"صدّقيني، المرأة التي تعرف كيف تواجه أصعب الظروف، لا شيء يستطيع منعها من تحقيق الأهداف التي تريدها، والتي تعمل بجهد من أجل تحقيقها". إنها خلاصة تجربة حافلة بالعوائق تخوضها هدى بريدي، "أم حسين" أو "خنساء القلمون" كما هي معروفة ضمن مجتمعها العرسالي، لنصرة الضعيف والفقير... مثلها!
هدى امرأة لبنانية تزوّجت من سوري قبل ثلاثة وثلاثين عاماً تقريباً، لديها ثمانية أولاد، فقدت منهم ابنها البكر خلال الأحداث في سوريا عام 2012، وذلك بعد وفاة زوجها بخمسة أشهر في تلك الأحداث أيضاً. على الرغم من شعورها بالصدمة للحال التي آلت إليه ظروفها، ومرورها بفترة عصيبة جداً إثر فقدانها زوجها وابنها، لم تستسلم للأسى والعوز، وبدأت تعمل في سوريا في مجال الإغاثة ومساعدة النازحين في نطاق منطقة القلمون التي كانت تعيش فيها.
لجأت مطلع عام 2014 إلى لبنان، وتحديداً إلى بلدتها عرسال البقاعية القريبة من الحدود السورية، هي وأولادها السبعة وزوجة ابنها الأصغر، بحثاً عن الأمان والاستقرار، بعدما هُدم منزلها وأصيب أحد أبنائها في يده التي باتت مشلولةً. كما الكثير من السوريين الهاربين من ويلات الحرب والآتين في معظمهم من منطقة القلمون إلى عرسال، لم تكن تملك هدى، عند لجوئها إلى بلدتها، أي شي. ولم تستفد من مساعدات منظمة الأمم المتحدة سوى لبضعة أشهر، إذ حُجبت عنها هذه المساعدات كونها لبنانية الأصل.
أنا امرأة خرجت من المخيّمات، وأعرف جميع أوجاع اللاجئين فيها ومتاعبهم وظروف عيشهم.
قرّرت هدى أن تكون صوت النازحين والمقيمين الصارخ في وجه المأساة. "أنا امرأة خرجت من المخيّمات. يوجد 167 مخيّماً ضمن منطقة عرسال، وأنا أعرف جميع أوجاع اللاجئين فيها ومتاعبهم وظروف عيشهم. فما أنقله وأتحدّث عنه هو الواقع الذي عشته وعانيتُ منه، وليس مجرّد صورة غير حقيقية".
تحدّيات
"تواصلتُ مع عدد من الجمعيات التي تعمل في مجال الإغاثة، فشكّلنا مجلساً محليّاً لبلدة فليطة، وهي بلدة زوجي في القلمون. وترأستُ المجلس المحلي على الرغم من معارضة كل الرجال لأن أتولّى هذا المنصب كوني امرأةً".
بعد تسلّمها هذه المهام، تواصلت هدى مع عدد من الجمعيات للحصول على معونات للمحتاجين. بعد سنة تقريباً، دعاها أصدقاء لها لزيارة تركيا حيث حضرت تدريباتٍ خاصةً بحلّ النزاعات بالطرق السلمية، وبمناصرة المرأة والدفاع عن حقوقها، فأدخلت هذه التدريبات إضافةً نوعية على شخصيتها وعزّزت ثقتها بنفسها.
وفور عودتها إلى لبنان، تم توقيفها. تقول شارحةً ما حصل معها: "سُحبت منّي أوراقي وتمّ توقيفي في الأمن العام لمدّة يومين ونصف اليوم، وذلك بسبب مواقفي السياسية. شكّل هذا التوقيف صدمةً لي لن أنساها في حياتي، وذلك لأنني لبنانية وأتعامل في بلدي بهذا التمييز وهذه العنصرية".
بموازاة تمكينهنّ مادياً وتأمين المدخول المالي لهن، تعمل هدى على توفير الدعم النفسي للنساء السوريات واللبنانيات في عرسال. سعت إلى تنفيذ مبادرة دعم لهن محورها العنف ضدّ المرأة وكيفية العمل على الحشد والمناصرة، وكان الأمر صعباً بسبب الرفض المجتمعي
ومبادرات
خلال العام 2015، أنشأت هدى وأصدقاؤها في عرسال "تجمّع الشرق المدني"، وهو مركز تعليم مهني وحرفي تولّت هدى إدارته مدّة خمس سنوات. تمّ تعزيز عمل هذا المركز المتخصّص بتعليم النساء اللبنانيات والسوريات مهارات الخياطة والتطريز والسجاد، بفضل شراكة مع منظمة "إدنبرغ" البريطانية. "حصلنا على ماكينات للخياطة، ونظمّنا دورات تدريب في الخياطة والصوف والسجاد، وأخذنا مشاريع من الهلال القطري الأحمر، وقدّمنا ملابس للأطفال اللاجئين، وأيضاً نفّذنا مشاريع للمدارس الرسمية هي عبارة عن خياطة مراييل للتلامذة وتطريز شعارات".
وبموازاة تمكينهنّ مادياً وتأمين المدخول المالي لهن، تعمل هدى على توفير الدعم النفسي للنساء. سعت إلى تنفيذ مبادرة دعم لهن محورها العنف ضدّ المرأة وكيفية العمل على الحشد والمناصرة، بالتعاون مع شبكة "أنا" المختصّة بمناصرة المرأة. "كانت المرة الأولى التي أنفذ فيها مشروعاً كهذا. كان الأمر صعباً بسبب الرفض المجتمعي والتعصّب والعادات والتقاليد. والمشكلة الأكبر تمثلت في الظروف التي شهدتها عرسال خلال فترة تنفيذ هذه المبادرة. كانت فترةً حرجةً لأنّ المنطقة كانت محاصرةً وتعاني من المشكلات الأمنية. على الرغم من ذلك، استطعنا استهداف أكثر من ستين امرأةً".
في العام 2017، عملت هدى مع جمعية "لمسة ورد" التي تعمل بمجال الدعم النفسي الاجتماعي على إطلاق مبادرة أخرى في عرسال مموّلة من جمعية "الإنمائيون اللبنانيون"، استهدفت نحو 1،500 امرأة خلال ثلاثة أشهر. هدفت تلك المبادرة إلى التوعية بمواضيع التحرّش الجنسي والزواج المبكر والإدارة المنزلية والعنف المنزلي وصحة الغذاء. نجاح هذه المبادرة فتح المجال للتعاون مع منظمة "ميرسي كور"، والعمل معها على مواضيع التوفير والإدارة المنزلية ومناصرة المرأة وصحة المرأة الحامل. وشملت هذه المبادرة مناطق الهرمل وبعلبك وجب جنين ومجدل عنجر وعلي النهري، واستفادت منها 600 امرأة سورية ولبنانية وفلسطينية.
"حلقة نساء عرسال"
منذ العام 2015، بدأت هدى بالعمل على مبادرة "حلقة نساء عرسال" التي وفّرت لـ80 امرأةً في المخيّمات، خلال ستة أشهر، تدريبات تتعلّق بالتوعية على التحرّش الجنسي والزواج المبكر والغذاء الصحي وحقوق المرأة وتمكينها في المجتمع، ورغبت في الحصول على المزيد من الدعم لمبادرتها هذه. وفي أثناء خضوعها لتدريب قيادات نسائية مع جمعية "النساء الآن"، قدّمتها كمقترح للجمعية.
"تخيّلي المسافة التي كنت أقطعها للوصول إلى مركز التدريب، من عرسال إلى شتورة، والتي تستغرق ثلاث ساعات يومياً. فعلت ذلك لمدة سنة كاملة، ولم أغِب يوماً واحداً" تقول هدى. "بعدما حصلت على الموافقة من الجمعية، باشرنا زميلاتي وأنا، وهنّ سيّدة سورية وثلاث لبنانيات، تقديم دروس في التوعية في قلب عرسال. كما عملنا على موضوع التمكين الاقتصادي وتطوير المهارات كشغل الدمى بالصوف. أصبح لدينا فريق إنتاج مؤلّف من 24 امرأةً، تشتغل كل واحدة منهن دميةً في الأسبوع، ونحرص على عملية إعادة التدوير، إذ إنّ حشوة الدمى تكون من الملابس القديمة".
تشارك فاطمة مليص ورجاء المصري في هذه المبادرة. فاطمة امرأة أربعينية تأمل بأن يتطوّر هذا المشروع الاقتصادي لتواصل إعالة عائلتها، فيما تسعى إلى تعليم بناتها الثلاثة ما تعلّمته من خياطة وأعمال يدوية، بالإضافة إلى مشاركتهن مبادئ الدعم التوعوي. "هذه المبادرة أعطتني قوةً، وعرّفتني على حقوقي وواجباتي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. هدى إنسانة مناضلة ومكافحة ومجتهدة، تسعى دائماً إلى أن تتعلّم المزيد لتساعد المرأة في هذا المجتمع".
أمّا رجاء، وهي فتاة عشرينية وأم لطفلين فتقول: "من حسن الحظ أنني تعرفت إلى ‘خنساء القلمون’ كما يسمّونها؛ هذه الإنسانة الرائعة والتي اشتركتُ معها في حلقة نساء عرسال، وهي المبادرة التي أعدّها نقطة تغيير في حياتي. كانت لديّ الخبرات والقدرات، لكنني لم أكن أعرف كيف أوظفها في مكانها الصحيح، فتعلّمت، من خلال هذه المبادرة، عن حقوق المرأة على جميع الأصعدة، وتعلّمت عن لغة الجسد والتواصل الفعّال، وكيف أتمكّن من أن أكون أنثى قياديةً بكل معنى الكلمة".
آمنة حربا، السورية اللاجئة إلى لبنان في العام 2013، والتي تعمل ناشطةً اجتماعيةً منذ العام 2014، فاعلة ضمن "حلقة نساء عرسال". تقول لرصيف22: "تعرّفتُ إلى هدى قبل ست سنوات خلال إحدى ورشات العمل، ولفت انتباهي الشبه بيننا من حيث الطموحات والاهتمامات المشتركة في مجال العمل لنصرة حقوق المرأة وتعزيز دورها في المجتمع. هدى سيدة عظيمة بكل معنى الكلمة ولها بصمة أينما حلّت، قدّمت الكثير للاجئين السوريين منذ قدومهم إلى لبنان".
لأنني ناشطة اجتماعية وأعرف ما يحدث على الأرض، أنقل معاناة اللاجئين وأهل عرسال الذين استضافوهم، وأتحدث عن حالة الفقر التي يعيشونها، وكل ما يتعرّضون له من مآسٍ على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
صوت للّاجئين
لا تفوّت هدى أيّ فرصة للتكلم عن قضايا اللاجئين. "لأنني ناشطة اجتماعية وأعرف ما يحدث على الأرض، حضرتُ العديد من المؤتمرات في لبنان، وكنت أنقل معاناة اللاجئين وأهل عرسال الذين استضافوهم. أحدّثُ المشاركين في تلك المؤتمرات عن حالة الفقر التي يعيشونها، وكل ما يتعرّضون له من مآسٍ على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. كما كنت أحضر أي اجتماع في البلدية تنظّمه الجهات التابعة للأمم المتحدة أو أي من المنظمات، وأتكلم باسم اللاجئين وأهالي بلدتي عن المعاناة التي يقاسون منها".
وتشير هدى إلى أنه خلال فترة وجودها في تركيا، حمّلها أهالي القلمون تفويضاً لتطالب لهم بالمسلتزمات الضرورية من غذاء وماء ومسكن صحي. "والجميع كان يستغرب كيف أنّ لبنانيةً تطالب بحقوق السوريين!".
طموح هدى لا يقف عند حدود جغرافية أو اجتماعية أو نفسية، وسعيها إلى مساعدة المرأة، أي امراة، لا ينضب. فالمرأة، سواء أكانت سوريةً أو لبنانيةً، هي في نظرها مظلومة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين