شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
على هذه

على هذه "الصخرة" أقام شنودة ساحته الثقافية وسط أكوام قمامة قريته في المنيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأحد 27 مارس 202202:18 م

حتى عمر الحادية والعشرين، لم يكن شنودة قد شاهد عرضاً سينمائياً واحداً، ولم يعرف شكل قاعات عرض الأفلام حتى. قبلها بأعوام قليلة، لم يكن يعرف أن هناك كتباً أخرى غير الكتب الدراسية التي عليه دراستها وحفظها ليحصل على الشهادة الجامعية، فقد قرأ شنودة أول كتاب اختاره هو، بعد أن التحق بكلية الآداب في جامعة المنيا، محافظته الفقيرة والمهملة، مثل بقية محافظات صعيد مصر.

يومها بدأت تتفتح عيناه وعقله على عالم جديد أحبه، عالم الكتب والسينما وقاعات الفنون والموسيقى، ولكن كل ذلك كان بعيداً جداً عن قريته النائية في أعلى الجبل.

حلم شنودة الأكبر كان تحويل "مقلب الزبالة" إلى ساحة للأطفال.

فوق الهضبة الشرقية شرق النيل، في مركز سمالوط في محافظة المنيا، تقع قرية "دير جبل الطير"، إحدى أشهر قرى المحافظة، بسبب ارتباطها باسم دير العذراء مريم الأثري الشهير هناك، ويعيش أهالي القرية، الذين يصل عددهم تقريباً إلى 15 ألف نسمة، في رحاب الدير الأثري، تحيط بهم الصحراء، وأكوام القمامة، في إهمال صارخ لأهمية المكان والقرية الأثرية. ينزل الفلاحون كل يوم إلى أسفل الهضبة قرب النهر لممارسة الزراعة، ويصعدون في المساء.

هذا ما عرفه شنودة عادل، طوال حياته عن قريته. واليوم بات يعرف أن أطفالها محرومون من الكثير، وهو من ذاق الحرمان وهو طفل، فقرر أن يبدأ بالقراءة لهم في غرفة صغيرة في منزله، حيث يلتقي بأطفال الشارع ويحكي لهم قصةً، ويقرأ لهم أخرى من كتاب، ويتحدث معهم ويناقشهم في أحلامهم، حتى لو كان هؤلاء الأطفال يعرفون ألعاب الهاتف ويفضّلونها. وثق شنودة بأن الكتاب والحكايات ستأتي بثمارها في حينه. وأسس مع هذا الجيل حلم "الصخرة"، وكبر الحلم ليتحول إلى مشروع لدمج قضايا البيئة بالفنون والثقافة في قريته، بتحويل المساحات الضخمة من مقالب القمامة إلى ساحات ثقافية وترفيهية للأطفال، وبدأ ينشر الدعوة في قرى أخرى في المحافظة، بعد نجاح تجربته في قريته.

حديقة ثقافية

يقول شنودة عادل، صاحب الثلاثين عاماً، ومؤسس المشروع في حواره مع رصيف22: "كل شيء بدأ صغيراً. كنت أجمع الأطفال لنقرأ ونلعب ونتحدث. وسط الحكي عما يضايقنا في القرية، ذُكرت أكوام القمامة حول المدارس والبيوت، فاقترحت عليهم أن نبدأ بأنفسنا وننظف الغرفة التي نلتقي فيها، ومن الغرفة خرجنا إلى الشارع. وجدت أن الأطفال سعيدون بما نفعل، ويتعلمون بالممارسة أكثر. بعد فترة كبر العدد وشاركتني مجموعة من الشباب في ما أقوم به".

لكن حلم شنودة الأكبر كان تحويل "مقلب الزبالة" إلى ساحة للأطفال. "بدأنا بإطلاق دعوات للأهالي لمساعدتنا في تنظيف مقالب القمامة، وبالجهود الذاتية بدأنا بالفعل عام 2016 في تنظيف أول مساحة في القرية وأكبرها، وتبلغ 650 متراً، كانت بها أطنان من القمامة بجوار منطقة المدارس، ما كان يعرّض الأطفال للمخاطر والأمراض طوال الوقت. كانت تمثل كابوساً للقرية، واليوم هذه المساحة تحولت إلى مساحة ثقافية تخدم القرية كلها".

وأطلق شنودة على هذا المكان الجديد اسم "الحديقة الثقافية"، وفيها مسرح وملعب ونادٍ للسينما، بالإضافة إلى مكتبة ضخمة بدأت مع 50 كتاباً واليوم فيها خمسة آلاف كتاب تخدم أكثر من 1،500 طفل في القرية، غير الشباب والأسر. "بالإضافة إلى ذلك أقمنا معسكرات فنيةً ووزعنا نحو ثلاثة آلاف كتاب مجاناً، ومعرضَين للكتاب، وعرضنا أكثر من مئة فيلم في الشوارع والحديقة، بالإضافة إلى حملات التوعية والندوات المخصصة للأطفال والأسر، وورش الرسم والتلوين".

أميرة عاطف، إحدى المتطوعات في مشروع مكتبة "الصخرة"، استفادت من وجود هذه المساحة، قبل أن تقرر التطوع والمشاركة في العمل مع الأطفال. تقول لرصيف22: "على مستويات عدة، أثرت الصخرة على الأطفال والأهالي، وأثرت فيّ أنا شخصياً، فالقراءة كانت حلماً صعباً على الأطفال والكبار، كذلك الاهتمام بالأطفال في الأساس لم يكن موجوداً. اليوم هناك جيل يكبر على حب القراءة والنظافة والوعي بأهمية الأشجار والحفاظ عليها وأهمية العمل الجماعي".

وتقارن أميرة الحاصلة على دبلوم تجارة، حال القرية قبل مبادرات فريق الصخرة، وبين ما تراه اليوم، وتقول: "يكفي أنه أصبح هناك أمل في التغيير نحو الأفضل بأيدينا من دون الاعتماد على أحد، وثقة الأهالي بالشباب والأطفال بعدما لمسوا ما يفعلونه، وهم الذين كانوا يسخرون منهم في البداية".

التعلّم بالتجربة

يرى شنودة أن القرى في الصعيد مهملة على مستويات عدة، لا سيما الخدمات الثقافية والفنية، فأقرب مكتبة أو قصر ثقافة يبعد عن قريته أكثر من 20 كيلومتراً، في مدينة المنيا، كذلك أغلب القرى بعيدة عن المدن، ولا يعرف الأطفال فيها بعد المدرسة سوى قنوات التلفزيون والشارع.

ويشير إلى أن الأطفال يتعلمون بالتجربة أسرع، ولديهم طاقة لتنفيذ الاقتراحات أسرع من الكبار، ويخلصون للفكرة، ويقول: "بخلاف كم المواهب الضخمة التي تُكتشَف كل يوم، وتنمية هذه المواهب وصقلها والاهتمام بها، اليوم صار الأطفال ينظفون الشوارع طوال الوقت وهم يسيرون فيها، وليس في وقت حملات التنظيف فحسب. لقد زرعت فيهم الفكرة وازداد وعيهم بقيمة السلوك وأهمية الحفاظ على النظافة".

أثرت الصخرة على الأطفال والأهالي، وأثرت فيّ أنا شخصياً، فالقراءة كانت حلماً صعباً على الأطفال والكبار، كذلك الاهتمام بالأطفال في الأساس لم يكن موجوداً. اليوم هناك جيل يكبر على حب القراءة والنظافة والوعي بأهمية الأشجار والحفاظ عليها وأهمية العمل الجماعي

وتعلّق مارتينا سيد، وهي صيدلانية شابة من القرية نفسها، وتقول لرصيف22: "كنت أتمنى في طفولتي أن أجد مثل هذه المساحة لأمارس هواياتي أو حتى لأكتشفها، فمن المؤكد أن ذلك كان سيطور شخصيتي أسرع وأكثر، فقد نشأ جيلنا والأجيال السابقة من دون معرفة هواياته أو الاهتمام بها، أو أن يجد مكاناً يفرغ فيه طاقته ويكتشف نفسه".

وتحسب مارتينا التأثير على الأطفال بالقراءة وتنمية خيالهم بالحكي والرسم والمسرح، على أنه أفضل وسيلة لتعليمهم وتحسين سلوكهم، وهو ما شهدته بنفسها في أطفال العائلة الذين أصبحوا أكثر ثقةً بأنفسهم وأكثر مرحاً ووعياً.

وتضيف: "أيضاً كسرت المبادرة النظرة الرجعية لمشاركة البنات في العمل العام، أو حتى في ورش التمثيل والرسم، فبعدما كان الأهالي يرون ذلك عيباً ولا يجوز، أصبحوا يتركون الحرية لهن ولو قليلاً للمشاركة والتطوع، وهو جانب آخر غير زيادة الوعي بالقضايا المجتمعية والبيئية لدى الأطفال والكبار".

تغيير مُلهم

القرية التجأت إليها العائلة المقدسة في رحلة هروبها من فلسطين إلى مصر، وطبع المسيح كفّه على صخرة عملاقة في جبلها ليحمي أمه العذراء من سقوط الصخرة فوق رأسها، حسب القصة الشعبية المتداولة عن تسمية "جبل الطير" باسم "جبل الكف"، واليوم هذه "الصخرة" هي الحلم الثقافي والفني والبيئي لأطفالها وشبابها. صخرة يبني عليها الجيل الجديد حلمه.

يقول شنودة: "بالهيروغليفية الصخرة أو أرض الجبهة، هي ‘تا دهنت’، وهو اسم القرية القديم، وقد أطلقت على المكتبة اسم الصخرة تيمّناً بهذا الاسم القديم".

ويضيف: "الناس هنا غلابة وفقراء كأغلب أهالي قرى الصعيد، وهم إما يعملون في المحاجر أو هم فلاحون مياومون، وليست لديهم أية وسائل من الرفاهية ولا يحلمون بها، لكنهم يحلمون ببيئة نظيفة وتعليم جيد لأطفالهم".

بخلاف كم المواهب الضخمة التي تُكتشَف كل يوم، وتنمية هذه المواهب وصقلها والاهتمام بها، اليوم صار الأطفال ينظفون الشوارع طوال الوقت وهم يسيرون فيها، وليس في وقت حملات التنظيف فحسب

ولا ينفي الشاب مواجهة بعض المعارضة في البداية بسبب خوف الأهالي دائماً من الأفكار الجديدة، "لكنهم عندما لمسوا التغيير الذي حدث، وبأدوات بسيطة، سعوا إلى أن يحافظوا عليه، ودفعوا بأطفالهم نحو المشاركة في المسرح والغناء وورش الرسم، وحضور ورش الحكي التي غيرت من سلوك الأطفال، وأثرت بالإيجاب على مستواهم الدراسي أيضاً".

هيثم نوار (28 عاماً)، يعمل في مجال المحاسبة، وهو شاب من شباب قرية دير جبل الطير، يرى أن ما فعله شنودة ومجموعة الشباب والأطفال الذين معه أمر ملهم للجميع، وليس سهلاً ما وصلوا إليه، لكنه حصل بعد مجهود ووقت وسنوات.

يقول الشاب لرصيف22: "واجه شباب الصخرة صعوبات في الفترة الأولى، بداية من السخرية مما يفعلونه، ومنع الأهالي أطفالهم من المشاركة، أو حتى صعوبة تأمين كلفة مواد التنظيف والبناء والتشجير. شاهدت أطفالاً يدفعون من مصروفهم لينظفوا الشوارع، مرةً أمام مدرسة، وأخرى أمام الكنيسة، وثالثة في ميدان رئيسي. لقد خلقوا تغييراً ملحوظاً، ما جعل الكبار يخجلون من التقاعس وعدم مشاركة الشباب في مشروعهم. تحوّلت مقالب قمامة إلى مسرح وحديقة: من كان يحلم بذلك؟ كما وجد الأطفال من يعلمهم الرسم والتلوين ويشرح لهم الأفلام ويعرفهم بالسينما والموسيقى. هذا ما يخلق جيلاً واعياً، ومستقراً نفسياً".

عدوى الحلم

من قريته انتقلت العدوى إلى قرى مجاورة، ويقول شنودة في هذا الخصوص: "بدأنا بتنفيذ الفكرة في قرية جبل الطير البحرية، وكذلك قرية بني خالد، ونستهدف أيضاً مقالب القمامة لتنظيفها وتحويلها إلى ساحات ثقافية وفنية، بمساعدة الشباب والأهالي في هذه القرى، ونعمل مع أكثر من 400 شاب متحمسين لتنفيذ الفكرة في قراهم، وتحويلها إلى نموذج بيئي وثقافي يخدم أهاليهم.

ويحلم الشاب بأن تتحول كل ساحات القمامة ومقالبها في القرى إلى ساحات للأطفال، ومسارح، وملاعب، ومساحات خضراء. "هذا ما يحتاجون إليه أكثر ويعلمهم أسرع من الحديث معهم عن أهمية النظافة والرياضة والفن. يجب أن نترك لهم المجال لتجربة كل هذه الأشياء والتعامل مع البيئة المحيطة بهم ومحاولة فهمها".

ويشير إلى أن جيله والأجيال السابقة كانوا محرومين من القراءة والكتب وتعلم الموسيقى أو دخول قاعة فن أو سينما، لكنهم اليوم يحاولون تعويض أطفال قراهم بالمبادرات الشبابية التي يطلقونها، والاهتمام بقضايا البيئة والمرأة والطفل في القرى.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image