شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"البحث عن عُلا"... أسرار طبخة نتفليكس الشهية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 8 فبراير 202204:02 م

حينما أطلّت علينا شخصية "علا عبد الصبور" في حلتها الجديدة عبر الإعلان الدعائي لمسلسل "البحث عن عُلا"، تعالت الأصوات المنزعجة من التغير الطارئ على ابنة الطبقة المتوسطة التي ارتبط الناس بها قبل 12 عاماً على امتداد 30 حلقة من مسلسل (عايزة اتجوز)، وتحفز كثيرون ضد المعالجة الجديدة، المتذرعة بمُضي السنوات مبرراً للترقي الطبقي الذي تعكسه الصورة.

ولكن تبدُّل الحال مع إتاحة المسلسل المكون من 6 حلقات (كتابة غادة عبد العال ومها الوزير وإخراج هادي الباجوري) على منصة نتفليكس مطلع الشهر الجاري شباط/فبراير 2022، أحدث حالة من الاحتفاء بأفكار طُرحت في الفضاء الإلكتروني، وتفاعلت مع مجموعة من الجمل الحوارية والأغنيات المميزة، التي يتضمنها العمل المشتبك مع العديد من القضايا الرائجة في المجتمع المصري الآن. ولكن هل يستحق "البحث عن عُلا" كل هذه الإشادات؟

الإحياء تيمة رائجة

ارتبط صعود وانتشار المنصات الرقمية بظواهر إنتاجية متعددة من بينها إحياء المسلسلات والشخصيات التي تتمتع بشعبية وجاذبية جماهيرية كبيرة. وتعتبر نتفليكس رائدة في هذا الاتجاه منذ عدة سنوات، بعدما بثت الروح في أعمال قديمة لم يتخيل محبوها إمكانية عودتها من جديد، مثل مسلسل "عائلة بلوث-Arrested Development"، ومسلسل "بنات جيلمور-Gilmore Girls"، ومسلسل "المنزل المزدحم-Full House". فالمنصة العالمية تدرك أن هذه المسلسلات المألوفة تثير كماً هائلاً من مشاعر النوستالجيا، وتكتسب بسهولة قاعدة مشاهدين مضمونة إلى جانب قدرتها على استقطاب شرائح جديدة، فضلاً عن اهتمام الصحافة ووسائل الإعلام بأخبارها أكثر من غيرها في أغلب الأحيان.

إثارة مشاعر النوستالجيا + جذب اهتمام الإعلام + إعادة طرح الأفكار والقناعات على السوشيال ميديا = نتفليكس

وبشكل عام، يرى مختصون أننا نعيش في عصر الأعمال الفنية التي لا تعرف نقطة نهاية. فمثلاً تشير الكاتبة زوي ويليامز في صحيفة الغارديان عام 2017 إلى موت النهايات التليفزيونية نظراً لرواج القصص الفرعية المنبثقة عن عالم أكبر، والأخرى التي تعيد سرد الأحداث بمنظور وتقنيات جديدة، بالإضافة إلى التتمات اللامتناهية.

لذلك، كان من الطبيعي أن تتحمس نتفليكس لإحياء عُلا من جديد في عمل حرص صناعه على نفي كونه جزءاً ثانياً، ووصفوه بأنه تقديم للشخصية في عالم مختلف يتماشى مع بلوغها مرحلة عمرية ذات متطلبات جديدة. فقد كان ضرورياً أن تراعي عملية الإحياء الفارقَ الزمني وتتكيف مع التغيرات التي طرأت على صناعة المسلسلات وجمالياتها. ومن هنا تنطلق أحداث القصة من سؤال: ماذا بعد النهاية السعيدة التي قدمها (عايزة اتجوز) في 2010؟

في ذاك الوقت، كانت الصيدلانية عُلا، التي كبرت وسط بيئة محافظة، ولم تنشأ بينها وبين الرجال أي علاقة بحسب التقاليد الشائعة، مضطرة للبحث عن زوج بأي طريقة قبل تخطي عتبة الثلاثين، هرباً من الضغوط الأسرية والمجتمعية الواقعة عليها. حتى إنها كانت على استعداد لتقديم تنازلات عدة في مقابل الوصول إلى مرادها.

تبدو عُلا الجديدة امتداداً لها في محاولاتها لمسايرة الحياة ممتثلة لنفس القيود. ولكن يأتى قرار زوجها بالانفصال عنها مبدداً لحالة الاستكانة الطويلة، ويدفعها إلى خوض تحديات مادية ونفسية، تساعدها على اكتشاف ذاتها، ومواجهة أخطائها.

جاذبية "عُلا" الجديدة

تهتمّ نتفليكس بتمثيل النساء على شاشتها ومنحهن أدوار البطولة في إطار دعمها للصوابية السياسية وثقافة الصحوة عموماً، ولكن تطالها انتقادات بسبب عرض صور نمطية وتقديم خطاب مناهض للنسوية في بعض الأحيان. ومع ذلك، استطاع صنّاع "البحث عن عُلا"، الذي تلعب بطولته هند صبري، وتشارك فيه كمنتجة منفذة، الإفلات من الوقوع في الانحيازات الفجة لكلا الجانبين، وخلق حالة من التوازن في تناوله لحياة امرأة مطلقة ومرورها بأزمة منتصف العمر، التي عادة ما تكون حكراً على الرجال في الأعمال الفنية.

حاول المسلسل الابتعاد عن تقديم صورة المرأة المستقلة القوية بطريقة سطحية، واختار أن يقدم عُلا سيدةً مضطرة للاعتماد على نفسها بعدما جُرحت كرامتها، وسُلب أمانها. تختبر الواقع وتتعامل مع معطياته ورماديته بمفردها للمرة الأولى؛ تتخبّط أحياناً، وتصيب في أحيان أخرى، مستمتعة بلذة التجريب. وخلال رحلتها تنتقد الازدواجية في التعامل مع النساء وصعوبة التمتع باستقلالهن التام داخل المجتمع الأبوي وقوانينه، بنبرة خطابية مخففة، تحرك الساكن بلا ضجيج.

أما ما يميز المعالجة عن غالبية المسلسلات، التي تناولت أزمة الطلاق في الفترة الأخيرة هو أنها لم تحصر المشكلة في الرجل وعيوبه، وإنما ربطتها بأساليب التربية القاسية التي تفرض على الفتاة، كبت مشاعرها والعيش في الظل حفاظاً على الشكل العام وخوفاً من اللوم والعقاب. فتمثل شخصيتا الأم (سوسن بدر) والحماة (لطيفة فهمي) نموذجين للأفكار التي تحدّ من قدرات النساء وتدفعهن إلى التخلي عن الطموحات والأحلام والتنازل عن حقوق كثيرة. في مقابل، التربية الحديثة التي تسعى عُلا إلى اتباعها مع طفليها، وتحديداً ابنتها، حيث تظهر أكثر قوة واتزاناً منها ومعرفة بنفسها ورغباتها.

انتهى عصر النهايات، نوع المسلسل "دراميدي"، نعم للشعور الجيد والحلول السهلة بعيداً عن الأزمات الاقتصادية والسياسية... تعرفوا على الطبخة الشهية التي أعدتها وستعدها لكم/نّ نتفليكس

كما أن المسلسل لم يختزل رحلتها في العثور على رجل آخر، يحتفي بنجاحها، ويغيرها إلى الأفضل، وكأنه بديل أكثر انفتاحاً من طليقها. فالرجل الجديد أيضاً يريدها متفرغة له بدرجة كبيرة. الاختلاف هنا إنها بدت غير قادرة على الانصهار في كيان أحد، فهي بحاجة للتروي في اختياراتها، وتحديد أولوياتها في الحياة قبل أي شيء.

كل هذا يقدم بأسلوب بعيد تماماً عن مبالغة كوميدية ميزت نسخة 2010، أخرجها رامي إمام، فصحيح أن عُلا لا تزال تكسر الإيهام لمشاركة الجمهور أفكارها ومشاعرها وسخريتها من الحياة عموماً، لكن المسلسل ينتمي إلى نوعية "الدراميدي" المنتشرة في صناعة المسلسلات هذه الأيام، حيث يمزج بين العناصر الجادة والفكاهية بطريقة متناغمة وجذابة، تتيح الفرصة للتماهي مع الشخصيات والأحداث. مثلما سبق وقدمها صناع مسلسل "خلي بالك من زيزي" العام الماضي، الذي تطرق في حلقاته أيضاً إلى أخطاء التربية وتأثيرها على المستقبل بشكل مغاير.

الهوية البصرية وانعدام الخصوصية

ساعدت إيجابيات العمل الجديد على تقبل العالم البراق الذي ظهرت فيه الشخصية الرئيسية، إلا أن عقد مقارنة بين المسلسلين كان حتمياً، وذلك لأن "عايزة اتجوز" تمتع بنقاط قوة واضحة رغم تباين الآراء حول نهجه الكوميدي. فقد تميز باقترابه شكلاً ومضموناً من الطبقة المتوسطة، بداية من أماكن التصوير والديكورات البسيطة والملابس التي تظهر خلال الأحداث، مانحة المسلسل بصمة بصرية خاصة، إلى جانب تناوله لقضية تأخر سن الزواج التي كانت حاضرة داخل دوائر هذه الطبقة، بأسلوب ساخر يهدم الحواجز، ويفتح نقاشات جريئة على كافة المستويات، خاصة مع تقديمه لانتقادات سياسية مناسبة للمناخ العام آنذاك. فنجد أزمات طابور العيش، وأسعار أسطونات البوتاجاز، وحوادث الطرق كلها موضوعات مطروحة على لسان الشخصيات، وترتبط بشكل أو آخر بالفكرة الأساسية.

فيما حاول "البحث عن عُلا" أن يلائم العصر الحالي في معالجته الاجتماعية التي تتضمن قوة المؤثرين في الحملات التسويقية، وتغير أساليب الدعاية، وظهور تطبيقات المواعدة، وغروبات الماميز، وتغير مفاهيم العلاقات بين الأجيال الجديدة. بل إنه استوحى أفكاراً من الواقع تناسب موضوعه بصورة أقرب للنسخ ربما، بهدف كسر الإيهام بأسلوب متخلف؛ فمثلاً المشروع الريادي الذي أسسته عُلا في الحلقة الثانية يماثل مشروع مستحضرات طبيعية مصرية يحمل اسم ملكة فرعونية، وقد بدأته صاحبته أيضاً من أجل ابنتها، أو مثل المعسكر في الحلقة الخامسة المشابه تماماً لبرنامج "الفاميليا" الذي قدمه أحمد أمين.

"الطلاق بطريقة وردية ومرفهة".

لكن خيار الترقي الطبقي، رغم احتمالية حدوثه البعيدة، نأى بالمسلسل عن الخصوصية التي كانت تميزه في السابق، وهي قربه من واقع الكثيرين. فالعالم الجديد يتعامل مع قضية رائجة مثل الطلاق، بطريقة وردية ومرفهة إلى حد كبير، يجردها من مشكلات كبرى تعيشها غالبية النساء المصريات. تبدو فيه الحلول سهلة وسريعة لتتماشى مع الشعور الجيد الذي يرغب الصناع في تركه لدى المشاهد.

وانسحب الأمر على الصورة وجمالياتها التي بدت مطابقة لأعمال أخرى كثيرة تنتمي لنفس النوع على نتفليكس. صحيح أن هناك وعياً بأنه مسلسل عربي على المنصة العالمية، وبالتالي يوجد اهتمام باختيار ملابس وحُلي عصرية ذات طابع مصري، إلى جانب ظهور لقطات لخان الخليلي، والحقول الريفية أقرب لكونها صوراً سياحية لامعة تجذب الانتباه، إلا أن ذلك لا يضاهي هوية المسلسل القديم.

ومع ذلك، إذا اعتبرنا أنه مسلسل جديد لا يمت بصلة لأي عمل آخر، يصبح "البحث عن عُلا" حكاية مُسلية، ذات عناصر جيدة، قادرة على مخاطبة المشاعر بشكل أفضل من مسلسلات مشابهة حديثة، وتسعى إلى تقديم جرعة تفاؤل للنساء حتى وإن كانت خادعة بعض الشيء.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image