امتلأت صفحات الجرائد المصرية في الأشهر الفائتة، بأخبار عن حوادث قتل داخل الأسر الواحدة، تتقاطع عند الدافع، وهو النزاع على الميراث.
ففي تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، حرّض شاب صديقه على اغتصاب أخته، ليقوم بتصويرها ومساومتها على نصيبها من الميراث. وفي الشهر نفسه، قتل شخص أمه، بسبب الميراث. وفي مطلع العام الحالي، حرق أخ شقيقته بسبب نزاعهما على الميراث كذلك.
ثلاث قضايا هزت الرأي العام المصري، في ثلاثة شهور فقط، كان الدافع فيها هو الاستيلاء على ميراث الإناث، ما يمكن أن نعدّه مؤشراً على العنف الاقتصادي تجاههن والسعي لحرمانهن من ميراثهن. وعلى الرغم من خطورة تلك الجرائم، إلا أن هناك حالات أخرى من العنف الاقتصادي، تقع ضحيتها النساء يومياً، وتهدف إلى تحقيق مآرب أخرى، مثل الاستيلاء على دخلهنّ، وحرمانهن من استقلالهن المادي.
وبالرغم من أن الدوافع الاقتصادية لها دور كبير في انتشار هذا النوع من العنف، إلا أن هناك أيضاً دوافع نفسيةً لا علاقة لها بالحالة الاقتصادية، تتعلق برفض استقلال الإناث مادياً، وانتشار حالة الهلع من التمكين الاقتصادي لهن، ومحاولات قمع هذا التمكين بالعنف.
هناك دوافع نفسيةً لحالات العنف لا علاقة لها بالحالة الاقتصادية، تتعلق برفض استقلال الإناث مادياً.
تروي هاجر عبد الحميد (32 عاماً)، من القليوبية، لرصيف22: "بعد وفاة والدي، كان ميراثي مبلغاً صغيراً جداً من أمواله التي أودعها في أحد البنوك، وبالرغم من أن أخي ميسور الحال ودخله أكبر مني بكثير، لكنه رفض إعطائي الميراث، واستولى على وديعة أبي كلها لنفسه، وكلما توسط أحد بيننا ليعطيني حقي، يرفض رفضاً تاماً، ويدّعي الفقر وأنه في أزمة مالية، مستغلاً عدم قدرتي على مقاضاته، وأن المبلغ المستحق لي سيكون أقل بكثير من مصاريف أي دعوى قانونية قد أحرّكها ضده".
تقول هاجر إنها في البداية كانت تتخيل إن سبب هذا الحرمان كون أخيها مجرد شخص أناني أو طماع، ولكن مع الوقت عندما عرض عليها أن تترك عملها، وأن يعمد هو إلى تدوير ميراثها في عمله، ويعطيها منه أرباحاً شهريةً في هيئة مصروف، وافقت بشرط ألا تترك عملها، وأن تثبت الأمر في عقد قانوني وعلى يد محامٍ، فثار عليها ورفض.
"أدركت وقتها أنها محاولة جديدة من ضمن محاولاته المستمرة للسيطرة علي، والتحكم بكل ما يتعلق بحياتي الشخصية، سواء بقراراتي أو بدخلي المادي، أو حتى اختياري لأصدقائي، فمنذ أن بلغت 14 عاماً تقريباً، وهو يكبرني بعامين فقط، ونحن في هذه الدائرة المفرغة من محاولات التحكم من جهته، والمقاومة من جهتي، وكان أبي يحميني في غالبية الأوقات، ولكن بعد وفاته، كأن الفرصة جاءت لأخي على طبق من فضة".
"أراد أن يعطيني مصروفاً"
صراع أشرقت المهدي، وهي موظفة في إحدى المؤسسات الحكومية في ضواحي القاهرة، مشابه نوعاً ما، لكنه مع زوجها.
تروي السيدة الثلاثينية لرصيف22 حكايتها: "فور أن علم زوجي بأن راتبي يمكن استلامه من خلال كارت البنك الذكي أو الفيزا، بدأ بالتركيز على ادّعاء الفقر، وأنه مديون لعدد كبير من الناس، وأن راتبه الذي يبلغ ثلاثة أضعاف راتبي على الأقل، لا يكفي احتياجات المنزل. كنت أفهم مقصده وأنه يرغب في الاستيلاء على راتبي، ولا يكتفي بأننا ننفق معاً في المنزل لسد احتياجاتنا كأسرة، لأنني لاحظت أنني كلما اشتريت شيئاً ما، كان يرفض أن يستخدمه، أو يظل ينتقده وينتقص من قيمته".
لسوء حظ تسنيم، علم والدها بقيمة راتبها الأساسي، فبدأ بالشجار معها وضربها، ورفض ذهابها إلى العمل، حتى لو تعهدت بإعطائه الراتب. كان يقولها بوضوح: إنه لا يمكن أن يتركها في عمل يدرّ عليها دخلاً كبيراً، وإنه لن يشعر برجولته وسلطته طالما هي مستقلة مادياً
عندما صارحها زوجها بأن من حقه أن يأخذ راتبها، وأن يعطيها مصروفاً كالأطفال، ردت أشرقت ساخرةً: "وهل سأستلم أنا راتبك وأخرج لك مصروفاً أيضاً؟". وتتابع: "ظل يتشاجر معي ويحاججني في موضوع القوامة، وفي حقه في التحكم في راتبي. عشت في ضغط نفسي مستمر لشهور، ومع كل يوم 25 من كل شهر، وهو يوم استلام الراتب، تتجدد المشكلات والمشاجرات، حتى أوشكت على الاستسلام، فقط لأنهي تلك الحالة من النكد المستمر".
استمر الأمر كما تقول السيدة حتى وجدت منشوراً يحوي فتوى صادرةً عن دار الإفتاء، بحق المرأة في ذمة مالية مستقلة. "كان بمثابة طوق نجاة لي، وإن كان مؤقتاً، وحتى مع علمي بأن زوجي سيبحث عن حيلة جديدة للاستيلاء على راتبي مستقبلاً، ولكن هذه الفتوى أسكتته وقتها، خاصةً وأنه طوال الوقت يحاول الظهور بمظهر المتدين الوسطي، وعلى الرغم من صعوبة تلك المرحلة التي انتهت بهدنة مؤقتة الآن، لكنني أعلم تماماً دوافع زوجي، فأكثر ما يخشاه هو أن أتركه وأثور عليه وعلى معاملته الجافة والقاسية لي، في حالة تمكني المادي وقدرتي على إعالة نفسي بشكل كامل أنا وأطفالي، وربما شكه في محله، خاصةً وأنني صرحت له في أكثر من مشادة بأنني أتمنى أن أتركه وأرحل اليوم قبل الغد".
"تركت العمل بسبب والدي"
"لم يرتح والدي ولم يهدأ له بال سوى عندما سلبني دخلي المادي"، هكذا تلخص تسنيم الهادي (27 عاماً)، من أسيوط، قصتها مع العنف الاقتصادي.
وعن التفاصيل تحكي لرصيف22: "أعمل في مجال الدعاية الطبية، ومن المعروف أن هذا المجال مشقته وصعوبته، على قدر دخله الجيد. لم يكن والدي يعلم شيئاً عن راتبي أو عمولاتي، وكنت حريصةً على ذلك أغلب الوقت، وذلك لأنه بخيل، وطوال حياتنا معه ونحن نعيش في شح وحرمان، إذ كان بالكاد يسد احتياجاتنا الأساسية، حتى والدتي كان يحرمها من العلاج لفترات طويلة، ولم يكن بخيلاً في الأموال فحسب، وإنما في العاطفة كذلك، ولذلك قررت ألا أمده بأي معلومة عن راتبي أو دخلي الشهري".
ظل يتشاجر معي ويحاججني في موضوع القوامة، وفي حقه في التحكم في راتبي. عشت في ضغط نفسي لشهور، ومع كل يوم 25 من كل شهر، وهو يوم استلام الراتب، تتجدد المشاجرات، حتى أوشكت على الاستسلام، فقط لأنهي تلك الحالة من النكد المستمر
لسوء حظ تسنيم، علم والدها بقيمة راتبها الأساسي، فبدأ بالشجار معها وضربها، ورفض ذهابها إلى العمل، حتى لو تعهدت بإعطائه الراتب. "كان يقولها بوضوح: إنه لا يمكن أن يتركني في عمل يدرّ عليّ دخلاً كبيراً كهذا، وإنه لن يشعر برجولته وسلطته في منزله طالما أنا مستقلة مادياً"، وتقول متابعةً: "هو ببساطة يفرض علينا ظروفاً معيّنةً، وهي أن نعيش على حد الكفاف وبالأساسيات فقط، ويرى سلطته في تلك السلوكيات، وأي محاولة مني أنا وإخوتي في ترقّينا مادياً، سيراه تقويضاً لسلطته الأبوية، وفي النهاية تركت العمل بالفعل، بعدما أُرهقت من المشاجرات والعنف اللفظي والجسدي الذي مارسه علي".
ذكورية سامة
من جانبها، تقول منى عزت، وهي استشارية تمكين اقتصادي ونوع اجتماعي، لرصيف22، "في تقديري وحسب الدراسات الميدانية التي أجريتها على بعض العائلات، فإن الدافع الرئيسي وراء أغلب حالات العنف الاقتصادي تجاه النساء في حالة حرمانهن من الميراث، هو محاولات الحفاظ على نفوذ العائلة المادي، وألّا تتفتت الثروة، خاصةً وأن هذه الثروة تؤدي إلى نفوذ سلطوي بالضرورة، ومن ثم نفوذ في مجال العلاقات، فنجد علاقات متداخلةً مع عائلات أخرى كبيرة بالزواج مثلاً، لتدعيم النفوذ والسلطة، على الفئات الأخرى الأضعف، ومن هنا يأتي التمييز والعنف الاقتصادي على نساء هذه العائلات، خوفاً من سيطرة زوجها عليها وعلى أموالها وميراثها، ما قد يؤدي إلى إضعاف نفوذها".
رفض أخي إعطائي الميراث، واستولى على وديعة أبي كلها لنفسه.
لكن الطرق التي تتم بها هذه السيطرة وهذا التمييز، هي التي يمكن وصفها بالذكورية السامة وفق تعبير المتحدثة، فيُستخدم العنف لإحكام السيطرة على النساء بتواطؤ مجتمعي، مدعوماً ببعض التأويلات الدينية، سواء كان هذا لحرمانهن من ميراثهن أو للتحكم بمواردهن المادية بشكل عام، وبالطبع يستخدم الرجال هذه الامتيازات والصلاحيات لتكون لهم يد عليا على من حولهم، فيتحول الرجل إلى شخص عنيف يستخدم العنف والضرب كحق مكتسب وليس كجريمة في حد ذاته، وآخر ما رأيناه كمثال تضربه المتحدثة، مشهد ضرب زوج لزوجته في الإسماعيلية، وبعد الجدل المثار على مواقع التواصل، يخرج الزوج ليقول إنها اختلاف عادات وثقافات بين الصعيد والمدن، ليس أكثر، وفق تعبيرها.
"الخطير هنا أن نجد الرجال يتماهون مع هذه الجرائم وهذا العنف، بل ويكرسون تلك الثقافة مستخدمين صلاحيات يرون أنها مخوّلة لهم، الأمر الذي يحولهم إلى أشخاص عدوانيين وعنيفين وأكثر تسلطاً، في حين أنه من الممكن أن تكون شخصياتهم مختلفةً تماماً لو كانت التربية من الأساس بشكل مغاير".
وتنهي الاستشارية حديثها بالقول: "أما الإصرار على السيطرة على مرتّب الزوجة، ورفض أي فتاوى دينية تتعلق بحق النساء في ذمة مالية مستقلة، فكل هذا لأنه يعبث بالصورة الذهنية للرجل عن نفسه، ولأنه المتحكم بمقاليد الأمور كلها، وتلك الحقوق تخلخل من سيطرته على المرأة، فيكون رد الفعل أن يصبح أكثر عدوانيةً وعنفاً، حتى لو كان السبيل إلى هذا هو تحدي الأوامر الدينية والشرعية، مثلما يحدث في حرمان النساء من الميراث، بل ويمكن أن يتحول إلى شخص متطرف دينياً، فيبحث عن خطابات دينية أكثر تطرفاً وتشدداً من الخطاب الرسمي، تتيح له ضرب زوجته أو ختان ابنته أو تزويجها مبكراً، أو حرمانها من حقوقها الأساسية كالتعليم والعمل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...