للحرب أثرها على الأرض كما على الإنسان، تعطش وتجفّ وتمرض وتموت، وتنازع للبقاء حين تتحول إلى ساحة للمعارك.
وفي ريف إدلب الشرقي، شمال غرب سوريا، تقبع آلاف الأمتار المربعة من أجود الأراضي الزراعية تحت خطر تلف التربة وتعرضها للتملح، نتيجة توقف محطة تكرير مياه الصرف الصحي التي كانت قبل 11 عاماً مسؤولةً عن ريّ تلك الأراضي بالمياه العذبة.
وخلال سنوات الحرب، كان قدر محطة بلدة طعّوم، وهي واحدة من أصل خمس عشرة محطة تكرير موزعةً في المحافظات السورية، أن تقع في مرمى النيران ضمن خطوط الاشتباك العسكري بين مقاتلي المعارضة وقوات النظام السوري، وتعرضت للقصف الجوي والمدفعي مرات عدة، ما أدى إلى تلف جميع معداتها ومعمل التنقية والفلاتر ومحركات الضخ.
في ريف إدلب الشرقي تقبع آلاف الأمتار المربعة من أجود الأراضي الزراعية تحت خطر تلف التربة وتعرضها للتملح.
نتيجةً لذلك، لجأ المزارعون إلى حلول ليست أقل خطراً من توقف المحطة، فمنهم من حفر آباراً للمياه الجوفية ما أدى إلى انتشار الآبار العشوائية وتهديد المستقبل المائي للمنطقة، ومنهم من عكف على زراعة المواسم البعلية والاكتفاء بموسم واحد بدلاً من اثنين أو ثلاثة، وجزء صغير يروي محاصيله من خطوط الصرف الصحي، الأمر الذي ينعكس سلباً على صحة الناس في عموم المنطقة، وهم من يستهلكون منتجات هذه الأراضي.
مراحل عدة لتنقية المياه
التقى رصيف22، بالمهندس قاسم الحسن، الذي كان قد أشرف في وقت سابق على عمل المحطة، وفي حديثه قال إن المحطة تعمل منذ العام 2004، بقدرة تصل إلى 4،000 متر مكعب في اليوم الواحد، ويمر عملها عبر مراحل عدة. "في المرحلة الأولى تُجمّع المياه العادمة بالقرب من المحطة مما يسمح للزيوت والشحوم والمواد المماثلة بأن تطفو فوق السطح كونها أقل كثافةً، بينما تترسب في القاع النفايات الصلبة والأتربة وما يماثلها، وتنتهي المرحلة عبر تمرير المياه من واحة التجميع في اتجاه المحطة عبر بوابات من القضبان المعدنية بقياسات مختلفة للحد من وصول الأجسام الصلبة إلى المحطة".
وفي المرحلة الثانية، "تدخل المياه العادمة بعد تنقيتها من الأجسام البالغ حجمها أكثر من 2،8 ميليمتر إلى معمل الطرد المركزي الذي يستبعد الأجسام الغريبة والجزيئات الميكروية، كلاً حسب كثافتها عبر فتحات مخصصة، وتعامل المياه العذبة في هذه المرحلة كما بقية النفايات في وحدة الطرد المركزي وتخرج من الوحدة عبر فتحات مخصصة، وتجري هذه العملية بشكل علمي استناداً إلى أوزان الذرات وكثافاتها".
أما المرحلة الثالثة، "فتبدأ عند دخول المياه إلى غرف المبادلات الحرارية فتطهَّر من البكتيريات الضارة والجراثيم، وتضاف إليها محاليل كيميائية، وبذلك تتحول المياه الملوثة إلى مياه عذبة قابلة للاستخدام البيئي وليس البشري. في الختام، تُجمّع في خزانات أرضية لكل منها مضخة مسؤولة عن مغادرة المياه بعد عملية التكرير من المحطة إلى الحقول الزراعية والبساتين".
جانب من الممرات المرفقة بمحطة التحلية وجميعها مدمرة - خاص رصيف22
يشير الحسن إلى أن "إعادة تأهيل المحطة غير ممكنة في الوقت الحالي، لكونها تحتاج إلى كافة المعدات والماكينات وإعادة ترميم البنية التحتية للسد الاصطناعي والمبنى الرئيسي، ومن المتوقع أن تبلغ كلفة تأهيلها من جديد أكثر من 20 مليون دولار، كما أنها تفتقر إلى خطوط الكهرباء ومحطة تحويل خاصة، بالإضافة إلى صعوبة استيراد المعدات الرئيسية".
المزارع هو الخاسر الأكبر
عندما استُحدثت منشآت تحلية المياه أو تكرير المياه العادمة، استخدمت معايير عدة، أهمها الموقع الجغرافي الذي يغذي الأراضي الخصبة والصالحة للزراعة بمساحة مئة في المئة، والأراضي القابلة لتعدد المواسم الزراعية في العام الواحد، وأُخذت هذه المعايير في عين الاعتبار لدعم المزارعين وقطاع الإنتاج الزراعي.
إعادة تأهيل المحطة غير ممكنة في الوقت الحالي، لكونها تحتاج إلى كافة المعدات والماكينات وإعادة ترميم البنية التحتية للسد الاصطناعي والمبنى الرئيسي، ومن المتوقع أن تبلغ كلفة تأهيلها من جديد أكثر من 20 مليون دولار
أبو محمد، وهو عضو الجمعية الفلاحية في بلدة طعوم، يروي لرصيف22، أهمية المحطة وعملها منذ التشغيل الأول وحتى التوقف، ويتذكر جيداً عندما بدأ تنفيذ المشروع وتوجيه مسار الصرف الصحي من بلدات الفوعة وتفتناز وطعوم إلى سد تجميعي اصطناعي مجاور للمحطة.
ويضيف أبو محمد: "بدأت المحطة عملها بتغذية الأراضي الزراعية المجاورة، وخلال الأعوام الخمسة الأولى توسعت لتشمل مساحات واسعةً من الأراضي المروية بشكل كامل أو جزئي، وخلال تلك السنوات تغيّر توجه المزارعين من المحاصيل البعلية كالقمح والشعير والكمون وحبة البركة، إلى المحاصيل ذات الموسم القصير كالخضروات على أنواعها والبقوليات، ودخلت إلى المنطقة محاصيل جديدة كالفستق السوداني والذرة، وبعض المشاريع الزراعية التي اهتم بها الفلاحون واستعانوا بالمختصين الزراعيين، فأصبحت تنتج ثلاثة مواسم في العام الواحد".
ويكمل المزارع حديثه عن توقف المحطة: "في العام 2012، أصبحت المحطة في منتصف المسافة التي تفصل مقاتلي المعارضة عن المواقع التي تتمركز فيها قوات النظام السوري، وفي كل مواجهة عسكرية وقعت في المنطقة كانت المحطة هدفاً أساسياً لطائرات النظام ومدفعيته مما أدى إلى تدمير كامل معداتها، إلى أن سيطرت الفصائل على كامل المنطقة عام 2018، وعاد كثير من المزارعين إلى أراضيهم التي كانت بحاجة إلى استصلاح استمر لعام كامل".
مجرى صرف صحي يمر عبر الأراضي الزراعية - خاص رصيف22
لكن ذلك اقترن بعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل بناء المحطة، فلم يعد بمقدور المزارعين سوى زراعة المواسم البعلية التي تعتمد على مياه الأمطار كالقمح والشعير والعدس، والمشكلة أن تكرار زراعة هذه المواسم يعرّض الأرض لنقص الخصوبة وبالنتيجة انحسار الإنتاج عاماً بعد عام، في حين أنّ بعض المزارعين ممن يملكون السيولة المادية عملوا على حفر آبار جوفية خاصة بأراضيهم مما رفع من كلفة الإنتاج، والبعض ممن تمر بأرضه خطوط الصرف الصحي الملوث استخدم مياهها في ري مواسمه.
مخاطر صحية وبيئية
يمثّل توقف المحطة عن العمل مخاطر عديدةً تلحق بالمنطقة، إذ تحولت بعد التوقف إلى مجمع سطحي من مياه الصرف الصحي الملوثة، مما أدى إلى انتشار آفات وحشرات تضر بالمواسم الزراعية في المنطقة، والخطر الأكبر يمكن في تسرب المياه الملوثة إلى الأراضي الزراعية المحيطة أو في تعمّد بعض المزارعين الاستفادة من المياه الملوثة في ري محاصيلهم.
المهندس الزراعي أحمد الإبراهيم، تحدث إلى رصيف22، عن مخاطر الري بمياه الصرف الصحي، وهي تنقسم إلى قسمين، الأول يتعلق بالتربة والثاني بالنبات ويتعداه إلى الإنسان.
تحولت المحطة بعد التوقف إلى مجمع سطحي من مياه الصرف الصحي الملوثة.
يقول الإبراهيم: "الأراضي المروية بمياه الصرف الصحي تعطي لعام أو عامين إنتاجيةً عاليةً، كون مياه الصرف غنيةً بالآزوت، لكن على المدى المتوسط أو البعيد، أي خلال عقد من الزمن، سترفع المياه من نسبة الأملاح في التربة مما يؤدي إلى حالة مرضية تسمى تملح التربة وتكون التربة حينها غير قابلة للزراعة، ومحاولة استصلاحها تكون باهظة التكلفة للغاية، مما يجبر المزارعين على تركها وإهمالها".
وأضاف الإبراهيم: "هناك محاذير صحية من استعمال مياه الصرف الصحي في الري من دون معالجة، فالنتروجين الذائب يتأكسد إلى نترات، ويسبب أمراضاً للإنسان وتختزنه بعض النباتات في أنسجتها بنسبة عالية مثل الجزر والكرنب والفجل والخس والسبانخ والخيار والفاصولياء، مما يفقدها الطعم ويغير لونها ورائحتها، وتنتقل النترات عبر السلاسل الغذائية إلى الإنسان فتسبب فقر الدم عند الأطفال وسرطان البلعوم والمثانة عند الكبار، أما العناصر الثقيلة مثل النيكل والكوبالت والزئبق والرصاص والكادميوم، فلها تأثير صحي سلبي على المخ والأعصاب والكلى واللثة والأسنان، وتسبب أمراض الدم والقلب والأورام".
بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى البكتيريا الضارة التي توجد في هذه التربة بنسب عالية، وهي المصدر الأساسي للأمراض المعوية، بالإضافة إلى بويضات الطفيليات المسببة لكثير من الأمراض، مثل الإسكارس والديدان الكبدية. "الري بمياه الصرف الصحي من أكثر الممارسات الضارة في أغلب مناطق الدول النامية، والخضروات هي السلعة الرئيسية المنتجة بمياه الصرف الصحي"، يختم.
صورة جوية للمحطة -المصدر خرائط غوغل
محطات بديلة
خلال العاميين الماضيين أنشأت مجموعة من منظمات المجتمع المدني في شمال غرب سوريا، محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي في إدلب، إحداها تقع بالقرب من بلدة رام حمدان إلى الشمال الشرقي من مركز المحافظة، وأخرى في قرية كفر يحمول، وثالثة في بلدة باتبو، وهناك رابعة غرب إدلب المدينة قيد الإنشاء.
وبحسب المهندس عامر بركلي، مدير برنامج المياه والإصحاح والبنى التحتية في وحدة تنسيق الدعم المسؤولة عن تشغيل المحطات، فإن رام حمدان هي محطة معالجة لا مركزية الهدف منها معالجة مياه الصرف الصحي القادمة من البلدة بشكل صالح للري، ويبلغ التدفق اليومي الوارد إليها قرابة 750 متراً مكعباً.
لجأ المزارعون إلى حلول ليست أقل خطراً من توقف المحطة، فمنهم من حفر آباراً للمياه الجوفية ما أدى إلى انتشار الآبار العشوائية، ومنهم من عكف على زراعة المواسم البعلية والاكتفاء بموسم واحد بدلاً من اثنين أو ثلاثة، وجزء صغير يروي محاصيله من خطوط الصرف الصحي
وأضاف في حديثه إلى رصيف22، أن ما يميزها عدم حاجتها إلى الطاقة الكهربائية إذ تعمل على الطاقة البديلة، لذلك فإن تكلفتها التشغيلية شبه معدومة، وذلك بأقسامها الثلاثة، الأول حيث تدخل المياه، والثاني وهو قسم المعالجة اللا هوائية، وأخيراًً قسم الترسيب عن طريق طبقات من الحصى.
وتكفي هذه المحطات فقط حاجة الأراضي المجاورة إليها، في حين أنشأت منظمات أخرى مشاريع لمعالجة المياه في المخيمات بشكل أولي، تهدف إلى تخفيض نسبة التلوث في المياه قبل تصريفها إلى شبكات الصرف الصحي، ما يساهم في التحفيف من الضغط على هذه الشبكات.
أراضٍ زراعية في إدلب مصابة بتملّح التربة - خاص رصيف22
وتشتهر محافظة إدلب بالزراعة التي كانت تُعدّ مصدر الدخل الأساسي لأكثر من 70 في المئة من سكانها قبل الحرب، حتى أنها تُسمّى "إدلب الخضراء"، ولكن اليوم تراجعت هذه النسبة إلى نحو 10% فقط، نتيجة تأثر هذا القطاع كغيره من القطاعات الاقتصادية بالحرب وما خلفته وراءها من دمار في البنى التحتية والمقومات اللازمة للزراعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 19 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت