حلّت العاصفة الترابية ضيفاً ثقيلاً على العراق خلال الأيام الفائتة، فألقت ذرات التراب ظلالها على مختلف مدن البلاد. وبقدومها تثير قصصاً كثيرةً ومعاناةً لآلاف السكان.
ومن بين هذه القصص، يسرد لواء البيضاني (41 عاماً)، معاناته لرصيف22، ويقول: "اعتكفت في داري مثل بقية الناس هرباً من التراب، ولكن هذا الاعتكاف لم يقِني شر هذا الزائر، إذ داهمتني نوبة سعال مشوبة بنفحات رملية، وقد أفزع هذا السعال عائلتي، وبذلوا محاولات عدة لتهدئتي من دون فائدة".
غاب البيضاني عن الوعي بسبب اختناقه، وعلى الأثر نقلته عائلته إلى طوارئ مستشفى اليرموك في بغداد، وبقي في ردهات استقبالها لأكثر من ثلاث ساعات في انتظار دوره للدخول، بسبب الازدحام الشديد الواصل إلى خارج بوابة المشفى.
سؤدد الدوري (60 عاماً)، ضحية أخرى من ضحايا العاصفة الترابية، شعرت بالاختناق فحملها ابنها مسرعاً بها إلى مستشفى مدينة الطب في بغداد، ولكن ازدحام الشوارع في هذا الجو وانعدام الرؤية، حوّل مسارها إلى أقرب صيدلية لشراء بخاخات الربو، آملةً بأن تجدي نفعها بإسعافها.
تشير بعض البيانات إلى تصاعد حدة العواصف الترابية في العراق خلال العقدين الماضيين.
ولكن قصتها لم تنتهِ عند هذا الحد، فمعظم الصيدليات كانت مغلقةً في منطقتها، ومن غير الممكن رؤية معالم الأماكن إلا بعد الاقتراب منها. وتقول بحسرة لرصيف22: "ماذا ستخسر الدولة إذا وفّرت سيارات الإسعاف للمواطنين في مثل هذه الظروف؟".
ملف منسي
العاصفة الحالية هي ثالث عاصفة غبارية تضرب العراق خلال أسبوعين، وقد أدت، إلى جانب إصابة العشرات بمشكلات تنفسية واضطرارهم إلى الدخول إلى المشافي، إلى إغلاق مؤقت لمطاري بغداد والنجف الدوليين. وسُجل خلال العاصفة الحالية أكثر من 500 حالة اختناق في عموم البلاد، كما تم توثيق اختناق 1،500 مواطن في بغداد فقط خلال الشهر الماضي.
وتشير بعض البيانات إلى تصاعد حدة العواصف الترابية في العراق خلال العقدين الماضيين، إذ ارتفعت من 243 يوماً خلال العقد المنصرم إلى 272 يوماً في الوقت الحالي، ويتوقع المختصون وصولها إلى 300 يوم في عام 2050.
وفي هذا السياق، يبيّن الباحث في وزارة البيئة مهيمن صبار، لرصيف22، أن أسباب هذه الزيادة مرتبطة ببعضها، فتبدأ من التغيير المناخي وتراجع الإيرادات المائية والأمطار، والتي ساهمت بدورها في انسحاب رقعة المساحات الخضراء وانتشار التصحر الذي يُعدّ من أبرز مثيرات العواصف الترابية.
العواصف الغبارية في بغداد - خاص رصيف22
وعلى مدى السنوات الماضية، تصاعدت دعوات المختصين إلى ضرورة إيجاد الحلول الناجعة ووضع إستراتيجيات فاعلة في السيطرة على موجات الغبار الزاحفة نحو المدن.
لكن لم تلقَ هذه الدعوات آذاناً صاغيةً على المستوى الحكومي، حتى وصل الحال إلى ما هو عليه اليوم، وأفاد مصدر في وزارة البيئة لرصيف22، بصحة هذا القول، إذ يرى أن الوزارة أهملت مقترحات سابقةً فيها إصرار على الإسراع في إحياء مشروع الحزام الأخضر، ويبرر المسؤولون الحكوميون هذا الإهمال بعدم وجود مخصصات مالية للمشروع.
