لم يمضِ وقت كثير على الهجوم الكاسح على المسلسل الأردني "مدرسة روابي للبنات" (إخراج تيما الشوملي)، الذي بثته نيتفلكس، حتى وصلنا إلى هجوم جديد.
تعرّض المسلسل الأردني، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، للترهيب والتحريض على كل من شارك فيه، بادّعاء أن المسلسل خادش للحياء، ومشوّه لمجتمعاتنا العربية.
يصبح التناول العلني للمحرمات، ومواضيع "العيب"، تناولاً خادشاً لحياء الواقع السائد. وبسرعة فائقة تُعدّ التهم، وتوجَّه السهام نحو صدر الفيلم، ونحو مخرجيه وممثليه كمروّجين للرذيلة ومفسدين للأجيال.
إن اللافت والأساسي في تناول صيغة الهجوم على "مدرسة روابي للبنات"، هو رفعها راية الحقيقة المطلقة، والصورة الواحدة لواقع المجتمع، وللمبنى الاجتماعي ولمنظومة العلاقات. ما أحدثه المسلسل في سردية أحداثه، ومن دون الخوض في المسار الفني، هو طرح مغاير لأنماط العلاقات الظاهرة والسائدة المرضي عنها لـ"سلوكيات بناتنا". المسلسل، وإن أردنا التسليم النظري بأنه يقدّم فنتازيا تلفزيونيةً لا تمت إلى الواقع بصلة، إلا أنه فعلياً قدّم مشهداً جدلياً حول ماهية المجتمع وماهية العادات والتقاليد. وسواء أكان المسلسل حالةً مقصودةً لخرق الواقع ومحاورته، أو كان إبداعاً متخيلاً، فإنه يكشف عن التزمت الكامل للحقيقة الواحدة، أو ضائقتنا ورعبنا من التمرد، أو انطلاق الفنتازي فقط في الدوائر الفنية والثقافية عموماً.
روليتا الهواتف الذكية
في العودة إلى النقطة الأولى، وإلى "الهجوم الجديد"، فقد قدّمت نيتفلكس مؤخراً لمشاهديها إنتاجاً "جديداً"، وهو عبارة عن نسخة عربية للفيلم الإيطالي "Perfect Strangers".
يروي الفيلم أحداث سهرة بين مجموعة من الأزواج الأصدقاء لمتابعة ظاهرة الخسوف والكسوف، والسهرة في معظمها تتركز في مكان واحد، شقة أحد الأزواج. واللمة على العشاء تبدأ كحديث وحوار كوميدي ساخر يركّز على "آفة" القوافل النقالة، و"كوراثها"، وما تحدثه من "خراب بيوت". من خلال المزاح والقهقهات، تتدحرج السهرة إلى لعبة تسلية بين الشلة، وتتلخص اللعبة في أن يكشف كل واحد محتوى الرسائل أو الاتصالات الواردة التي تصله خلال السهرة، أمام الجميع. إلا أن مجريات اللعبة تتحول إلى مجريات غير مسلية.
في الكتابة عن الإنتاجات الفنية، أميل إلى تجنب إلصاق صفة الأعمال الهادفة، كحكم قيمي وأخلاقي على هذه الإنتاجات، وكذلك الابتعاد عن تبني خطاب "العلاج الوظيفي" للثقافة، بمعنى ألا أحمّل الفنان رسائل ساميةً لم يحملها، ولم يقصدها، وتالياً قد يكون منصفاً أن نسأل: "ماذا يطرح الفيلم، بدلاً من ماذا يعالج الفيلم؟"
سينما تخدش التابوهات
في الكتابة عن الإنتاجات الفنية، أميل إلى تجنب إلصاق صفة الأعمال الهادفة، كحكم قيمي وأخلاقي على هذه الإنتاجات، وكذلك الابتعاد عن تبني خطاب "العلاج الوظيفي" للثقافة، بمعنى ألا أحمّل الفنان رسائل ساميةً لم يحملها، ولم يقصدها، وتالياً قد يكون منصفاً أن نسأل: "ماذا يطرح الفيلم، بدلاً من ماذا يعالج الفيلم؟". هذا التجنب يمنحنا مساحةً تحليليةً آمنةً نسبياً، تعفينا من التسليم المسبق بالدور العقائدي المنسوب إلى المادة الفنية. وهكذا نتقدّم في فيلم "أصحاب ولا أعزّ"، نحو نقد وجدل مع محتوى الفيلم ومواضيعه، من خلال المشاهد البصرية ورؤية فردية متزنة، واخضاع مواد يتناولها الفيلم لقراءات خاصة، أو لمذهب نقدي، مع الأخذ بالحسبان عوالم الإنتاج والفكر ورأس المال المحيط بالإنتاجات الثقافية.
حين يقحم فيلم "أصحاب ولا اعز"، الحائز بنسخته الأصلية الإيطالية على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان القاهرة 2016، في مادته، مضامين وسرديات وأحداثاً تتناول قضايا شائكةً وحساسةً، كالعلاقات الجنسية في أوساط المراهقين، وموقف الأهالي التربوي والسلطوي منها، أو أن يطرح قصصاً عن عوالم العلاقات الزوجية وتعقيداتها، وإشكالياتها وتداعيتها، والموقف من الحمل والولادة، وطرح موقف يتعلق بالميول الجنسية والموقف من المثلية الجنسية، فإن هذا الفيلم يقدّم قصصاً تخوض في جوانب هي من المحرمات في مجتمعاتنا العربية، أو ضمن حيّز التابوهات. من هنا، يصبح التناول العلني للمحرمات، ومواضيع "العيب"، تناولاً خادشاً لحياء الواقع السائد. وبسرعة فائقة تُعدّ التهم، وتوجَّه السهام نحو صدر الفيلم، ونحو مخرجيه وممثليه كمروّجين للرذيلة ومفسدين للأجيال.
أمام هذه الحملات، يغيب دور الناقد الفني والناقد الثقافي، ويتراجع الجدل والحوار حول جودة الفيلم ورداءته، وينحسر النقاش والتعليق حول مواده، وحول التصوير الواقعي والخيال، وحتى الحديث عن سطحية الإنتاح وهشاشته يخضع ويتراجع أمام حملات الترهيب والتحريض على جهات الإنتاج والممثلين
مع الإعلان عن بث الفيلم، من دون الاكتراث لشرط مشاهدته، والنشر عن احتوائه مضامين تخص المثلية وتخص العلاقات الجنسية، وعن احتوائه تعابير جنسيةً وشتائم، هي أصلاً من ميزات خطابنا الاجتماعي اليومي، ومركب أساسي في حوارات معظم الشرائح الاجتماعية، تتعالى الأصوات والدعوات لمقاطعته. استخدام اللفظ المتداول للعضو الذكري، والمتوفر باللهجات السورية، والفلسطينية، والمصرية، وعموماً بكل لهجات العربية ووقائعها، يصبح من ضمن الحجج لإقصاء الفيلم. وهكذا تنشغل الساحة المصرية مطالبةً البرلمان بمنع بث نيتفلكس، وإغلاقها في مصر، لظهور شخصية المصري كمثليّ جنسياً (ولو مؤقتاً في أحداث الفيلم)، وزوجته المصرية التي تصرّح بعلاقتها خارج الزواج، عادّين الموقفين تشريعاً للمثلية ودعوةً إلى الفسق، وتشويهاً للشخصية المصرية، والمرأة المصرية، أمام العالم.
حملات التحريض، والإقصاء والترهيب، لا تنتِج مواد هجوميةً فحسب، بل تنتج واقعاً علنياً متخيلاً للحقيقة، نتبناه وندافع عنه كالآتي: ليست لدينا مثلية. نحن مجتمع ليست لديه علاقات خارج الزواج، ولا علاقات جنسية قبل الزواج، ولسنا بحاجة إلى توعية جنسية للأولاد والمراهقين.
في فورات الغضب المتلاحقة من مسلسل إلى آخر، ومن فيلم إلى فيلم، نلحظ تثبيت الأدوار وتصاعد نبرتها في ملاحقة المواد الفنية التلفزيونية والسينمائية. قوى وشرائح مجتمعية تقود حملات ضد هذه الإنتاجات، وتكرّس الصورة النمطية، وتبلورها وتعمقها كحالة مثالية. أمام هذه الحملات، يغيب دور الناقد الفني والناقد الثقافي، ويتراجع الجدل والحوار حول جودة الفيلم ورداءته، وينحسر النقاش والتعليق حول مواده، وحول التصوير الواقعي والخيال، وحتى الحديث عن سطحية الإنتاح وهشاشته يخضع ويتراجع أمام حملات الترهيب والتحريض على جهات الإنتاج والممثلين. وبدل أن نترقب تطور مسار مجتمعي تقوده نخب مجتمعية وسياسية تلاحق رداءة الحال المجتمعي الذي تنتجه الدولة بنظامها الاستبدادي القمعي، في ما يتعلق مثلاً بعمالة الأطفال، وقمع النساء، والتحرش وانتشار الجرائم وواقع الفقر وتعاسة أجهزة التعليم ونظم المعرفة، يتراجع هذا المسار مع عملية إنتاج وإعادة إنتاج "نخب" تقليدية، كحامية للمجتمع والدين من "غول المثلية"، تعمل بشكل ممنهج على شيطنة خطاب الحريات.
حملات التحريض، والإقصاء والترهيب، لا تنتِج مواد هجوميةً فحسب، بل تنتج واقعاً علنياً متخيلاً للحقيقة، نتبناه وندافع عنه كالآتي: ليست لدينا مثلية. نحن مجتمع ليست لديه علاقات خارج الزواج، ولا علاقات جنسية قبل الزواج، ولسنا بحاجة إلى توعية جنسية للأولاد والمراهقين. المنظومة السائدة قادرة على معالجة هذه التجاوزات للجمها ومحاصرتها، واصفةً إياها بالشاذة التي لا تمت إلى الواقع بصلة، ولا تعكسه.
"طلبية ع ذوقك..."
في حالة فنية لا يتم فيها فرز المادة التلفزيونية والسينمائية حسب الجودة، ويقل فيها النقد لمتابعة جدية المادة، أو سخافتها، ركاكة طرحها، أو عمقها، وفيها مشهد مجتمعي يسود فيه رد فعل "طم" الرأس في الرمل، وتقديم "مثالية" مجتمعنا، وتقدّمِه عن بقية المجتمعات، يصبح الذوق الاستهلاكي للمادة التلفزيونية أو السينمائية كالتالي:
"من فضلك سجّلي طلباتي: بحاجة إلى مسلسل أو فيلم يقدّمنا إلى أنفسنا، وإلى الآخر، كمجتمع محافظ، متدين بصبغة واحدة، وصيغة واحدة، متماسك، مجتمع لا يحتوي على مشكلات جنسية، ولا تحرشات ولا اغتصاب. من فضلك تجاهل كل الحضيض السياسي والاقتصادي، وأغمض عينيك عن البشاعة التي تُرتكب بحق الأطفال، النساء، العمران، والتراث، ولا تتطرق إلى الاختلافات في الروايات التاريخية والدينية، وقدّم لنا إنتاجاً مسلياً، لطيفاً ومثالياً".
هذا الخطاب الاستبدادي لماهية الصواب والخطأ، يطلب من التلفزيون والسينما نسخ الواقع حسب رواية واحدة، وتصور واحد تفرضه النخب السياسية الحاكمة مستعينةً برجالاتها من قوى سياسية دينية ومؤسساتية أخرى.
لا تقتصر حملات سيف الرقيب الاجتماعي السياسي والديني على المسلسلات المعروضة على منصات عرض دولية أجنبية فحسب، بل تطال حملاته الإقصائية أعمالاً داخل "الملعب البيتي"، وقد تكون لأسباب لا تتعلق فقط بالعادات والتقاليد والدين وتابوهات المواضيع الجنسية، بل تطال إنتاجاتٍ سياسيةً وتاريخيةً
لا تقتصر حملات سيف الرقيب الاجتماعي السياسي والديني على المسلسلات المعروضة على منصات عرض دولية أجنبية فحسب، بل تطال حملاته الإقصائية أعمالاً داخل "الملعب البيتي"، وقد تكون لأسباب لا تتعلق فقط بالعادات والتقاليد والدين وتابوهات المواضيع الجنسية، بل تطال إنتاجاتٍ سياسيةً وتاريخيةً، بادّعاء عدم توخّيها الدقة التاريخية، وعدم التزامها بالروايات والتصورات السائدة لدى المجتمعات المحلية، بناءً على ذلك شهدنا منع بث مسلسلات تاريخية، مثلاً كمسلسلي "سيف الله خالد بن الوليد"، و"الملك".
منظومات الهيمنة وأدواتها تنجح في الداخل في تحديد مساحات الإنتاج وسقف الطروحات، في حين تحاول هذه المنظومة فرض تأثيرها وترهيب الإنتاجات العربية في منصات الخارج. إلى الآن، حسابات الربح لدى شركات البث والإنتاج الكبرى، ترجّح الكفة لصالح استمرار هكذا إنتاجات، ورعايتها!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...