ثمة تناقضات عجيبة في محافظة المنيا المصرية، التي لا تأتي سيرتها في وسائل الإعلام إلا مقترنةً بأحداث عنف طائفية بسبب الهوية الدينية، بين مسلمين ومسيحيين. بالرغم من ذلك تجدها أكثر تسامحاً، أو هكذا تبدو شوارعها في نهار رمضان، وتختلف تماماً عن شوارع العاصمة القاهرة مثلاً، على حد وصف بيتر جورجي، وهو فنان تشكيلي من مواليد المنيا، ويعيش ويعمل في القاهرة منذ ربع قرن.
يقول الرجل ذو الاثنتين والأربعين عاماً، لرصيف22، وهو يزور مدينته مؤخراً: "كنت قد نسيت شكل شوارع المنيا خلال نهار شهر رمضان، وتوقعت أنها ستكون مثل القاهرة، حيث الإغلاق التام لكل المطاعم ومحالّ الأكل والمقاهي، وكأن البلد لا يوجد فيه مسيحيون أو من لا يصومون، على عكس مدينة المنيا التي وجدت فيها المقاهي تعمل، والمطاعم مفتوحةً وتضع الشوّايات وقوائم الطعام أمام محالها بطريقة طبيعية، وليس في السر كما يحدث في القاهرة إذا غامر أحدهم وفتح مطعمه أو مقهاه، حيث الحملات الأمنية العبثية والقبض على المفطرين في السنوات الماضية". وجدير بالذكر أن حوادث سجلت في رمضان الحالي، ونُشر عنها على مواقع التواصل الاجتماعي، لمنع أشخاص من تناول الطعام في مطاعم القاهرة أثناء النهار.
من العادي أن تجد مدخنين في الشوارع من دون أن يلتفت إليهم أحد، أو يتعرضوا للزجر بسبب جهرهم بالإفطار.
يعيد جورجي السبب في هذه الصورة، إلى عدد المسيحيين في المنيا، مقارنةً ببقية محافظات مصر، إذ يُقدَّر مسيحيو المنيا بقرابة 30% من عدد سكان المحافظة البالغ ستة ملايين نسمة، حسب إحصائيات رسمية، وتُعدّ أكبر تجمع مسيحي في مصر.
يضيف: "هذا ما يجعل المنيا تبدو مثل حي شبرا في القاهرة، ذي الأغلبية المسيحية أيضاً، ولكن مساحة المنيا الشاسعة وعدد سكانها الكبير يجعلانها تختلف كثيراً عن شبرا، لا سيما مع اختلاف العادات والتقاليد بين المدينة والصعيد، فهي ليست مجرد حي في وسط مدينة، لذلك من العادي أن تجد مدخنين هنا في الشوارع من دون أن يلتفت إليهم أحد، أو يتعرضوا للزجر بسبب جهرهم بالإفطار في الشهر الكريم، كما يحدث في القاهرة مع فئة المدخنين، الذين يدخنون في السر طوال نهار شهر رمضان، سواء في أماكن عملهم أو في الأماكن العامة".
مفطرون علناً
من هذه النقطة انطلق مينا موريس (27 عاماً)، وهو يعمل في مصنع للملابس في محافظة القليوبية (إحدى محافظات القاهرة الكبرى)، في حديثه إلى رصيف22: "قبل سبع سنوات، وفي أثناء شهر رمضان، كنت سأتعرض للضرب في المرة الأولى التي دخّنت فيها في أحد شوارع القاهرة. كنت جديداً في العاصمة ولا أعرف ناسها، ففي بلدنا في المنيا ندخّن بحرية في رمضان، ولا يضايق الأمر الصائمين في الشارع، أو السائقين".
ثمة قواعد ومحظورات يجب أن تعرفها إن كنت مفطراً في رمضان، وقررت أن تجوب شوارع القاهرة، أولها ألا تشعل سيجارةً وأنت تسير في الشارع، أو في محطة تنتظر الأوتوبيس، فذلك السلوك يعدّه الصائمون استفزازاً ويجرح مشاعرهم وصيامهم، وقد يعبّر أحدهم عن غضبه بطريقة لن تعجبك.
مدينة ملوي في المنيا خلال رمضان الحالي - تصوير محب سمير
يستطرد مينا: "لاحظت هذه الفروق بالطبع بين المنيا والقاهرة في رمضان، فلا يمكنك أن تقف لتشرب كوب عصير أو زجاجة ماء باردة تطفئ بها ظمأ الصيف. ويجب عليك أن تختبئ وراء شجرة أو خلف كشك سجائر كأنك منبوذ".
أمر آخر لاحظه مينا في القاهرة التي تغلق فيها المطاعم والمقاهي في الشوارع الرئيسية والميادين العامة والمولات، وهناك حملات أمنية تجوب الشوارع وتلقي القبض على المفطرين، ويقول: "في كل الأماكن الشعبية والحواري البسيطة في المنيا، لا بد أن تجد مقهى أو أكثر يتجمع فيه المفطرون من سكان الحي علناً أمام الجميع، ولا يمكن أن يحدث ما يحدث في الأماكن العامة والمولات التجارية".
في المنيا وجدت المقاهي تعمل، والمطاعم مفتوحةً وتضع الشوّايات وقوائم الطعام أمام محالها بطريقة طبيعية، وليس في السر كما يحدث في القاهرة إذا غامر أحدهم وفتح مطعمه أو مقهاه، حيث الحملات الأمنية العبثية والقبض على المفطرين
"في رمضان يصبح اسمي تيريزا"
الصحافية الشابة منى يسري، تتذكر الأيام التي عاشتها في المنيا وتقارن بينها وبين ما تلاقيه في شوارع القاهرة، سواء في رمضان أو في الأيام العادية. تضحك وتقول لرصيف22: "في رمضان يتحول اسمي مباشرةً إلى ‘تيريزا’ لمدة شهر كامل، ومع كل من يسأل عن اسمي لمعرفة هويتي الدينية، سواء لو طلبت طعاماً من أحد المطاعم، أو مع سائق سيارة الأجرة الحشري الذي يسألني مباشرةً: ‘أنتِ مسلمة ولا مسيحية’، بسبب عدم ارتدائي الحجاب. لا أذكر أنني صادفت هذه الأسئلة في المنيا، أو في الأحياء التي يكون المسيحيون فيها أغلبيةً، مثل حي شبرا أو الضاهر في القاهرة التي يتعامل فيها الناس بشكل مختلف مع غير المحجبات أو المفطرين في رمضان، ويعملون حساباً لوجود أقلية مسيحية، حتى لو كانوا يتمنون عدم رؤيتهم من الأساس".
لا تخرج سماح طلعت، خارج نطاق حي شبرا أيضاً طوال شهر رمضان، لكن جذورها من محافظة المنيا، وعاشت فيها سنوات طفولتها وشبابها، قبل أن تتزوج وتنتقل للإقامة في القاهرة، وتقول لرصيف22: "أتذكر المنيا في تسعينيات القرن الماضي. كانت شوارعها مرعبةً للمفطرين أو للمسيحيين بسبب انتشار الجماعات المتطرفة، وكانت المقاهي والمطاعم والسينمات ونوادي الفيديو تغلق طوال الشهر، أو تتعرض للتحطيم، لكن اليوم الوضع اختلف كثيراً، وعندما أزور المنيا في الإجازات في شهر رمضان، لا أجد اختلافاً كبيراً في الشوارع أو في سلوك الناس".