والحزام الأخضر هو مقترح مشروع زراعي، يهدف إلى زراعة ملايين الأشجار القادرة على تحمل الجفاف والملوحة والظروف البيئية، مثل الكاليبتوس والصفصاف والأثل، والتي تُزرع حول المدن وفق مخطط هندسي يشكل عامل صدّ أمام زحف الكثبان الرملية إليها.
وتداولت الأوساط العلمية المختصة وبعض السياسيين هذا المشروع منذ عام 2012، ويُعدّ رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، آخر من تداوله سياسياً، من خلال توجهه نحو دراسة مقررات المشروع تحت مسمى "الورقة الخضراء"، ولكن يرى كثيرون أن هذا التوجه بمثابة تهدئة للمجتمع أكثر من كونه توجهاً فعلياً، خاصةً مع قرب نهاية ولاية الكاظمي الوزارية.
غاب البيضاني عن الوعي بسبب اختناقه، وعلى الأثر نقلته عائلته إلى طوارئ مستشفى اليرموك في بغداد، وبقي في ردهات استقبالها لأكثر من ثلاث ساعات في انتظار دوره للدخول، بسبب الازدحام الشديد الواصل إلى خارج بوابة المشفى
ويعرب مصدر في وزارة الزراعة عن قدرة الوزارة على إنجاز المشروع، إذا ما خصصت الموارد المالية اللازمة له، ويوضح لرصيف22، عن إمكانية استغلال مياه الآبار بدلاً من الري النهري والمطري لإنجاحه، ولكن عدم وجود الأذن الصاغية، حسب تعبيره، يحول دون تنفيذه.
ضعف الدراسات البيئية المختصة بظاهرة العواصف الترابية يرافقها ابتعاد الحكومة عن أي تحرك جاد من شأنه إنهاء الأزمة، ويوحي هذا الابتعاد الحكومي بأن الأزمة تتجه إلى التفاقم وإخفاء الحلول، لتضاف إلى بقية الملفات المتراكمة في البلاد.
ويطرح البعض حلولاً أخرى كبديل عن الحزام الأخضر أو مرافق له، ومنها تثبيت التربة بمادة الجير أو الإسمنت، لمنع تطاير الغبار في أثناء العواصف، لكن الباحث الزراعي في وزارة الزراعة صباح السعدون، ينفي جدوى هذه الآلية.
وصرح السعدون لرصيف22، باستحالة تطبيق هذا الأمر في العراق بسبب مساحته الصحراوية الشاسعة، كما أن تطبيقه سيمنع الكثير من الإيجابيات التي يحملها الغبار للمزارع والأرياف، ومنها مساهمته في تلقيح الأشجار والقضاء على بعض الآفات والحشرات الزراعية، كما سيُلحق الضرر الكبير بالحياة النهرية والأحواض السمكية لما في الغبار من معادن تغذي هذه الكائنات.
يلوم كثيرون من المواطنين المؤسسة الصحية في إهمالها حياة العراقيين.
كما يطرح البعض إنشاء بحيرات صناعية في مناطق معيّنة، مما قد يقلل من ظاهرة العواصف الترابية، ولكن خبراء يشيرون إلى أن مثل هذه الحلول غير منطقية في العراق، لا سيما وأنه يعاني من أزمة مائية، بعد أن قطعت إيران إمدادات الكثير من الفروع النهرية عن العراق، وقللت تركيا حجم الإمدادات السنوية، كما أن مياه الآبار غير كافية لتكوين مستنقعات مائية.
الصحة في مواجهة الغبار
إن كثافة ذرات الغبار وتلوثها بالأجسام الفيروسية، هي السبب الرئيسي في زيادة حالات الاختناق، ويشير الطبيب المختص بأمراض الرئة والتنفس زيد العلي، إلى أن المعامل المختبرية كشفت عن امتلاء العواصف الترابية في العراق بكميات كبيرة من البكتيريا والفطريات، وجراثيم أخرى تسبب حساسية الجهاز التنفسي والتهاب القصبات الهوائية.
وبيّن لرصيف22، أن هذه الخطورة لا تقتصر على استنشاق هذه الذرات، بل إن دخول الأتربة إلى المنازل والأسواق، وهبوط الجراثيم المحملة داخلها على قطع الأثاث المنزلي والأطعمة، يزيد من فرص الإصابة بأمراض الرئة، ويرتفع عامل الخطورة بين المصابين بأمراض الربو واضطرابات التنفس والقلب، بالإضافة إلى الرُضَّع وكبار السن، حسب الطبيب المختص.
وعن سبل الوقاية ينصح العلي بتجنب الخروج من المنازل في أثناء العواصف، وارتداء الكمامات الواقية، وضرورة الإكثار من شرب السوائل العشبية الحارة وأجهزة التبخير المنزلي، وتغطية الفم والأنف بالمناديل الرطبة.
العواصف الغبارية في تكريت - خاص رصيف22
وزارة الصحة في مرمى الانتقاد
يلوم كثيرون من المواطنين المؤسسة الصحية في إهمالها حياة العراقيين، كما تطال وزارة الصحة اتهامات مشابهة بالتقصير في أداء واجباتها.
يعترف مصدر في الوزارة في حديثه إلى رصيف22، بصحة هذه الاتهامات، ويؤكد وجود نقص كبير في الأجهزة والمستلزمات الطبية الضرورية لإنعاش حالات الاختناق ومعالجتها داخل المستشفيات والمراكز الصحية، ويعزو المصدر الذي فضل عدم الكشف عن اسمه بسبب حساسية الوضع الأمني، هذا النقص إلى الفساد المستشري داخل الهيكل الإداري في المستشفيات، وتالياً تراجع الخدمات التي يقدّمها الأطباء والممرضون.
ويتفق مع هذا الرأي الطبيب المقيم في بغداد صالح الهنداوي (41 عاماً)، ولكنه يرى أن هناك تلكؤاً في أداء بعض الكوادر الطبية وعدم استجابتها السريعة للحالات المرضية الواردة إلى المستشفيات، واستفحال الرشاوى بين بعض هذه الكوادر، وهو ما زاد وتيرة الانتقادات الموجهة إليها.
الخطورة لا تقتصر على استنشاق ذرات الغبار، بل إن دخول الأتربة إلى المنازل والأسواق، وهبوط الجراثيم المحملة داخلها على قطع الأثاث المنزلي والأطعمة، يزيد من فرص الإصابة بأمراض الرئة، ويرتفع عامل الخطورة بين المصابين بأمراض الربو واضطرابات التنفس والقلب
وإدراكاً لهذه الانتقادات، يلفت الهنداوي، في حديثه إلى رصيف22، إلى أن من واجب هذا النقد أن يوجه الأنظار نحو حل أزمات الواقع الصحي في العراق، والتي تبدأ وفقاً له من فرض الرقابة على الكادرَين الطبي والإداري في المستشفيات، وتطوير هذه الكوادر عبر استحداث دورات منتظمة لتعريف العاملين بالأساليب العلمية الحديثة في معالجة المرضى والتعامل معهم، بالإضافة إلى استبدال المعدات والأجهزة الصحية في المستشفيات، وخاصةً مستلزمات ردهات الطوارئ.
وفي سياق متصل فإن قِدَم بنية الدوائر الصحية التحتية، وعدم الشروع في توسعتها، يفاقمان من معاناة قطاع الصحة في العراق، خاصةً وأن معظم مستشفيات البلاد يرجع تأسيسها إلى ستينيات القرم الماضي وسبعينياته، كما أن هناك ضرورةً ملحةً لتفعيل دور الفرق الطبية الجوالة للحصول على استجابة سريعة للحالات الصحية الطارئة ومنها الاختناقات التي حدثت مؤخراً.
قصص كثيرة تتناول ما سببته العواصف الترابية في البلاد، وما أصبح عليه الواقع الصحي اليوم، في ملف شائك يواجه مخاطره العراقيون كل يوم، بعيداً عن أنظار الدولة أو تحت أنظارها، ولكن الأخيرة فضّلت نسيان حل هذه الأزمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع