ينشد الجمهور التسلية والمتعة من خلال مشاهدة الأعمال الدرامية، ولذلك التفّ حول الجزء الأول من المسلسل المصري "أبو العروسة"، الذي عُرض عام 2017، خاصةً أن العمل يناقش الحياة الاجتماعية بشكل وردي، ويمنحنا الأمل بأن الغد سيكون أفضل، وأن كل المشكلات قابلة للحل بالحب والنقاش والتفاهم. وعندما عُرض الجزء الثاني أحبه الجمهور أيضاً، ولكن بدأ البعض يسأل مندهشاً: "هل نعيش بهذا الشكل حقاً؟"، وازدادت التساؤلات بعد عرض الجزء الثالث قبل فترة وجيزة.
يرى كثيرون أن شخصية "عبد الحميد" بطل العمل والأب المثالي الذي يحيط أبناءه برعايته ويدافع عنهم ولا يهتم بأي شيء سواهم، ولا ينحني لأي إغراءات مادية أو جسدية مقابل أن يجد أسرته بل كل من حوله سعداء، هي غير واقعية. ومع الوقت بدأوا يشعرون بخروج العمل عن حدود المنطق والواقعية، وأن الطبقة المتوسطة التي يحكي عنها لا تعيش بهذه الأريحية، وأن ما يُعرض بعيد عن الحقيقة ويزيّفها. وفجأةً تحول الأبطال إلى شخصيات كرتونية لا تواجههم مشكلات سوى الحب والانفصال والعودة إلى الحبيب والارتماء في حضن الأسرة. مسلسل تتحقق فيه كل الأحلام، والنهايات تكون سعيدةً.
ووسط نفور الجمهور عادةً من الأعمال الواقعية ذات الطاقات السلبية، وسخريته كذلك من المثالية غير الحقيقية، نتساءل: ما الذي يريده المشاهد؟ وما الذي يجب أن يتوافر في العمل حتى يرضيه؟
تمرد الجمهور
مع بداية عرض الجزء الثالث من المسلسل، وهو من بطولة سيد رجب وسوسن بدر ومدحت صالح ونيرمين الفقي، وتأليف هاني كمال، هاجمه الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي، واتهمه بالمثالية والبعد عن الواقع.
سارة محمد، وهي صحافية، كتبت أن هناك عشرة أسباب تجعلها لا تشاهد العمل، ومنها أنه بعيد عن الواقع ولا يناقش الحياة الحقيقية للطبقة المتوسطة والتي لا تعيش بالطبع في "فيلا"، كما يفعل أبطال المسلسل. وفنّد أحمد سليمان وهو مدرس مساعد في جامعة عين شمس، أسباب اعتراضه على المسلسل قائلاً: "بالنظر إلى طريقة إنفاقهم وعدد الأولاد ودخلهم، المفروض أسرة عبد الحميد يكونوا بيشحتوا من 80 سنة، مش كل يوم يعملوا حفلة ويأكّلوا كل أصحابهم، كما أن طريقة تصرف وتفكير كل شخصيات المسلسل تقريباً غير متطابقة مع الطبقة المتوسطة اللي المفروض أنهم منتمون إليها، الشخصيات كلها فرحانة ومفرفشة ومبتهجة رغم الهموم اللي هم فيها. الأشخاص اللي حياتهم فيها الهموم دي بيبقوا مكتئبين مش لطاف وفرحانين كده".
الجمهور لا ينفر من الواقعية ولا يتعالى على المثالية الزائفة بقدر ما ينشد دراما تحترم رغباته ومشاعره، وتمنحه شخصيات يستطيع التماهي معها، ويرى نفسه فيها. إذا لم يجد مبتغاه فلن يملك حينها سوى السخرية من هذا المشهد الزائف الذي يطارده في كل الشاشات
شيرين فتحي، وهي صيدلانية وكاتبة ثلاثينية من محافظة الدقهلية، روت لرصيف22، رأيها في العمل: "في البداية أعجبني جو الألفة وشكل البيت والحديقة الصغيرة، وأعجبتني الأم والأب اللذان يكافحان من أجل تربية أولادهما الخمسة ليصلوا بهم إلى بر الأمان. أحببت البساطة والمستوى المادي القريب من الأسر المصرية، ولكن بعد ذلك اكتشفت أنه يجعلني ناقمةً على حياتي، وخاصةً شخصية عبد الحميد. صرت أسأل نفسي: لماذا لم يكن لدي أب مثله؟ ثم أذكّر نفسي بأنه تمثيل. كما أن أداء الزوجة عايدة مصطنع ولم أحب ضحكتها. الشخصية التي أحببتها هي شخصية جابر التي قدّمها الفنان مدحت صالح بالرغم من سقطاته وعدم قدرته على التمثيل بشكل جيد".
شخصيات "بلاستيكية"
في لقاء مع رصيف22، تقول الناقدة الفنية آية طنطاوي: "لا أرى أن ‘أبو العروسة’ يناقش الطبقة المتوسطة ومشكلاتها، بل يغازلها بطريقة ناعمة، ويكسبها بريقاً مزيفاً ويجعلها حلماً منشوداً، ربما يعكس المسلسل الصورة التي يتمنى أن يرى عليها تلك الطبقة لا حقيقتها بالفعل، وهو جزء من سلسلة أعمال درامية تخشى الاقتراب من الواقع وتلامس الخيال المزيف وتعيد أمجاد دراما التلفزيون القديمة التي استطاعت أن تجمع الأسرة لتلتف حولها".
ترى طنطاوي أن هذا فعلاً هو هدف العمل؛ صورة أب وأم مثاليين، وبيت يجمع الأسرة في جو من الحميمية المفتقدة، وحوارات عائلية تتأرجح بين الهزل والخفة والحكمة والمشاعر الفياضة. "هي إضافات درامية تكسب العمل النكهة التي يريد التحلي بها، ولأنه ينشد تلك السعادة الزائفة أصبح مصدراً للسخرية أيضاً. أرى أنه يخاطب الأسرة المصرية، لا فتاةً مثلي تبحث عن شخصيات درامية مقْنِعة وليست بلاستيكية".
وعما يريده الجمهور من العمل الفني، قالت: "هو ينشد قصةً حقيقيةً وشخصياتٍ تشبهه في الواقع. يحلو لي دوماً ذكر مسلسل ‘سابع جار’ فهو بالرغم من بساطته يقدّم شخصياتٍ دراميةً تشبهنا، وتشبه بيتنا وبيت العائلة والجيران. حواراتهم أعرفها جيداً بل وخضت جزءاً منها من قبل، لكن إذا توقفت أمام مشهد لبطل ‘أبو العروسة’ وهو يجلس بجوار ابنتيه في الحديقة يعطيهما درساً في القوة وتحمل الألم، ويطلب من ابنته أن يبكي بدلاً منها شريطة أن تبقى قويةً من دون انكسار بعد إخفاقاتها المتلاحقة في الحب، فحتماً لن نتوقع من شريحة عريضة من الجمهور سوى السخرية، فهو مشهد لا يقترب من الواقع، بل يحلق في آفاق حالمة لا تشبهنا. الجمهور لا ينفر من الواقعية ولا يتعالى على المثالية الزائفة بقدر ما ينشد دراما تحترم رغباته ومشاعره، وتمنحه شخصيات يستطيع التماهي معها، ويرى نفسه فيها. إذا لم يجد مبتغاه فلن يملك حينها سوى السخرية من هذا المشهد الزائف الذي يطارده في كل الشاشات".
الجمهور لا يريد واقعيةً متخيلةً، قد يبدو أن أبطالها واقعيون وأحداثهم ومشكلاتهم كذلك، لكنها تفتقر إلى ما يجعلها صادقةً بالفعل.
ماذا يريد المشاهد؟
شعرة دقيقة تفصل بين الواقعية الصادقة والانغماس في السوداوية، وبين الخيال المقبول والمثالية المبالغ فيها، ولهذا نتساءل حول المعايير التي يجب أن تتوافر في العمل الدرامي حتى لا يقع في هذا الفخ، وإن كانت هناك حقاً ضوابط محددة أم أن الأمر يختلف باختلاف الجمهور.
الكاتب والسيناريست حاتم حافظ، يحلل الأمر لرصيف22، ويقول: "نحن مئة مليون ولدينا اهتمامات مختلفة، وعندما يُعرض مسلسل ويكون هناك هجوم نعتقد أن مصر كلها ترفض العمل، فيظهر الأمر كأنه رأي سائد، وهذا غير صحيح. كل مسلسل له جمهوره وتالياً يجب عرضه حتى لو كان البعض لا يحبونه. أرى أن تقديم جزء ثالث من ‘أبو العروسة’ يؤكد نجاحه ويثبت أن له جمهوراً عريضاً. البعض رأوه مثالياً، وآخرون يعتقدون بأن كل الناس فعلاً طيبون، والبعض يرون العكس. كل هذا لا علاقة له بحكم القيمة على الأعمال بل متعلق بالجماهيرية فحسب".
الأستاذ المساعد في أكاديمية الفنون أضاف: "قد نحب هذه الأعمال لأنها تجدد ذكرياتنا القديمة، وأبو العروسة من نوعية المسلسلات التي تُسمّى ‘أوبرا الصابون’ وهي للتسلية فحسب، وليس المطلوب منها أن تقدّم رسالةً محددةً. ومن الصعب الآن أن نجد عملاً يخاطب كل الجمهور مثل أيام زمان، لأن الناس لم يعودوا متشابهين".
ويوضح الناقد الفني والكاتب محمود عبد الشكور، هذه النقطة لرصيف22، بقوله: "عندنا جماهير وتفضيلات كثيرة، وتالياً تختلف الآراء. أنا شخصياً أرى أن الدراما الناضجة هي التي تتعامل مع الإنسان ككائن رمادي، لا أبيض ولا أسود. يمكننا أن نصنع شخصياتٍ مثاليةً دراميةً ونختبر تأثيرها على الجمهور، كما كان أسامة أنور عكاشة يفعل، وكمثال على ذلك شخصية ‘أبو العلا البشري’. لكني مع الواقعية، طبعاً من دون افتراض أن كل الجمهور سيحب ذلك. بشكل عام لو قُدمت الشخصية المثالية بشكل ذكي ضمن دراما قوية ستمر. لكن المشكلة لو كانت مباشرةً وصوتها عالياً. ولا ننسى أن بعض الفئات ما زالت ترى في الدراما وظيفةً أخلاقيةً وإرشاديةً على الطريقة القديمة وتحب ذلك، مثلما فعلت مع يوميات ونيس التعليمية".
طريقة تصرف وتفكير كل شخصيات المسلسل تقريباً غير متطابقة مع الطبقة المتوسطة اللي المفروض أنهم منتمون إليها، الشخصيات كلها فرحانة ومفرفشة ومبتهجة. الأشخاص اللي حياتهم فيها الهموم دي بيبقوا مكتئبين مش لطاف وفرحانين كده
أما الناقدة الفنية رحمة الحداد، فترى أن من الصعب معرفة ما يريد الجمهور فهو ليس كتلةً واحدةً، وتقول في حديثها إلى رصيف22: "إذا كان مسلسل ‘أبو العروسة’ يعرض قيماً أسريةً مثاليةً، فإن هنالك شريحةً عمريةً واجتماعيةً تستسيغ ذلك بل وتطلب المزيد منه، إذ تذكرها المثاليات بما كان عليه التلفزيون في سنوات شبابها حين كان كل محتوى بصري أو سمعي موجهاً نحو هدف ما، فيثير ذلك حنيناً إلى أزمنة يتخيلها البعض أبسط، لأنها لا تثير تساؤلات ولا تخوض في مشكلات أو تصورات معقدة عن المفاهيم الحياتية الرئيسية مثل الأسرة والحب".
هذه المثاليات والتوجيهات التي تبدو أبويةً، تثير سخرية قطاعات من الجماهير وفق رأي الحداد، وعلى الأخص تلك التي تنتمي إلى شريحة عمرية أصغر أتيحت أمامها نوافذ واسعة من المحتوى الرقمي الذي يتناول الحالات الإنسانية بحرية، من دون محاولات لتزيين أوضاع فئات معيّنة أو إصدار أحكام فوقية. "ما يريده الجمهور هو أن يختار، وأن يكون أمامه ما يكفي من المنتجات الثقافية المتنوعة من دون احتكار لتوجه فكري واحد، حينها سيستهلك ما يراه مناسباً ويتجاهل ما لا يلائمه".
بدوره، لا يرى السيناريست والكاتب محمد هشام عبية، أن الجمهور ينفر من الواقعية، ويشرح ذلك بقوله: "الجمهور لا يريد واقعيةً متخيلةً، قد يبدو أن أبطالها واقعيون وأحداثهم ومشكلاتهم كذلك، لكنها تفتقر إلى ما يجعلها صادقةً بالفعل، وقد يتفاعل معها الجمهور في بادئ الأمر ثم ينتبه إلى خلل ما فيتوقف عن المشاهدة، أو ربما يشاهد بنفسية الناقد المتصيّد وليس المشاهد المنغمس".
السيناريست المصري أضاف: "أعتقد عموماً أن الواقعية تحتاج إلى مناخ من العمل الحر، والسقف المرتفع، وحين يحدث ذلك سيظهر الشخص المثالي وغير المثالي بشكل صحي وطبيعي، وحينها سيتفاعل الجمهور ويصدق، لكن أن يظهر الواقع مثالياً براقاً طيباً طوال الوقت، فهذا هو الخيال بعينه ولا علاقة له بالواقع بكل تأكيد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...