يمتلك الستيني عبدالعزيز الشرعبي مخبزاً في أحد الأحياء السكنية شرق العاصمة اليمنية صنعاء، ويعمل فيه هو وأبناؤه، ومن خلاله يوفر لقمة العيش له ولأسرته المكونة من اثني عشر فرداً. وهو يعاني منذ سنوات من تراجع في الدخل، وارتفاع في أسعار المواد الغذائية، ناهيك بانعدام توافر المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها.
ومنذ أكثر من خمس سنوات وهو يستخدم مادة الحطب بديلاً من الديزل في صنع الخبز، فـ"دبة" الديزل سعة 20 ليتراً، كان يشتريها قبل اندلاع الحرب، بنحو أربعة دولارات (2500 ريال)، واليوم بات سعرها (إن توفرت) نحو أربعة عشر دولاراً، فيما تباع في السوق السوداء بعشرين ألف ريال، أي ما يعادل 35 دولاراً.
"مخبزي يعمل بالحطب"
يقول عبد العزيز لرصيف22: "كنت أستخدم ثمانين ليتراً من الديزل في اليوم الواحد، وكان سعرها لا يتجاوز عشرة آلاف ريال، لكن الآن، قد يصل سعر الديزل إلى نحو أربعين ألف ريال (70 دولاراً)، وهو غير متوفر".
ويضيف: "حولتُ المخبز للعمل بالحطب، وكنت أشتري حمولة سيارة مكشوفة من الحطب بثلاثين ألف ريال، قبل أربعة أعوام (50 دولاراً)، أما الآن فيصل سعرها إلى نحو 200 ألف ريال، ويتفاوت السعر حسب حجم الحمولة".
يعمل في المخبز خمسة أشخاص مقابل مرتبات لا تقل عن خمسين ألف ريال، ويحتاج عبد العزيز الى خمسمائة ألف ريال شهرياً لتسديد بدل إيجار المخبز ومرتبات العمال.
سوق نقم المركزي في العاصمة اليمنية صنعاء
لا يستطيع عبد العزيز تغطية نفقات المخبز، وشراء الدقيق، بسبب ارتفاع أسعار الدقيق والحطب، وتراجع الإقبال على شراء الخبز بسبب اتساع رقعة الفقر.يقارن عبد العزيز بين السنوات التي مضت وما يعيشه في الوقت الراهن، قائلاً: "قبل ثلاث سنوات، كانت أسعار الحطب ملائمة نسبياً، وكنت أوفر مصروفات الأسرة وأغطي نفقات المخبز، لكن الآن هناك ركود في عملية البيع، ناهيك بارتفاع أسعار الدقيق ثلاثة أضعاف".
وينتج المخبز بشكل يومي نوعين من الخبز، ويطلق عليهما محلياً: (الكدم، والروتي).
وينام عبد العزيز، الذي ينحدر من مديرية شرعب السلام بمحافظة تعز جنوب غربي اليمن، داخل المخبز، لكن الدخان الناجم عن الحطب، تسبب له ولعماله الكثير من الأمراض.
كيس من الأدوية المختلفة، يحتفظ به عبد العزيز في درج المخبز، معظمها خاصة بالالتهابات الصدرية، والسكر، والعديد من الأمراض الأخرى.
"لم أرتح يوماً، مع الدخان والضغوط وتعب العمل، أذهب إلى الطبيب بشكلٍ أسبوعي، لكني متمسك بالمخبز لأنه مصدر رزقي، ولأنني متفائل بأن هذه الحرب ستنتهي وستعود الحياة إلى طبيعتها كما كانت"، يختتم عبد العزيز الشرعبي حديثه.
ومع تتابع الأزمات النفطية خلال السنوات الأخيرة، لقيَ الحطب رواجاً غير مسبوق في المدن اليمنية، ومنها العاصمة صنعاء، التي باتت مقصداً لبائعي الحطب.
وخلال الفترة الأخيرة، ارتفعت أسعار الحطب، فحمولة المركبة التي كانت تباع بـ 300 دولار تباع الآن بنحو 600 دولار.
سعر الحطب والخبز
"سواءٌ اشتريت الحطب بسعر رخيص أم بسعر مرتفع، فأنت سوف تبيع الخبز بالسعر الرسمي، وهو 15 ريالاً للقرص الواحد، إن جرى توزيعه للمحال التجارية، وبعشرين ريالاً إن تم بيعه في المخبز للمواطنين"، يقول مختار عبد الله، وهو صاحب مخبز في العاصمة صنعاء، وأب لثلاثة أطفال.
مخبز في العاصمة اليمنية صنعاء
بسبب الدخان وحرارة المخبز أصيب مختار بالتهابات في الصدر، ويحاول جاهداً أن يتجنب البقاء في المخبز أثناء اشتعال الحطب، لكنه مجبر على العمل في ظل الحرارة والدخان حتى يكسب لقمة عيشه."تعالجتُ عدة مرات لالتهاب الرئة، ونصحني الأطباء بعدم الاقتراب من المخبز، حتى لا يؤثر الدخان على الرئتين، لكنني مضطر للعمل"، يضيف مختار، الذي يسكن شقة بالإيجار مع أسرته في صنعاء. ثم يطلق تنهيدة يكسوها الألم والحزن، ويتابع حديثه لرصيف22: "لو فكرتُ أن أستبدل الحطب بمادة الديزل، فلن أستطيع أن أجمع ثمن 40 ليتراً من الديزل في اليوم الواحد".
التحول إلى "التحطيب"
يرى مختار أن العمل في المخابز مربح، لكن في ظل الظروف الراهنة التي تعيشها البلاد، تراجعت نسبة الدخل بسبب انعدام المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها.
أما جلب الحطب إلى السوق المركزية بمنطقة نقم في العاصمة صنعاء، فحكاية أخرى لا تخلو من المشقة والمعاناة.
يحكي رياض علي (39 عاماً) لرصيف22، وهو يعمل في جلب الحطب من محافظة عمران (50 كيلومتراً، شمال صنعاء) على متن ناقلة كبيرة ويبيعه في صنعاء، جانباً من المعاناة التي يختبرها الحطابون.
كيس من الأدوية المختلفة، يحتفظ به عبد العزيز في درج المخبز، معظمها خاصة بالالتهابات الصدرية، والسكر، والعديد من الأمراض الأخرى، يقول: "لم أرتح يوماً"
"تبدأ عملية التحطيب بقطع المزارعين للأشجار في الجبال المرتفعة، وجمع الحطب في مكان معيّن حتى تجف، ثم حمله لعدة كيلومترات على ظهورهم أو على الحمير، ويقطع المزارعون مشياً على الأقدام طرقاً جبلية وعرة حتى يصلوا إلى أقرب طريق فرعي (ترابي) للسيارات"، يقول رياض.
ويُنقل الحطب على متن سيارات من نوع لاند كروزر قديمة إلى مراكز المديريات في محافظة عمران، ثم يشتري رياض من المزارعين الحطب، وينقله إلى العاصمة صنعاء.
ويضيف رياض: "اتجه الكثير من السكان وخاصة في القرى الريفية إلى العمل في التحطيب رغم مشقته، حتى يوفروا مصروفاتهم".
الحطب بات مصدر رزق للمئات من الأسر الريفية في اليمن.
ويلفت إلى أن الحطب بات مصدر رزق للمئات من الأسر الريفية في اليمن.
وتتلخص مشقة العمل في بيع الحطب في قطع المسافات الطويلة لنقله، عدا وعورة الطرق الجبلية التي تقطعها السيارات، وانعدام المشتقات النفطية اللازمة لتشغيل السيارة وارتفاع أسعارها.
يقول رياض: "على الرغم من أن الحطب جاء بديلاً من المشتقات النفطية، لكن نحتاج إلى النفط لنقله من الريف الى الأسواق".
ولا يقتصر استخدام الحطب على المخابز بل خلال السنوات الاخيرة اتجهت الكثير من الأسر إلى استغلاله في طهو الطعام بدلاً من مادة الغاز.
مخبز في العاصمة اليمنية صنعاء
قبل أربع سنوات، عمدت أم هشام، تسكن مدينة إب، إلى بناء موقد في مطبخ منزلها، وفيه تصنع وجبات الطعام، بعد أن كانت قد تجرعت مرارة الجوع لعدة أيام مع أسرتها. تقول: "عندما بدأت أزمة الغاز، جلسنا نصف شهر منتظرين نهايتها، وكنا نشتري كل شيء من السوق، الخبز والأرز والفول المطبوخ، وكنا أحياناً نذهب عند الجيران الذين ما يزال لديهم غاز حتى نطبخ الطعام، وعندما طالت الأزمة، اشتريت صُعْدْ (موقد)، ووضعته في غرفة خارج المنزل، والآن نطبخ فيه".
وأما عن توفير الحطب، فتقول لرصيف22: "نجمع الكراتين ونشتري أحياناً من السوق، كما نملك أراضي في قريتنا بالريف، فنذهب ونجمع الحطب، ونأتي به إلى منزلنا في المدينة".
وتعيش أم هشام مع أسرتها المكونة من ثمانية أفراد، وتعتمد على الحطب في إنتاج وجبات الطعام، وخاصة خلال الأزمات التي تشهدها البلاد.
الفحم بديل آخر
يعد الفحم مقصداً آخر فرضته الحرب على اليمنيين، فبعد أن كان مقصوراً على الاستخدام في الاستراحات والمقاهي، بات اليوم وسيلة لطهو الطعام والتدفئة خلال الشتاء.
كيس الفحم الذي كان يباع بخمسة دولارات (ثلاثة آلاف ريال)، بات اليوم سعره خمسة عشر دولاراً، بحسب بائع الفحم عبد الرحمن الحرازي.
ويشير عبد الرحمن (28 عاماً) في حديثه لرصيف22 إلى أن الإقبال على الفحم خلال السنوات الأخيرة ارتفع، وبكميات كبيرة. يقول: "كنا نبيعه للاستراحات والمقاهي والمواطنين الذين يدخنون الشيشة، وأيضاً المطاعم التي تشوي اللحم بالفحم، لكن الآن يطلبه المواطنون لطبخ الطعام، وأيضاً مع البرد القارس الذي شهدته صنعاء اتجه الكثير من السكان لشراء الفحم للتدفئة".
ومنذ نحو عشرة أشهر تشهد المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحوثيين أزمة نفطية خانقة، ربما هي الأطول في تاريخ البلاد.
"كنا نبيعه للاستراحات والمقاهي والمواطنين الذين يدخنون الشيشة، وأيضاً المطاعم التي تشوي اللحم بالفحم، لكن الآن يطلبه المواطنون لطبخ الطعام"
ويتهم الحوثيون التحالف العربي الذي تقوده الرياض، بالوقوف وراء هذه الازمة، إذ يحتجز التحالف العديد من سفن النفط في البحر الأحمر ويمنع دخولها الى ميناء الحديدة، بحسب الحوثيين.
وبحسب أحمد عبد الله دارس، وزير النفط في حكومة الحوثيين، فإن التحالف يحتجز أكثر من 14 سفينة محملة بالمشتقات النفطية، بعضها محتجزة من عشرة أشهر برغم أنه تم تفتيشها من الأمم المتحدة في جيبوتي.
ويقول دارس في مؤتمر صحافي إن التحالف العربي يحتجز المشتقات النفطية المرتبطة بالقطاع الصحي والخدماتي والنقل وكل وسائل الحياة.
وبسبب ذلك، تشهد محطات الوقود في العاصمة صنعاء طوابير طويلة من المركبات، بغية الحصول على ثلاثين ليتراً من المشتقات النفطية، إذ خصصت وزارة النفط هذه الليترات القليلة لكل مركبة، وتصرف كل خمسة أيام.
أما الغاز المنزلي، فيُصرف عبر عقار الحارات، بشكل أسبوعي في حال توفر في شركة النفط، وبسعر يصل إلى خمسة آلاف ريال (8 دولارات).
وفي الوقت الذي تنعدم المشتقات النفطية في المحطات الرسمية، تتوافر في السوق السوداء بأسعار كبيرة، فعبوة البترول سعة عشرين ليتراً، والمسعرة رسمياً بـ 5900 ريال، يتعدى سعرها في السوق السوداء العشرين ألف ريال (35 دولاراً).
"استخدام الحطب عادة قديمة"
ويرى الدكتور محمد الحرازي، أستاذ علم الاقتصاد بكلية الشرطة، أن استخدام الحطب في اليمن ليس بحدث جديد، فاليمن كان يعتمد عليه بشكل مستمر.
ولفت إلى أن الأزمة النفطية الناجمة عن الحصار والتلاعب في الاستيراد وتوزيع المشتقات النفطية، اضطرت المواطن اليمني إلى أن يبحث عن بديل مناسب، أولاً من خلال السعر، وأيضاً التوفير، وهو الحطب.
ورأى أن الأزمة النفطية "وسَّعت" من إقبال المواطنين على الحطب، ما رفع أسعاره عشرة أضعاف عما كان عليه قبل العام 2015.
انعكاسات اقتصادية إيجابية على بائعي الحطب.
وقال لرصيف22: "هناك انعكاسات اقتصادية إيجابية على بائعي الحطب، الذين يعملون في قطع الأشجار، وبيعه في السوق، لكن المواطن اليمني البسيط هو من يدفع الثمن من دخله، وصحته نتيجة هذه الأزمة".
وأشار إلى أن الكثير من المخابز لم تكن مهيأة للعمل بالحطب، الأمر الذي ترتبت عليه أضرار كثيرة، وأثر ذلك سلباً على جودة الخبز، كما أن الحطب له تأثير سلبي كبير من خلال الأدخنة التي تلوث البيئة، وتؤثر على صحة العاملين في المخبز.
وأكد الحرازي أن الإقبال على الحطب له تأثيرات على التنوع البيئي، لأن قطع الأشجار سيؤدي إلى انقراض البعض منها.
مشيراً إلى أن الكثير من المخابز لم تكن مهيأة للعمل بالحطب، الأمر الذي ترتب عليه أضرارا كثيرة، وأثر سلباً ذلك على جودة الخبز، كما أن الحطب له تأثير سلبي كبير من خلال الأدخنة التي تلوث البيئة، وتؤثر على صحة العاملين في المخبز أيضاً.
وأكد الحرازي أن الإقبال على الحطب له تأثيرات على التنوع البيئي، إذ أن قطع الأشجار سيؤدي إلى قلة الأشجار وانقراض البعض منها، بسبب القطع العشوائي وهو ما سيسبب تأثيرات كبيرة في المستقبل على التنوع البيئي في البلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ ساعتينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 23 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت