جوريّة من محافظة حلب، لاجئة إلى لبنان منذ نهاية العام 2012، تقيم في مخيم 014، وهو أحد المخيّمات التي أُنشئت في منطقة المرج في البقاع الغربي لاستقبال آلاف اللاجئين السوريين الهاربين من الحرب في بلادهم. انتقلت إليه مع أفراد عائلتها عام 2016 بعد أن طردهم صاحب المنزل الذي أقاموا فيه بداية لجوئهم.
تخصّصت جورية في قسم الترجمة بجامعة حلب، وعلى الرغم من خبرتها في التدريس كونها كانت معلمة في سوريا، إلاّ أنها لم تجد أي مدرسة أو جمعية تقدم لها فرصة عمل ملائمة، فلجأت للعمل طيلة خمس سنين، في معمل لصنع الحفاضات. وعندما حصلت على منحة جامعية عام 2016، واجهت عائق معادلة الشهادة المدرسية بسبب عدم حيازتها على ورقة الشهادة التي تركتها وراءها في سوريا، إضافة لطردها وعائلتها من منزلهم ولجوئهم إلى خيمة مستأجرة في منطقة المرج، فلم تتمكّن من تحقيق حلمها في الدخول إلى الجامعة، وكان حرمانها هذا مدخلاً لأن تحرص على ألا يتعرّض غيرها، خاصة الأطفال، لتجربة مشابهة.
حرمان جورية من التعليم كان مدخلاً لأن تحرص على ألا يتعرّض غيرها، خاصة الأطفال، لتجربة مشابهة.
الحاجة أمّ... المبادرة
تشير منظمة يونيسف إلى أنّ أعداد اللاجئين السوريين في لبنان بلغت في العام 2018 أكثر من مليون لاجئ مسجل، ونحو 500 ألف لاجئ غير مسجل، فيما يصل عدد الأطفال اللاجئين إلى 630 ألف طفل، تتراوح أعمارهم بين 3 و18 سنة. وبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، فإنّ أقلّ من نصف هؤلاء الأطفال يحصلون على تعليم رسمي. إنّ أسباب هذا المنسوب المرتفع للتسرّب المدرسي كثيرة، لعلّ أبرزها نقص التمويل، عمالة الأطفال، مشكلة عدم توفر الأوراق الثبوتية وظاهرة الأطفال مكتومي القيد. جميع هذه العوامل أقْصَت العديد من الأطفال السوريين في لبنان عن مقاعد الدراسة وجعلت التعليم أحد أحلامهم صعبة المنال.
"تفاجأتُ من عدم وجود مدارس لهؤلاء الأطفال، فجميعهم يقضون النهار في الشوارع"، تقول جوريّة في حديثها لرصيف22، وقد صدمها عدد الأطفال التائهين في أرجاء المخيّم الذي تقطنه 13 عائلة، فيما يصل عدد الأطفال في المخيم إلى حوالي خمسين.
لا المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ولا أي جمعية أو منظمة عمدت لفتح مدرسة أو حتى صف واحد يقي الأطفال اللاجئين شرّ التسكّع في المخيّم. بذلك، أخبرت جورية أهلها بأنها تريد تأسيس مدرسة داخل المخيم: "ليست مدرسة بالمعنى الفعلي، وإنما محاولة لتعليم هؤلاء الأطفال أسس القراءة والكتابة".
من الخيمة التي حولتها جورية إلى مدرسة
بفضل دعم عائلتها، بدأت جوريّة باستقطاب الأطفال من أقربائها، وسرعان ما لاقت هذه المبادرة ترحيباً ورواجاً في أوساط المخيّم كما في المخيّمات المجاورة، فاستقبلت خيمة جوريّة أعداداً متزايدة من الأطفال، لكن الإمكانيات المادية المقتصرة على لوح من الكرتون وحصيرة وطباشير، واضطرار جوريّة إلى مواصلة عملها في معمل الحفاضات، حالا دون تمكنها من استقبال أكثر من 16 تلميذ وتلميذة.
في عام 2018 التحقت جوريّة بدورة تدريبية تهدف لدعم القيادات المجتمعية، مع منظمة "النساء الآن من أجل التنمية". أطلعت جوريّة القيّمين على الدورة على مشروعها فكانوا داعمين بشكل كبير، وبالأخص المدربة البولندية المسؤولة عن صفوف المحادثة باللغة الإنكليزية. "زارت المدربة، واسمها إينغا، خيمتي التعليمية، ونشرت على مواقع التواصل صوراً للمشروع، فجمعت التبرعات لتغطية تكاليف بدل إيجار الخيمة، البالغة شهرياً 300 ألف ليرة لبنانية، إضافة لقيمة القرطاسية اللازمة"، تضيف جورية شارحة عن الدعم الذي حصلت عليه.
لم تعمد أي جمعية أو منظمة لفتح مدرسة أو حتى صف واحد يقي الأطفال اللاجئين شرّ التسكّع في المخيّم. بذلك، قررت جورية تأسيس مدرسة داخل المخيم. "ليست مدرسة بالمعنى الفعلي، وإنما محاولة لتعليم هؤلاء الأطفال أسس القراءة والكتابة"
معلّمة تَدرُس وطالبة تُدرِّس
في هذه الأثناء، تمكّنت جوريّة من العودة إلى مقاعد الدراسة. انتسبت إلى معهد في منطقة الخيارة في البقاع لتتخصّص في التصوير الشعاعي وهي تثابر على تعليم تلامذتها. تزامن تخرّجها، بعد سنتين، مع انتشار جائحة كورونا، وبالتالي مع تبدّل أسلوب التعليم بسبب ضرورات الحظر الصحي ومنع التجمّعات والإقفال العام، فاقتصر عملها على تعليم 10 تلاميذ، فيما تابع الآخرون تحصيلهم العلمي عبر تطبيق واتساب. إلا أنّ تواضع الموارد الإلكترونية المتوفرة وبطء الإنترنت حالا دون تحميل الفيديوهات التعليمية وأربكا الأطفال وأهلهم، فاضطرّت للتوقف عن التعليم بضعة أشهر.
عندما شارف العام 2020 على نهايته، نالت جوريّة فرصة لتطوير مشروعها. "خيمة واسعة غير مأهولة، متداعية إلى حدٍّ ما. جلبتُ بعض الألواح للجدران لأنّ أقمشة السواتر قديمة، والنايلون تفوح منه رائحة بشعة. دهنّا المكان ونظّفنا محيط الخيمة وسكّرنا الحمام القديم وطالبنا بإقامة آخر جديد"، تقول.
إضافة لذلك تعمل جوريّة اليوم ضمن فريق الإغاثة في جمعية "سوا للتنمية والإغاثة"، ما وفّر لها فرصة الحصول على دعم الجمعية لمشروعها فتمكّنت من فتح صف نظامي. "وصلتني مساعدة من أحد الأشخاص بعد أن شاهد منشوراً عن مشروع المدرسة عبر فيسبوك"، وتشرح جورية بأنها بهذا المبلغ حسّنت وضع الخيمة، فأمّنت مقاعد واشترت لوحاً وخزانة وقرطاسية جديدة وألعاباً وأقلام تلوين ومستلزمات التعقيم على أنواعها.
من الأنشطة التعليمية في خيمة جورية
نجاح ودعم واستمرار
"إنجازي الكبير أن ثقتي بنفسي تعزّزت أكثر من ذي قبل"، تقول جورية التي واجهت كل الظروف القاسية التي عانت منها وحقّقت إنجازاً تلو الآخر، وتضيف: "أفتخر بأنّ تلاميذي الآن قادرون على القراءة والكتابة، والفرحة التي أراها على وجوههم تساوي الكثير بالنسبة لي. هناك منهم من التحق بالمدارس الرسمية وهم من المتفوّقين في صفوفهم".
إضافةً للدعم الذي تلقّته من عائلتها، أتتها المساندة من الأصدقاء ومن أهالي التلاميذ الذين طالما شجّعوها رغم عدم حصول أطفالهم على إفادات رسمية تخوّلهم الانتساب للمدارس. ترى جورية بأن على جميع الأهالي الذين لا يستطيعون تعليم أطفالهم في المدارس الرسمية أن يتوجهوا إلى الجمعيات، وإذا لم يتوفر هذا الأمر، فعليهم تعليمهم بأي طريقة كانت، وتصرّ على ذلك بالقول: "بعلمنا فقط نبني هويتنا ونحذف كلمة لاجئ التي اقترنت بنا. يكفي أنّ اللجوء قد وَسَمَ نفسيات الأطفال ولكن لا يجب أن يحدّد مصيرهم".
كلام جوريّة يعيد بعض الأمل لإيمان، والدة طلال (8 سنوات) ونضال (5 سنوات)، وتبدي سعادتها لتعلّم طفليها القراءة والكتابة بفضلها. عائلة إيمان نزحت من محافظة إدلب السورية في العام 2012، وطفلاها مكتوما القيد، ما شكّل عائقاً أساسياً أمام تسجيلهما في المدرسة، فكانت خيمة جوريّة ملاذاً آمناً لهما للتعلّم، وإن بشكل غير معترف به رسمياً، ووسّعت لهما آفاق أحلامهما: طلال يطمح أن يكون محامياً ليدافع عن المساجين، ونضال يرغب أن يصبح أستاذاً مثل جوريّة.
من الأنشطة التعليمية في خيمة جورية
تطمح جورية لأن تواصل تحصيلها العلمي وأن يتوفر الدعم اللازم لمبادرتها كي تكبر وتتوسّع تلبيةً للإقبال الكبير الذي تلقاه، فهي لا تستطيع أن تلبي كل طلبات الأهالي والتلاميذ، وتتمنى أن تتولى جمعية ما عملية التعليم في المخيّم فتساعد التلاميذ على الانتساب إلى مدارس رسمية.
تقف جورية في الصفوف الأمامية لمساعدة الضعفاء والمحرومين، وللدفاع عن حقوق منتهكة، بأداة واحدة هي التعليم. أثبتت أن التعليم هو من أنجح الاستثمارات، لأن عوائده لا تكون محصورة بالفرد نفسه، بل تعمّ المجتمع، فتمنحه وعياً وأمناً وسلاماً، بل خيمة تقيه كل شرّ
جوريّة ... "ملالا" سورية
"إنني أتشرف بالاحتفال بعيد ميلادي الثامن عشر مع فتيات سوريات شجاعات وملهمات. وأنا هنا نيابةً عن 28 مليون طفل أبعدهم الصراع المسلّح عن صفوفهم المدرسية. فشجاعتهم وتفانيهم لمواصلة دراستهم في ظروف صعبة يلهمان الأشخاص في جميع أنحاء العالم، ومن واجبنا الوقوف إلى جانبهم". هذا ما صرّحت به ملالا يوسف زاي، خلال افتتاح مدرسة "ملالا يوسف زاي أول غيرلز" في سهل البقاع الغربي بلبنان عام 2015، وهي مخصّصة لتعليم الفتيات السوريات اللواتي يعشن في مخيّمات اللجوء.
ملالا هي أصغر حائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2014. أصيبت بجروح خطيرة إثر تعرّضها لمحاولة اغتيال تبنّتها حركة طالبان، في بلدها الأم باكستان في عام 2012، بسبب سعيها لتكريس حق الفتيات في التعلّم.
قد تختلف الأمكنة والأزمنة والأسماء، بين جورية وملالا، لكن الـ"لا" التي تطلقانها واحدة: لا للجهل، لا للحرمان، والـ"نعم" التي تعملان لأجلها واحدة: نعم للعِلم، نعم للمعرفة.
ملالا وجورية وغيرهما يقفن في الصفوف الأمامية لمساعدة الضعفاء والمحرومين، وللدفاع عن حقوق منتهكة، بأداة واحدة هي التعليم. أثبتن أن التعليم هو من أنجح الاستثمارات، لأن عوائده لا تكون محصورة بالفرد نفسه، بل تعمّ المجتمع، فتمنحه وعياً وأمناً وسلاماً، بل خيمة تقيه كل شرّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.