مدينة ملوي في المنيا خلال رمضان الحالي - تصوير محب سمير
المدينة التي لا تنام
أمام محل عصير شهير بجوار محطة القطار في مدينة ملوي، يقف أحمد حجازي وهو طالب جامعي، ويطلب كوب عصير قصب من البائع الذي يقف خلف بوفيه من الرخام. يصبّ له العصير في كوب زجاجي ضخم، وعن ذلك يقول أحمد: "هذا المحل مثلاً صاحبه مسلم، ويعمل في نهار رمضان، ويقف من يرغب في شرب العصير أمام الجميع من دون خوف أو توتر، ولو فكّر كل أصحاب المحال التي تقدّم الطعام والمشروبات في الإغلاق طوال شهر كامل، سيتأثرون بالطبع مادياً، لا سيما في الظروف الاقتصادية السيئة التي يمر بها الجميع".
ملوي هي أشهر مدن محافظة المنيا، وأهمها من حيث التجارة والمساحة وعدد السكان، ويطلقون عليها "مدينة الباشوات"، والمدينة التي لا تنام بسبب حركة التجارة فيها، حسب كلام أحمد ناصر (57 عاماً)، وهو صاحب مطعم في المدينة.
هذا المحل صاحبه مسلم، ويعمل في نهار رمضان، ويقف من يرغب في شرب العصير أمام الجميع من دون خوف أو توتر، ولو فكّر كل أصحاب المحال التي تقدّم الطعام والمشروبات في الإغلاق طوال شهر كامل، سيتأثرون بالطبع مادياً
يقول لرصيف22: "كل شوارع مدينة ملوي فيها أسواق يومياً. أسواق كبرى للحيوانات والطيور والخضروات والملابس والمواد الغذائية وغيرها، ويأتي إلى المدينة أشخاص من كل القرى والمدن في طول المحافظة وعرضها للشراء أو البيع، لذلك ستجد المطاعم والمقاهي تعمل بشكل عادي طوال شهر رمضان، وليس محالّ المسيحيين فحسب، ولكن بعض المسلمين أيضاً يمارسون أعمالهم في المطاعم والمقاهي لخدمة التجار والمواطنين المغتربين للتسوق في المدينة".
لا ينظر العم ناصر إلى الأمر بصورة طائفية، ويرى أن التجارة والحركة هما السبب، ويضيف: "لم نسأل أنفسنا يوماً هل من يشتري منا في رمضان صائم أو مفطر، ولا من المسيحي ومن المسلم؟ وتعودنا على بلدنا كده".
مدينة ملوي في المنيا خلال رمضان الحالي - تصوير محب سمير
على الجانب الآخر، هناك من يرى أنه "لولا عدد المسيحيين الكبير في المنيا ما كان الوضع سيكون بهذه السهولة كما تبيّن الصورة الأولية"، كما يقول المهندس الشاب جرجس برنابا من ملوي، الذي يرى أن المحافظة هي الأكثر طائفيةً على كل المستويات، للسبب ذاته أيضاً، فوجود المسيحيين بكثافة في المنيا ومدنها وقراها، يجعل نسبةً كبيرةً من المطاعم والمحالّ التجارية والمقاهي مملوكةً في الأساس لمسيحيين، لكنها بالطبع تخدم المسلمين المفطرين الذين لا يلاقون المعاملة نفسها في أماكن أخرى.
هذا ما أكد عليه أيضاً حسن، وهو من سكان المنيا المسلمين ولا يصوم رمضان، وجرّب أن يكون مفطراً في القاهرة وفي مدينته ملوي.
يقول لرصيف22، وقد فضّل استخدام اسم مستعار: "هنا في ملوي يعدّني الناس مسيحياً وسط المسيحيين في رمضان، ولا أضطر إلى البحث بالساعات عن مقهى لشرب الشيشة كما يحدث في القاهرة، التي لا يمكن أن تجد فيها مقهى يفتح أبوابه ويستقبل زبائن إلا في السر والأبواب مغلقة، وكأننا في غرزة لتعاطي الممنوعات، لذلك أفضّل قضاء شهر رمضان كل عام في ملوي، وأعود إلى القاهرة بعد العيد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون