يسابق الشاب العشريني وهيب جلال (22 عاماً) شروق الشمس عند كل صباح، قاطعاً مسافات طويلة مشياً، حتى لا يتأخر عن موعد العمل. يبدأ دوامه الساعة السابعة صباحاً في ورشة لإصلاح الألومنيوم بمدينة إب وسط اليمن. ويخشى من التأخر عن الموعد المحدد له في العمل، خوفاً من التعرض للإهانة والتوبيخ، بالإضافة إلى خصم من راتبه الشهري، ومن ثم الطرد... هذه الأسباب تدفعه للاستيقاظ باكراً برغم البرد القارس في شتاء اليمن.
يقول وهيب: "بعد أن أكملت الثانوية العامة في عام 2020، تمكنت من الحصول على فرصة للعمل في ورشة لإصلاح الألومنيوم".
ابتهج فور لحاقه بالعمل. لقد بات يعتمد على نفسه، ويوفر تكاليف الدراسة، ويستطيع الآن مساعدة عائلته كما كان يتطلع.
الورشة هي الجحيم
لم يتوقع وهيب أن ابتهاجه في العمل سيتحول إلى ألم وحزن، لأنه كان لا يعرف طريقة تعامل أرباب العمل مع العاملين والموظفين. بمرور الأيام الأولى في العمل، تحولت السعادة إلى تعاسة، فالحرب في اليمن غيرت نظرة أرباب العمل إلى العاملين، فباتوا يستغلونهم في ظل قوانين لا تحميهم، وشبه انعدام لفرص العمل اللائقة.
يشدد وهيب على أن مالك الورشة حولها إلى "جحيم"، يقول: "كرهت الحياة، وعشت أشهراَ في الجحيم، وتحولت أيامي إلى مشقة وضيق، لا يكاد يمر يوم من دون التفكير بمغادرة العمل".
الخوف والخوف والخوف... هو ما يعتمل في صدره، ويدفعه للاستيقاظ باكراً، برغم البرد القارس في شتاء اليمن، وبرغم الاستغلال، والإساءة المتوقعة من صاحب العمل
ويضيف: "إن تغيبتُ يوماً، يخصم رب العمل من راتبي أجر يومين ويمنعني من الاستراحة المحددة لي في الظهيرة، ويشغلني بأعمال خارجة عن العمل. حاولت أن أتعلم المهنة بشكل احترافي كي يتسنى لي البحث عن فرصة أخرى، لكنه يمنع مشاركتي في تفاصيل العمل".
ويؤكد أن صاحب العمل "يسرق" من راتبه بمبررات واهية، مثل خصم جزء من أجره بحجة عدم وجود عمل.
"إذا كان تعامله معي قاسياً، والعائد المادي مناسباً فلا بأس، ولكن مع الأسف كان راتبي نحو 50 ألف ريال أي ما يعادل نحو 70 دولاراً أمريكياً، وهو لا يكفي حتى لشراء أبسط الاحتياجات الأساسية"، يقول وهيب.
حسرة على أيام العمل
الشاب عصام يشكو كذلك من استغلال القطاعات الخاصة للموظفين في اليمن، وهو يعمل في إدارة الموارد البشرية في أحد المولات التجارية في صنعاء منذ أربع سنوات. يتقاضى 100 ألف ريال يمني شهرياً أي ما يعادل نحو 150 دولاراً بسعر صرف الدولار في المناطق الواقعة تحت سيطرة سلطات الحوثيين، غير المعترف بها دولياً.
ينحدر عصام (33 عاماً) من ريف مدينة تعز. منذ أن أكمل دراسته الجامعية في قسم إدارة الأعمال بجامعة تعز تنقل بين العديد من المحافظات اليمنية، بحثاً عن العمل، إذ اضطرته الظروف المعيشية القاسية إلى البحث عن عمل لتأمين الغذاء، وتوفير متطلبات الحياة، وتكاليف الزواج، بالإضافة إلى إعانة عائلته.
يتحسر عصام على السنوات التي قضاها في العمل بلا فائدة، فالمبلغ الذي يحصل عليه مقابل الوظيفة لم يكد يفي بتوفير احتياجاته الخاصة، والمساهمة في تأمين الغذاء لأفراد عائلته، مما اضطره إلى البقاء عازباً حتى هذا العمر.
ويضيف: "العمل في القطاعات الخاصة غير مجدٍ، خصوصاً في ظل خفض الرواتب واستغلال حاجة الموظفين وشيوع حالة من الجشع لدى ملاك الأعمال".
وخلال السنوات الماضية، أدت الحرب المستمرة في البلاد إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والتي بدورها انعكست سلباً على حياة المواطنين، بمختلف مجالات حياتهم اليومية، خصوصاً الدى شريحة ذوي الدخل المحدود من العمال والفلاحين، وصولاً إلى الموظفين الحكوميين.
وأثقلت الأزمات والحرب كاهل المواطن اليمني، إذ أصبح توفير تكاليف المعيشة اليومية أصعب المهام التي يقوم بها رب الأسرة، في ظل الارتفاع القياسي في أسعار السلع الأساسية، وعدم وجود أي دخل مادي منتظم، وخاصة لدى فئة عمال المهن اليومية.
ويشهد اليمن أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وتشير أحدث التقديرات إلى أن نحو 50 ألف شخص يعيشون حالياً في ظروف تشبه المجاعة، إذ يشتد الجوع في المناطق المتضررة من الصراع، ويحتاج ما يقرب من 21 مليون شخص، أي أكثر من 66% من إجمالي عدد السكان، إلى مساعدات إنسانية، وفقاً لتقدير الأمم المتحدة.
"اختلال بنية العمل"
لم تكتف الحرب التي تعصف بالبلاد منذ سبع سنوات بتدمير البنية التحتية، والاقتصاد الوطني للبلاد فحسب، بل وصلت كذلك إلى تدمير العلاقات والسلوكيات، من بينها ما يتعلق بأرباب الأعمال والموظفين، في ظل غياب القوانين والتشريعات، التي من شأنها حفظ حقوق العمال والموظفين بمختلف القطاعات الحيوية.
محمود تنقل بين العديد من الأعمال بمختلف المحافظات اليمنية قبل اندلاع الحرب في اليمن.
يتذكر محمود قايد (40 عاماً) أيام العمل قبل اندلاع الحرب: "رعى الله أيام زمان، كانت الشركات الخاصة تحترم الموظف، الحرب دمرت كل شيء جميل في البلاد".
"الآن إذا طالبت بحقوق أو مستحقات أو رفع الراتب يقول لك رب العمل همتاك عمال كثر غيرك، ويستغني عنك لأتفه الأسباب. لا نقابات عمال، ولا قوانين، ولا دولة تنظم العلاقات بين أرباب العمل والعاملين"، يقول محمود.
ويرى أن "الحرب نزعت الرحمة من قلوب رجال الأعمال".
في سياق متصل يعلق رئيس مركز الإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر: "الحرب في اليمن خلقت تحديات كبيرة أمام القوى العاملة، إذ تم تسريح مائة ألف من العاملين في قطاعات مختلفة، وحدث تغير هيكلي في بنية العمل في البلاد. الكثير من العنال التحقوا في قطاعات عسكرية أو قطاعات غير منظمة... ".
ويصيف: "الحرب التي تعصف بالبلاد منذ سبع سنوات أوجدت أيضاً سلوكيات سلبية أثرت نفسياً على العاملين وأرباب العمل، فقطاع العمالة يعيش مرحلة اختلال واضحة".
"الآن إذا طالبت بحقوق أو مستحقات أو رفع الراتب يقول لك رب العمل في غيرك كثير... لا نقابات عمال، ولا قوانين، ولا دولة تنظم العلاقات بين أرباب العمل والعاملين"
ويوافقة في الرأي، الصحافي معين النجري، الذي تابع الشأن الاقتصادي في البلاد لسنوات، يقول : "بسبب الحرب وتأثيرها خرجت معظم القوى العاملة من مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية بعد انقطاع المرتبات، وتوجهت الغالبية إلى القطاع الخاص".
ويتابع: "في ظل عدم امتلاك الكثيرين للخبرة من أجل العمل في الوظائف المهنية التي تتطلب الاحتراف، لم يتبق أمامهم إلا الوظائف البسيطة التي لا تتطلب خبرة، أو خبرة متدنية يمكن اكتسابها بقليل من التدريب".
ويكمل النجري: "وجد أرباب العمل أمامهم مئات الآلاف من الأيدي العاملة المحتاجة للمال، والتي ستقبل بأي راتب، وهذا ما دفع الكثير من أرباب العمل في القطاع الخاص لتخفيض الأجور نحو 50% في الشهر، مقابل ثماني ساعات عمل يومياً، وستة أيام في الأسبوع".
العلاقة تحكمها العادات والمزاجية.
ويزيد: "لا توجد قوانين أو سياسات واضحة تنظم العلاقات بين العمال وأرباب العمل، للأسف الشديد العلاقة تحكمها العادات والمزاجية، وغالباً يمكن القول إن هذا استغلال".
ويرى أن ثمة إجراءات يمكن اتخاذها للحد من استغلال العمال في اليمن، تكمن في "وضع حد أدنى للأجور، وإلزام أرباب العمل بتوقيع عقود مع العمال، ومنح العامل نسخة من العقد، وإعادة تفعيل دور النقابات والجمعيات".
ويشدد نصر على ضرورة إيجاد بنية للحماية الاجتماعية تضمن حق العامل، وحق رب العمل، والحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها قاعدة أساسية، بالإضافة إلى تفعيل دور الجهات الرسمية المعنية بتنظيم هذه العلاقة، وإبعادها عن الفساد المتوغل فيها، وتقوية دور النقابات في الدفاع عن العمال، وإيجاد آليات واضحة للعمل.
ويختم نصر: "يجب وقف الحرب التي تسببت بمضاعفة هذه المشكلات، وأفضت إلى اضطراب العلاقة بين أرباب العمل والعمال في اليمن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...