على الدفاع عن حقوق المستهلكين في لبنان.

واحتلّ لبنان عام 2020، المركز الثالث في عدد الإصابات بالسرطان، نسبةً إلى عدد السكان، في إقليم شرق المتوسط، حسب الوكالة الدولية لبحوث السرطان، التابعة لمنظمة الصحة العالمية.

عام 2003، بدأت "جمعية المستهلك" حملةً للحد من استعمال المبيدات بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو)، ووزارة الزراعة، ولكن بعد 18 عاماً "لا يوجد تقدّم"، تقول نعمة آسفةً، "لأن الدولة لم تفعل شيئاً إلى الآن، وكل التوصيات التي كنّا نتوصل إليها في اجتماعاتنا مع وزارة الزراعة أو لجنة الزراعة النيابية، باء تبنّيها بالفشل". أما عن هوية مَن عطّل وعرقل الحلول فهم "مافيات الأدوية" كما تسميهم نعمة، أو "التجار ومَن يساعدهم من أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية".

الدولة في خدمة التجار

أواخر عام 2017، أصدر وزير الزراعة السابق غازي زعيتر، قراراً يسمح بإعادة استيراد 18 مبيداً من أصل 36 كان وزير الزراعة السابق، أكرم شهيب، والصحة وائل أبو فاعور، قد منعا دخولها بموجب قرار مشترك يحمل الرقم 1048/1، صدر في 13 حزيران/ يونيو 2016، وذلك "لكونها مرتبطة بمرض السرطان وتشكل خطراً على النساء الحوامل"، حسب ما جاء في البند الأول من القرار.

يعلّل زعيتر قراره بأن هذه المبيدات "ما زالت مسجلةً ومستعملةً في بلدان عدة مصنفة مرجعيةً، ولا توجد بدائل لبعضها على بعض الأمراض والحشرات، ما سبب مشكلةً للمزارعين وزاد في كلفة الإنتاج، وقد يكون سبباً في اللجوء إلى التهريب".

"إنها الجرعة التي تصنع السم"... المبيدات تتحول إلى سمٍّ إذا تخطّت النسب المسموحة، تماماً كالأدوية البشرية

تبرير زعيتر لا يُقنع نعمة. ترى أن ما جرى يضع علامة استفهام حول مبرر إدخال هذه المواد إلى لبنان مرةً أخرى، بعد حظرها لأكثر من سنة، استطاع المزارع خلالها الاستغناء عنها، وتضيف: "لو كانت ممنوعةً في بلد واحد فقط، فلسنا مضطرين إلى استعمالها".

علامات الاستفهام تنسحب أيضاً على قرار شهيب-أبو فاعور، الذي أعطى فترة سماح لمدة عام لاستخدام المبيدات "المسرطنة" التي شملها القرار 1048، كما أنهما أصدرا قراراً مشتركاً بعد 14 يوماً حمل الرقم 1202/1 باستثناء مبيدات وصلت إلى مرفأ بيروت والسبب، حسب ما جاء في البند الأول منه، أنها "شُحنت قبل تاريخ صدوره حسب الوثائق المقدمة من أصحاب العلاقة"، ما يعني أن الوزيرين اللذين أصدرا القرار 1048، كانا أول مخالفيه، فأُدخلت البضاعة بدلاً من ردها إلى بلد المنشأ.

القصة لم تنتهِ هنا. تقدّمت جمعية "مستوردي وتجار مستلزمات ​الإنتاج الزراعي​ في ​لبنان" عام 2016، بطعن لإبطال هذين القرارين أمام مجلس شورى الدولة (المحكمة العليا التي تتولى القضاء الإداري)، بدعوى "عدم ثبوت ضرر المبيدات الزراعية موضوع القرارين وخطورتها"، و"اعتراضاً على عدم استطلاع رأيها بشأنهما وعدم الرجوع إلى لجنة ​الأدوية​ الزراعية وأخذ موافقتها بصفتها المرجع القانوني لاتخاذ القرارات بشأن ​تجارة​ الأدوية الزراعية"، حسب ما جاء في بيان صدر عن المكتب الإعلامي لرئاسة الجمعية.

للتحقق من ادّعاء الجمعية، عدنا إلى قائمة "وكالة حماية البيئة الأمريكية" (EPA)، للمواد المسرطنة، فتبيّن أن 32 مركباً من أصل 35 شملها القرار (مركب واحد غير مدرج على القائمة)، مصنّفة لديها بأنها يمكن أو يحتمل أن تسبب السرطان، كما أن 11 مركباً تسبب مشكلات في الخصوبة وتضرّ بالأجنّة حسب قاعدة البيانات الكيميائية المفتوحة التابعة لوزارة الصحة الأمريكية. على الرغم من ذلك، أبطل مجلس شورى الدولة بالفعل، في الثامن من آذار/ مارس 2018، قراري وزيرَي الزراعة والصحة العامة بذريعة "تجاوز حد السلطة لمخالفتهما ​الأصول​ الجوهرية المنصوص عليها في القوانين والأنظمة".

التخبط في القرارات لم ينتهِ عند هذا الحد. عُلّق في مطلع عام 2018 العمل بقرار زعيتر إلى حين الانتهاء من دراسة المواد الفعّالة وتقييمها من قبل لجنة خبراء علمية مستقلة تُشكَّل لهذه الغاية.

جاء القرار بعد التشكيك بلجنة الأدوية الزراعية التابعة لوزارة الزراعة والمكلفة بالمهمة نفسها التي أنيطت باللجنة المقترحة، إذ استند زعيتر إلى محضر اجتماع اللجنة قبل اتخاذ قراره بتشكيل لجنة جديدة. ولكن اليوم، وبعد مرور أربعة أعوام، لم ترَ اللجنة الجديدة النور.

تضم اللجنة الحالية، إلى جانب مدير عام وزارة الزراعة ومدير الثروة الزراعية ورئيس مصلحة وقاية النبات ورئيس دائرة الصيدلة النباتية ومندوب وزارة الصحة وممثل الجامعة الأمريكية وممثل عن مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، ستة ممثلين للمهن المتعلقة بالمبيدات (الاستيراد والبيع والتوضيب والتحضير والصنع والاستعمال)، أي أن مَن يُفترض أن يكون خاضعاً للرقابة يقوم بالمراقبة. ومع أن مرسوم تشكيلها لم يمنحهم صفة العضو الأصيل، إلا في ما يتعلق بالمواضيع المتعلقة بمهنهم، إلا أن ممثلي المهن أصبحوا عملياً مؤثرين في مسألة علمية بحتة، كالسماح باستخدام مبيد معيّن من عدمه.

يُذكر أن تأليف اللجنة يستند إلى قانون يعود إلى ستينيات القرن الماضي، لم تحدَّث مواده منذ ذلك الحين بما يتلاءم مع تطور العمل في هذا المجال.

التهريب "الشرعي"

استحوذت محافظتا عكار وبعلبك-الهرمل على النسب الأعلى من العيّنات التي تحتوي على مركبات ممنوعة (29% و25%)، وهما المحافظتان اللتان تمتلكان حدوداً واسعةً مع سوريا تمتد لنحو 290 كيلومتراً من أصل 375 كيلومتراً هي مسافة الحدود البرية بين لبنان وسوريا.

وتشير أرقام المجلس الأعلى للدفاع، وهو هيئة مؤلفة من رئيسي الجمهورية والحكومة ووزراء الدفاع، والداخلية، والخارجية، والمالية والاقتصاد، تقرر "الإجراءات اللازمة لتنفيذ السياسة الدفاعية كما حددها مجلس الوزراء"، إلى وجود أكثر من 124 معبراً غير شرعي وخمسة معابر شرعية، تُستخدم لتهريب المحروقات والبضائع والممنوعات والمبيدات الزراعية.


لا يقتصر تهريب المبيدات الزراعية على المعابر غير الشرعية. تشير بيانات مجمّعة من أخبار الصحف منذ عام 2010، إلى ضخامة حجم ما يُضبَط عبر المعابر الشرعية ومنها مرفأ بيروت. ولكن شحنات كثيرةً تنجح في الدخول إلى البلد. ففي 19 تموز/ يوليو 2019، قال وزير الداخلية الأسبق إلياس بو صعب: "التهريب الأكبر يحصل عبر المعابر الشرعية... (والمعابر غير الشرعية) ليست كلها لتهريب البضائع فالكثير منها تكون لتهريب الأشخاص، سيراً على الأقدام".

"يدخل الكثير من الأدوية الزراعية الممنوعة أو المغشوشة أو المنتهية الصلاحية إلى لبنان بشكل قانوني"، يقول أحد العاملين في التهريب، رفض الكشف عن هويته، إذ "تُلغَّم" شحنات الأدوية الزراعية المستوردة المسجلة والمطابقة للمواصفات، بأخرى ممنوعة أو فاسدة، ولا تستطيع رقابة الجمارك أو رقابة وزارة الزراعة كشفها، كونها بكميات صغيرة نسبياً أمام الكميات الكبيرة التي تحملها الشحنة. هذا إذا نفينا فرضية التورط.

على عينك يا تاجر

على رفوف أحد المجمعات التجارية المعروفة في ضواحي بيروت الجنوبية، وفي قسم الأدوات الزراعية، تصطف عبوات المبيدات الزراعية على الرفوف كأي سلعة أخرى في متناول الجميع. يحمل زبون بيده إحدى العبوات، ويبدو حائراً، يسأل واحداً من الزبائن الآخرين عمّا إذا كان الدواء الذي يحمله ينفع لمكافحة الصراصير في المنزل، فيقترح عليه دواءً آخر، يأخذه ويمضي مطمئناً إلى نصيحة الرجل.

لا يعلم أن المبيد الذي اشتراه يحتوي على ثلاث مواد فعالة ممنوعة من أصل أربعة مدوّنة على العبوة: Cypermethrin مُنعت عام 2018، وDiazinon مُنعت عام 2016، وDDVP مُنعت عام 2011، والأخيرة تصنفها منظمة الصحة العالمية عالية الخطورة.

وكل المركبات المذكورة مصنفة لدى الوكالة الدولية لبحوث السرطان أو الوكالة الأمريكية لحماية البيئة، بأنها يمكن أو يُحتمل أن تسبب السرطان. واستند تصنيف Diazinon إلى دليل قوي على أنه يسبب تلفاً في الحمض النووي أو الكروموسومات.

على ملصق العبوة التي اشتراها الزبون، كُتب أنها مصنعة في ألمانيا، لكن ليست هناك أي إشارة إلى الشركة المصنعة أو المستوردة. الأمر سيّان في عبوات أخرى تحتوي على مركّبات لا تقل خطورةً عن التي ذُكرت آنفاً مثل Chlorpyrifos أو Methomyl. لا تحتوي إلا على عبارة "صنع في ألمانيا"، من دون أي معلومة عن الشركة المصنعة أو الشركة المستوردة، مع أن قرار وزارة الزراعة (92/1 الصادر في 20/05/1998)، يلزم بإدراج اسم المصنّع وعنوانه، واسم المستورد وعنوانه على الملصق الخارجي للعبوة تحت طائلة الملاحقة القانونية.

ذُكر على عبوة واحدة فقط أن الشركة المستوردة هي NM مسجلة تحت رقم 3374، لكن بعد البحث في لائحة شركات الاستيراد تبيّن أنه لا يوجد شركة مرخصة بهذا الاسم. للتأكد، اتصلنا بدائرة الصيدلة النباتية في وزارة الزراعة، وأكدت رئيسة الدائرة لما حيدر أن هذه الشركة غير مسجلة، وأن الوزارة تسجل الشركة باسمها وعنوانها ولا تعطيها رقماً للتسجيل، وأكدت أن هذه البضاعة مهربة وأن المؤسسة التي تبيع هذه الأدوية غير مرخصة، ولا يحق لها الإتجار بالأدوية الزراعية قبل الحصول على الترخيص.

أرسلت حيدر فرق الوزارة مع مؤازرة أمنية للكشف على المتجر، فتم الحجز على البضاعة وتحرير محضر بالمخالفة أحيل إلى النيابة العامة، وتعهد صاحب المؤسسة بعدم التصرف بالمبيدات وإبقائها في مستودعاته أو نقلها على نفقته إلى مستودعات وزارة الزراعة إلى حين إتلافها.

ولبنان ليس مجهزاً للتخلص من المبيدات المحظورة لخطورتها، بل يستفيد من مشاريع ينفّذها مع منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) لإتلافها خارج لبنان. وهذه المشاريع لا تنفَّذ بشكل دوري، إنما قد تفصل بينها سنوات عدة.

يقول مصدر في وزارة الزراعة إنه صادر قبل نحو عشرة أعوام مبيدات ممنوعةً، وأودعها مستودعات مختبر "كفرشيما" التابع للوزارة، وما تزال موجودةً هناك إلى اليوم. لكن حيدر تؤكد أن هناك مشروعاً يجهَّز قريباً مع الـ"فاو"، والوزارة بصدد تجميع المبيدات لإتلافها خارج لبنان.

بعد نحو شهرين من تحرير المخالفة، توجهنا إلى المؤسسة مجدداً للتأكد من التزامها بتعهداتها، ووجدنا أنها ما زالت تعرض مبيداً يحتوي على مواد ممنوعة.

كيف تؤثر المبيدات على الصادرات الزراعية؟

في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، منعت قطر بعض الصادرات الزراعية اللبنانية من دخول أراضيها نظراً "لارتفاع نسبة متبقّيات المبيدات، وبكتيريا الإيكولاي والرصاص"، حسب ما جاء في بيان لوزارة الصحة القطرية. وكانت الإمارات قد حظرت إدخال جميع أنواع التفاح اللبناني في قرار أصدرته عام 2017، وبقي سارياً حتى حزيران/ يونيو 2021. وللسبب عينه، أعلنت مصر عام 2019 توقيف شحنة فيها 700 طن من التفاح، علماً أن نصف صادرات لبنان من التفاح تذهب إلى مصر.

ربع حالات رفض الصادرات الزراعية اللبنانية من الخضار إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من عام 2010 حتى عام 2018، كانت بسبب المبيدات، تكشف بيانات منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو)، أما بالنسبة إلى الدول الأخرى التي يصدر لبنان إليها، خصوصاً الدول العربية، فإن موقع المنظمة لا يوفرها.

طلبنا بيانات مماثلة من "المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان" (إيدال) المعنية بدعم الصادرات اللبنانية والترويج لها، لا سيما المنتجات الزراعية، إلا أننا لم نحصل على جواب، لا عند زيارتنا لها، ولا بعد إرسالنا الطلب عبر بريد إلكتروني، بناءً على طلبها.

تبيّن بيانات مديرية الجمارك اللبنانية تراجع الصادرات الزراعية خلال السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من التحسن الذي شهدته سنة 2020، إلا أنه من المتوقع أن تكون قد تراجعت في 2021 (لم تصدر بعد عن مديرية الجمارك)، بسبب الضربات التي تعرضت لها صادرات لبنان الزراعية إلى دول الخليج خلال هذا العام بعد قرار قطر وقرار السعودية منع دخول الفواكه والخضراوات اللبنانية أو نقلها عبر أراضيها بسبب استخدامها في تهريب المخدرات، فأكثر من نصف الصادرات الزراعية تذهب إلى دول الخليج.

أما الصادرات الزراعية إلى الاتحاد الأوروبي، فلا تتعدى نسبتها 4% من إجمالي الصادرات الزراعية على الرغم من مرور 16 عاماً على توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والتي حصل لبنان بموجبها على إعفاء تام من الرسوم الجمركية المفروضة على سلعه الزراعية. ومن أبرز الأسباب وراء ذلك "استخدام المزارع اللبناني مبيداتٍ وأسمدةً محظورةً أوروبياً"، حسب دراسة أعدها مركز الدراسات الاقتصادية في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان عام 2015 حول اتفاقية الشراكة اللبنانية الأوروبية.

الصحة أولوية... ويد واحدة لا تصفّق

"هذا الواقع موجود نتيجة الخلل في سلسلة مراقبة المبيدات الزراعية واستعمالها من قبل المزارعين. في العالم، أصبحت هناك أنظمة مثل الـGAP (Good Practice Agriculture)، أي ممارسات الزراعة الجيدة، تحدد للمزارع الزمان والكمية التي يجب أن يرشها لكل محصول بشكل يحفظ سلامته"، تشرح نعمة، ولكن "في لبنان، المزارع متروك، بينما في كل دول العالم ترافقه الدولة في كل خطواته وتدعمه لأن دعم المزارع هو دعم للقطاع الزراعي ككل وتنمية للبلد"، وتضيف: "نحن الآن في أمسّ الحاجة إلى الحفاظ على الأمن الغذائي، حتى أننا بحاجة إلى أن نزرع أي قطعة أرض لأن كلفة الاستيراد أصبحت مرتفعةً في ظل الأزمة الاقتصادية".

تؤكد إجابات المزارعين في الاستبيان كلام نعمة، فقد أكد أكثر من 80% منهم أن أحداً من وزارة الزراعة لم يزرهم لا خلال العام الماضي ولا حتى خلال آخر خمس سنوات للقيام بالرقابة أو الإرشاد. وأفاد ثلاثة منهم فقط بأنهم تلقوا الإرشاد حول استخدام المبيدات من مرشدي الوزارة، أما البقية فصرحوا بأنهم تعلموا من خلال خبرتهم، أو من خلال مهندسين زراعيين أو تجار أو جمعيات.

وعملاً بحق الرد، وكون وزارة الزراعة هي المسؤولة قانونياً عن إرشاد المزارعين وفحص المتبقيات ومراقبة الصيدليات الزراعية، توجهنا بكتاب إلى وزير الزراعة عباس الحاج حسن، إلا أننا لم نتلقَّ رداً حتى نشر هذا التحقيق.إلى جانب وزارة الزراعة، هناك سبع وزارات مكلفة بالرقابة على سلامة الغذاء. ولتفادي التضارب في الصلاحيات بينها، أُقرّ قانون سلامة الغذاء الذي بموجبه تتشكل "الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء" والتي يقع على عاتقها حسب المادة 29 منه، مراقبة سلامة الغذاء (بما فيها مراقبة استخدام المبيدات الزراعية)، والتنسيق بين الوزارات. عُيّن رئيس الهيئة عام 2018، لكن مجلس إدارتها لم يعيَّن إلى اليوم، كما تقتضي المادة 32 من القانون، ولذلك فإن العمل بهذا القانون ما زال معطلاً بعد مرور سبع سنوات على صدوره.

مَن يعطل استكمال تشكيل الهيئة؟ يرد رئيسها د. إيلي عوض، بأن "هذا الموضوع لم يكن أولويةً عند الحكومات المتعاقبة منذ 2018، والوزارات المعنيّة بسلامة الغذاء تعدّ تشكيل الهيئة حداً من صلاحياتها". ويوضح أنه لم يباشر العمل لأن الحكومة لم تستكمل تعيين مجلس إدارة الهيئة، وتالياً "يد واحدة لا تصفق"، ويختم: "أصبحنا في وضع يحتّم دق ناقوس الخطر".

*أُنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من "شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard