"رفعت قضيةً في مكتب العمل، وهناك تعذّر صاحب الشركة التي أعمل فيها بأني كنت لا أزال تحت التجربة، على الرغم من أن لدي خبرةً مسبقةً، ولم أتّفق معه أساساً على ذلك". يتحدث الصحافي اليمني مبارك اليوسفي (25 عاماً)، بمرارة حول التجربة التي عاشها في إحدى شركات الإنتاج في صنعاء، إذ أقدم رب العمل على طرده بين غمضة عين وانتباهتها.
عمل اليوسفي ضمن طاقم عمل الشركة طوال خمسة أشهر من دون عقد، فتنصل صاحب العمل من مسؤولياته المالية تجاهه: "معظم جهات العمل في اليمن لا توقّع عقد عمل مع الموظف، وإن حصل ذلك تكون الشروط مجحفةً وتصب في مصلحة المؤسسة فحسب، وقد طالبت في البداية بتوقيع عقد، وكان صاحب العمل يماطل ويتعذر في كل مرة، وكنت بحاجة إلى العمل وقتها".
يضيف اليوسفي في حديثه إلى رصيف22: "تم الاستغناء عني من دون إنذار مسبق، وبطريقة تعسفية. قرر صاحب العمل البحث عن بديل من أجل التهرب من أي التزامات أخلاقية تجاهي فحسب، وهذا ما يفعله كثيرون؛ استغلال الموظفين لفترة محددة، ثم البحث عن بديل، وهكذا. وحين تقدمت بشكوى إلى مكتب العمل، طُلب مني إثبات أني لم أكن تحت التجربة من خلال إحضار شهود من الزملاء. لم أكن أريد التسبب لأحد منهم بأي مشكلات، فانتهت الشكوى هنا".
تتضمن مواد قانون العمل اليمني ما يحفظ للعامل حقوقه ويحميه من الاستغلال والتعسف، لكن مجريات واقع البلاد جعلته حبراً على ورق.
ولا تختلف قصة هناء قاسم (23عاماً)، عن مبارك، فهي الأخرى تم الاستغناء عنها من قبل شركة تسويق إلكتروني في صنعاء، من دون أن تنهي شهراً واحداً على الأقل في وظيفتها.
"أسوأ تعامل وجدته في تلك الشركة، ولهذا أحاول نسيان الأمر. في البداية لم أهتم بوجود عقد لأني لم أشعر بارتياح في العمل. لا يوجد توصيف وظيفي، ولا مؤشرات لأي عمل مؤسسي، وأوكلوا إليّ مهاماً غير منطقية. كيف لشركة أن تطلب موظفين وفي ظرف أسبوعين تنهي عملهم؟ كان الأفضل رفض التوظيف في أثناء المقابلة!"، تقول الفتاة التي تعمل مصممة غرافيك.
تكفل المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الانسان، لكل شخص الحق في العمل، وفي حرية اختيار عمله، وفي شروط عادلة ومرضية، وفي الحماية من البطالة، وينص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، على "الحق في العمل، الذي يشمل لكل شخص الحق في أن تتاح له إمكانية كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية، وتقوم باتخاذ تدابير مناسبة لصون هذا الحق".
وفي اليمن، تتضمن مواد قانون العمل ما يحفظ للعامل حقوقه ويحميه من الاستغلال، أو أي شكل من أشكال التعسف، لكن مجريات واقع البلاد جعلته حبراً على ورق، إذ يضج مكتب العمل في عاصمة البلاد بشكاوى العمال من الاستغلال والفصل التعسفي وسلب الحقوق.
الجهل بالقانون
تكمن معاناة عمال القطاع الخاص في اليمن، في تطبيق قانون العمل، كما توضح الدكتورة إفتكار المخلافي، وهي أستاذة مشاركة في كلية الشريعة والقانون في جامعة صنعاء: "نجد كثيرين من أرباب العمل لا يبرمون عقوداً مع العمال، والسبب في ذلك اعتقادهم أنه إذا لم يتم إبرام العقد، لن تكون عليهم التزامات قانونية، فيستطيعون إنهاء العمل متى أرادوا، على الرغم من أن القانون نص على أنه في حال عدم وجود عقد ينظم العلاقة بين العامل ورب العمل، فإن العامل يمكن أن يثبت حقوقه بأي طريقة من طرق الإثبات، كإحضار شهود".
معظم جهات العمل في اليمن لا توقّع عقد عمل مع الموظف، وإن حصل ذلك تكون الشروط مجحفةً وتصب في مصلحة المؤسسة فحسب، وقد طالبت في البداية بتوقيع عقد، وكان صاحب العمل يماطل ويتعذر في كل مرة، وكنت بحاجة إلى العمل وقتها
وترى المخلافي أن جهل كثيرين من أرباب العمل بالقانون، قد يكون سبباً في عدم إبرامهم عقوداً، كما تظل الإشكالية هي فترة التدريب، على الرغم من أن القانون نص في المادة (28)، على أنه عند توقيع عقد العمل يجوز إخضاع العامل لفترة اختبارية لا تزيد عن ستة أشهر لدى صاحب العمل نفسه، ويُنَص على ذلك في العقد، ولا يجوز وضع العامل تحت الاختبار أكثر من مرة في المهنة نفسها. وتضيف: "القانون جعل فترة الاختبار اختياريةً، إذ نص على أنه يجوز لصاحب العمل وضع العامل تحت فترة اختبار، بمعنى أن الأمر يخضع لتقدير صاحب العمل".
كذلك ترى المخلافي أن جهل العامل للقانون يجعله عرضةً للاضطهاد، فقانون العمل اليمني يحدد بدقة مسألة إنهاء عقد العمل، ومتى يكون للعامل الحق في إنهاء العقد، ومتى يجوز لأي من طرفي العقد إنهائه بشرط إشعار الطرف الآخر.
استغلال وتعسف
تركت المعلمة لميس فؤاد (35 عاماً)، عملها في التدريس في إحدى مدارس صنعاء، نتيجة استغفال الإدارة لها على حد وصفها: "قدّمت استقالتي لأني شعرت بظلم كبير بخصوص لوائحهم، إذ تجاهلوا خبرتي وحصولي على تقييم ممتاز العام الماضي، واستهلكوا طاقتي إلى أقصى حد، وحين عبّرت عن استيائي طلبوا من الموظفين الآخرين الكذب بشأن رواتبهم، فشعرت بأنهم استغفلوني وبأنني قبلت براتب أقل مما أستحق".
ولعلّ أبشع صور معاناة الموظفين هي تعرضهم للاستغلال، كما حدث مع الموظفة علا الخليدي (28 عاماً)، التي تقول لرصيف22: "أعمل في شركة إنتاج إعلامي كمدخلة بيانات، ولا أعرف ما هي وظيفتي بالضبط، إذ أُكلَّف بأشياء مختلفة، ولا أتذمر بل أنفذ بكل إتقان، ومع ذلك بات الاستغلال واضحاً، فالمدير يرفض نسب أعمالي إليّ بحجة أني أعمل لديه وأتقاضى راتباً مقابل ذلك، والعقد لا ينص على شيء من هذا".
تشاطرها هند اليافعي (24 عاماً)، وهي مصممه غرافيكس تعمل في شركة تسويق إعلاني، هذه المشكلة، وتقول: "أحياناً تُطلب مني أعمال فوق طاقتي، ولا ينتهي الأمر هنا، بل أعمل من المنزل أيضاً، وأقوم بأعمال عاجلة ومن دون أجر أو حتى بدل إضافي ولو رمزي، وما يجعلني أصبر أن هذا العمل متاح أمامي وإلى الآن لم أجد فرصةً أفضل، كما أنني أُعدّ كبيرة المصممين، وأي مصمم آخر لا بد أن يعمل تحت إشرافي، وهو ما يعزّيني".
أحياناً تُطلب مني أعمال فوق طاقتي، وأقوم بأعمال عاجلة ومن دون أجر أو حتى بدل إضافي ولو رمزي.
أما التعسف الوظيفي، فيتضح جلياً في مشكلة المهندس بسام الأشول (38 عاماً)، وهو موظف في شركة ناشئة. يتحدث إلى رصيف22 قائلاً: "أعيش قلقاً نفسياً. لدي أسرة أعيلها والتزامات عديدة كإيجار المنزل، وأقساط المدارس، وعملي الحالي غير مستقر، لا يكاد يمر شهر من دون أن يخرج أحد الموظفين، وعند خروج أحدهم أشعر بأنني التالي، كما أن مالك الشركة يرفض توقيع عقود معنا، لهذا لست متأكداً من بقائي فيها لشهر قادم، وقد لا أستطيع الحصول على حقوقي في حال خروجي منها".
غياب دور الدولة
ترجح المخلافي سبب عدم إبرام العقود إلى أنها أصبحت ثقافةً مجتمعيةً، وتشير إلى أن اليمنيين اليوم بشكل عام يبحثون عن وظائف في ظل البطالة المتزايدة، ولهذا لا يكترثون إن أبرموا عقداً أو لا، فالمهم لديهم أن يحصلوا على أجر، ولا يفكرون في الدفاع عن حقوقهم أو المطالبة بها. أما أرباب العمل، فلا يبرمون العقود تهرباً من المسؤولية، ومع جهل العاملين بالقانون، يُضطهَدون من قبل أرباب العمل، سواء في الأجور أو الفصل التعسفي أو تحميلهم أعمالاً إضافيةً من دون احتساب أجر.
وعن معالجات هذه المشكلة، تؤكد المخلافي على ضرورة وجود رقابة ومتابعة للقطاع الخاص من قبل الدولة. "غياب الدور الرقابي لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وأيضاً غياب دور نقابة العمال والاتحاد العام للغرف التجارية ممثل أرباب العمل، هذه كلها تساعد على غياب حقوق العمال، ولو وجدت الرقابة لكان الوضع مختلفاً، ولكانت مؤسسات القطاع الخاص التزمت بأحكام القانون، فضعف هذه الجهات وخضوعها لأرباب العمل يجعلانها لا تقوم بالدور المنوط بها في حماية حقوق العمال وعدم تركهم فريسةً لصاحب العمل".
أعمل في شركة إنتاج إعلامي كمدخلة بيانات، ولا أعرف ما هي وظيفتي بالضبط، إذ أُكلَّف بأشياء مختلفة، ولا أتذمر بل أنفذ بكل إتقان، ومع ذلك بات الاستغلال واضحاً، فالمدير يرفض نسب أعمالي إليّ بحجة أني أعمل لديه وأتقاضى راتباً مقابل ذلك، والعقد لا ينص على شيء من هذا
وفي هذا السياق، يقول لطفي أحمد، وهو نائب مدير علاقات العمل في مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل في أمانة العاصمة: "المشكلة التي نواجهها، هي عدم وجود وعي في الثقافة العمالية عند كثير من العمال، وكذا عند بعض أصحاب العمل. قانون العمل رقم 5 لسنة 1995، والمعدل في عام 1997، هو ميزان ما بين العمال وأصحاب العمل، ولكن الجهل بالقانون والمستحقات القانونية يضع العامل تحت رحمة صاحب العمل واستغلاله".
ويشير أحمد إلى أنه من المفترض على العامل في حال تعرضه لأي استغلال، أن يتقدم بشكوى إلى مكتب العمل، ليتم طلب صاحب العمل وإنصافه وفقاً للقانون، وفي حال تعنت صاحب العمل أو رفض التجاوب مع المكتب، يُحال إلى المحكمة العمالية للنظر في القضية، وإصدار حكم بمستحقات العامل القانونية، سواء مكافأة نهاية الخدمة، أو رصيد الإجازات السنوية، أو مرتب شهر مقابل إنذار، أو التعويض عن الفصل التعسفي.
سبب الاستغلال بشكل أساسي هو جهل العمال بحقوقهم.
بدوره، يرى المحامي زياد الدبعي، أن مناصرة العمال وقضاياهم لا يمكن أن تتم إلا في حال عرف العامل حقوقه، لأن سبب الاستغلال بشكل أساسي هو جهل العمال بحقوقهم.
"من المفارقة أن كثيرين من المستثمرين عدّوا قانون العمل في اليمن من القوانين الطاردة للاستثمار، بسبب وقوفه مع العمال، لكن هناك بعضاً من جوانب القصور أو الضعف فيه، يتم استغلالها من قبل أرباب العمل، مثل استغلال بعضهم لفترة التجربة، وإبرام عقود مؤقتة لمدة ستة أشهر، وبعدها يعودون لإبرام عقود جديدة، فيظل العامل من دون تثبيت"، يضيف الدبعي.
ويبين المحامي أنه وفقاً لقانون العمل، لا يجوز إخضاع العامل لفترة اختبارية تزيد على ستة أشهر لدى رب العمل نفسه، ولا يجوز وضع العامل تحت الاختبار أكثر من مرة في المهنة نفسها، لكن بعض أرباب العمل يستغلون موادّ في القانون، منها المادة 29 التي تنص على التالي: "تُعدّ مدة العقد غير محددة للعامل اليمني، ويجوز تحديدها بموافقة الطرفين". أيضاً توجد في القانون أحكام خاصة بإذعان الطرف الضعيف، وهو العامل، للطرف القوي، لأنه يكون بحاجة إليه. "القانون المدني اليمني أعطى حقاً للقاضي بإلغاء أي شرط من شروط الإذعان وتعديله، بمعنى أنه ترك التقدير للمحكمة".
باتت مشكلة استغلال رؤوس الأموال للموظفين في اليمن أمراً روتينياً، قَبِل به الموظف أو رفض، على الرغم من وجود قانون يحميه، إلا أن تطبيقه يحول دون نيله حقوقه كاملةً، أو منع اضطهاده، في بلد صارت الحرب جزءاً من يوميات مواطنيه، وغابت فيه نقابة حملت لأعوام عدة مشكلات العمال، أما اليوم فلا تحمل سوى اسمهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...