"قلبي يرقص من الفرحة"... كلمة نكررها جميعاً في مناسبات عدة، فتستجيب أجسادنا لقلوبنا، ونرقص على نغمات الموسيقى، أو حتى من دونها، لنعبّر عن فرحنا. نرقص في الأفراح، وأعياد الميلاد، وحفلات الخطوبة والسُّبوع، وحتى في الانتخابات.
"غصب عني أرقص"، كما غنّى محمد منير.
الحياة بسيطة، أو هكذا اعتقدنا. لكن مؤخراً، قامت الدنيا على مدرّسة من المنصورة في مصر، بعدما انتشر مقطع فيديو لها وهي ترقص مع زملائها المدرّسين في حفلة نيلية ترفيهية، كالنار في الهشيم. حُرمت المدرّسة من عملها، وأصبحت حكايتها على كل لسان، ونهش المجتمع سمعتها، وكأن الرقص تحوّل فجأةً إلى "قضية شرف".
حُرمت المدرّسة من عملها، وأصبحت حكايتها على كل لسان، ونهش المجتمع سمعتها، وكأن الرقص تحوّل فجأةً إلى "قضية شرف".
الرقص في مصر القديمة
الرقص ليس وليد هذا العصر، بل موجود منذ القدم، كما يؤكد أساتذة الرقص الشعبي، وتشير أيضاً الصور الموجودة على جدران المعابد.
في حديث إلى رصيف22، يقول الدكتور تامر يحيى عبد الغفار، وهو متخصص في مجال الرقص الشعبي، والتعبير الحركي: "أغلب الكتب العربية المكتوبة عن التاريخ المصري القديم، تخفي الرقص في مصر القديمة بمعناه الحقيقي، وكل الكتب الإنكليزية المكتوبة عن الرقص المصري القديم فيها أخطاء كبيرة، ولكنها تؤكد أنه كانت هناك مكانة كبيرة للرقص في مصر القديمة، وكان موجوداً في مناسبات عدة، مثل شمّ النسيم، إذ تخرج السيدات في منطقة الدلتا صباحاً، إلى الشارع، ومعهن دمية صغيرة، ويحرّكنها بإيقاع معيّن، وهذه الحركة كما نسميها حالياً هي ‘هز الوسط’، وهي تيمّنٌ بالملك، أو الآلهة ‘باستت’ التي كانت تمسك بيدها أداةً إيقاعيةً هي الشخليلة، وعند تحريكها كان يهتز الوسط، وهذه هي البداية الأولى لحركات الرقص".
من الصور التي تظهر الرقص في مصر القديمة
ويضيف الباحث في التراث الشعبي، أيمن عثمان، في هذا السياق: "الرقص عند المصريين القدماء كان جزءاً لا يتجزأ من الممارسة الدينية، وكان موجوداً في الاحتفالات القومية، وأعياد الحصاد، والجنازات، والأفراح، ولم يكن يشبه الرقص الحالي، إذ طبقاً لما رُسم على جدران المعابد، كان رقصاً إيقاعياً. وبعد انتهاء الدولة المصرية القديمة، فُرضت على المصريين ثقافات مختلفة، وبدأ يظهر رقص خاص بالبطالمة الرومان، وكان مختلفاً تماماً عن الرقص المصري".
وفي كتاب "الرقص المصري القديم"، للكاتبة إيرينا لكسوفا، نقرأ: "يتكون الرقص المصري القديم من سلسلة من المناظر، يحاول الراقص من خلالها عرض تشكيلة واسعة من الحركات، وقد رقص الرجال والنساء في مجموعات، وذلك برشاقة وانسجام، وكانت الفتيات يرقصن وهنّ يعزفن على بعض الآلات الموسيقية، مثل الطنبور والمزمار والقيثارة. أما الرجال، فكانوا يرقصون دائماً بهمة ونشاط، وأقدامهم ثابتة على الأرض".
كما سردت الكاتبة عدداً من أنواع الرقص، منها الحركي، والرياضي، والموسيقي، والجنائزي، والدنيوي، والديني، والتمثيلي، والحربي، والزوجي.
دولة العوالم
يتحدث أيمن عثمان عن الرقص في العصور الحديثة بقوله: "في العصور الحديثة بدأ الرقص ينقسم إلى الرقص الذكوري والأنثوي. الذكوري فيه نوع من الخشونة في الأداء، طبقاً لطبيعة أعمال الرجل مثل التحطيب، بينما الرقص الأنثوي يعتمد على الإثارة، وكان يتم في الأماكن المغلقة بعيداً عن أعين الرجال، حتى العازفون في تلك الأماكن كانوا كفيفين، كي تأخذ المرأة حريتها. في نهاية المطاف، الرقص هو أسلوب للتنفيس والتعبير عن البهجة والفرح والسعادة، وهو أمر خاص جداً".
الرقص عند المصريين القدماء كان جزءاً لا يتجزأ من الممارسة الدينية، وكان موجوداً في الاحتفالات القومية، وأعياد الحصاد، والجنازات، والأفراح
ويضيف الباحث: "خلال القرن التاسع عشر، هيمنت دولة العوالم، أو دولة الراقصات، ومن أعلامها الراقصة شفيقة القبطية، التي كان لها سلطان كبير. كان فن العوالم مهيمناً على الطبقة الحاكمة لمصر، وكان يتابع أنشطته البهوات والباشاوات وعلية القوم. وقبله، حين جاءت الحملة الفرنسية على مصر، بدأت تظهر فكرة النوادي الليلية والسهرات، والشوارع المخصصة للدعارة والبغاء، القائمة على سيدات مصريات أو من جنسيات أخرى. واستمرت دولة الغوازي والعوالم حتى فترة العشرينيات من القرن الماضي، ومن الأمثلة الدالة على سطوته، حصول خلاف ذات مرة بين الراقصة شفيقة القبطية، وبين الخديوي عباس حلمي، بسبب تشابه موكبيهما، وتدخل الإنكليز لنصرة الراقصة".
من الصور التي تظهر الرقص في مصر القديمة
الأديان السماوية والمرأة
وعن اختلاف النظرة إلى الراقصة، من العصور القديمة إلى الآن، يقول عثمان: "تغيّر الأمر مع بداية اضمحلال العبادات الوثنية، وظهور الأديان الثلاثة في مصر، من اليهودية والمسيحية ثم الإسلام، لأن هذه الأديان توجهت للحفاظ على المرأة، وإبعاد النظرة الدونية والاستباحية عنها، والمناداة بالاحتشام، والتأكيد على خصوصية المرأة وجسدها، والسعي إلى تحررها من أن تكون سلعةً، أو يتم الاستمتاع بها".
ويضيف أستاذ الرقص والألعاب الشعبية في أكاديمية الفنون، الدكتور حسام محسب، في حديث إلى رصيف22: "تمارس المجتمعات الرقص والفنون منذ سنوات طويلة، ولكن دائماً ما يمارَس الرقص كعمل جماعي. فحتى الآن، ترفض مجتمعاتنا الشرقية، ولا تقبل فكرة ممارسته كفعل أحادي، وما زالت الراقصة توصم بكل الكلمات التي لا نقبلها، ويكفي أنها تُلقّب بـ’الغازية’، التي ينهش الرجال جسدها، وينظرون إليها نظرةً جسديةً بحتة، وعلى الرغم من ذلك يهرولون وراءها لاهثين لقضاء وقت ممتع".
رئيس قسم فنون الأداء في المعهد العالي للفنون الشعبية، أضاف: "الوضع قديماً كان أسهل، فكانت الفتاة تستطيع أن تلتحق بمعاهد الفنون، وكانت ترتدي ما يناسبها، لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعندما بدأت التيارات الدينية تأخذ متّسعاً في المجتمع، تغيّر الوضع، وأصبحنا ننظر إلى غير المحجبة على أنها مسيحية، وانتشر الحجاب بأشكاله المختلفة، وأصبحنا نسمّي الأشياء بمسميات مختلفة، وبتنا ننظر إلى المرأة على أنها جسد فحسب، والراقصة أياً كان نوع الرقص الذي تمارسه، تتعرض للاضطهاد والضغوط من المجتمع كله".
حتى الآن، ترفض مجتمعاتنا الشرقية، ولا تقبل فكرة ممارسته كفعل أحادي، وما زالت الراقصة توصم بكل الكلمات التي لا نقبلها، ويكفي أنها تُلقّب بـ’الغازية’، التي ينهش الرجال جسدها، وينظرون إليها نظرةً جسديةً بحتة، وعلى الرغم من ذلك يهرولون وراءها لاهثين لقضاء وقت ممتع
حسام محسب، تحدث عن تشدد المجتمع، وقال: "مع ازدياد الأزمات الاقتصادية، بتنا نضيّق الخناق على بعضنا البعض، والفعل الذي لا يستحق نزيد عليه ونضخّمه، وغاب الدور التوعوي الذي يمكن أن يقوم به الإعلام. فبدلاً من أن ننظر إلى الرقص على أنه فن حركي له رسالة، بتنا نراه عاراً ووصمةً، كما أن الأفلام لها دور كبير في ما يحدث، فهي رسّخت النظرة السيئة إلى الراقصة في المجتمع، فبتنا نراها سهلةً ومستباحةً".
وتميّز الدكتورة سمر سعيد، وهي أستاذة الرقص في المعهد العالي للفنون الشعبية، بين الرقص الشرقي، الذي اعتادت المرأة المصرية تأديته داخل المنازل، وفي الاحتفالات العائلية فحسب، ومن دون حضور الرجال، وبين الرقص الشعبي الذي يؤدّى في بعض المجتمعات، مثل البدوية، ضمن الاحتفالات الشعبية، من دون إظهار وجه المرأة، كي لا يعرفها أحد.
وتضيف سعيد في حديثها إلى رصيف22: "عندما تشترك المرأة في الفرق الشعبية لتؤدي الرقص الشعبي، فهي مهنة كأي مهنة، ومنذ أن بدأت فرقة رضا للرقص الشعبي في خمسينيات القرن الماضي، واشتركت فيها الفنانة فريدة فهمي، بموافقة والدها، وكانت حينها طالبةً جامعيةً، تغيّر فكر المجتمع في ما يخص مشاركة المرأة في مثل هذه الفرق التي تؤدّي فناً يعبّر عن المجتمع المصري، وتساهم في نشر الثقافة المصرية حول العالم".
وترفض وكيلة المعهد العالي للفنون الشعبية، الربط بين تغيّر نظرة المجتمع للرقص والتيارات الإسلامية، وتقول في هذا الصدد: "التيار الديني ليست له أي علاقة، ودائماً ما كان من عادات وتقاليد المجتمع المصري أن تحتفل النساء من دون الرجال، والرجال يحتفلون في الساحات. أما نظرة المجتمع نحو من يمتهنون الرقص، فلا أرى أنها تغيّرت على مر العصور".
بدأ الرجل يحاكم المرأة مع تزايد رغبته في التحكم بها، وارتبط الرقص بفكرة الشرف.
ربط الرقص بالتخيّلات الجنسية
الرقص هو شرح لمشاعر وأحاسيس داخلية، وترجمتها على شكل حركة، كما يقول تامر عبد الغفار، فنقول قلبي رقص من الفرحة، كما يقول لاعب الكرة: "أنا رقّصت الكرة".
ويضيف الأخصائي أن المشكلة تكمن في تغيّر نظرة المجتمعات، فقديماً كان الرقص مرتبطاً بالمرأة البارعة أكثر في إظهار الأحاسيس الخارجية، لأن المجتمع والبيئة ما كانا يسمحان للرجل بالتعبير عن مشاعره، فمثلاً في المنطقة الصحراوية لم يكن مسموحاً للرجل أن يبكي، على عكس المرأة. "لكن مع ظهور التوجه الذي يتخيّل المرأة في شكلٍ واحد، هو الشكل الجنسي، بدأ الرجل يحاكم المرأة مع تزايد رغبته في التحكم بها، وارتبط الرقص بفكرة الشرف".
ويرى عبد الغفار، وهو الرئيس الفخري لاتحاد الرقص الدولي، أن المشكلة تفاقمت خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مع ظهور مجموعة مقالات وآراء تشير إلى أن الرقص المصري، أو الشرقي، مبتذل، وفيه فجور، بينما تمدح الرقص الغربي الذي يمارسه ثنائي على الأغلب، وهذا الكلام أثّر في المجتمع، حتى بات بعض المتخصصين في الرقص ينظرون إلى المهنة وكأنها عار.
وأضاف أستاذ الرقص قائلاً: "في مصر القبطية، كان الرقص حلالاً، وعندما تحولت مصر إلى الإسلامية، دخلت العادات البدوية، وتغيّر المجتمع تدريجياً من الفكر المتفتح إلى فكر منغلق، إذ استخدم البعض الدين الإسلامي، وطوّعوه لخدمة مصالحهم بشكل خطأ ومغلوط، وبدأنا نسمع مصطلحات الحلال والحرام، وغيرها من الأفكار، فحصل انقلاب في العادات والتقاليد، وسيطر المد الديني على الفكر المصري، وبات من الصعب أن نرى نساءً يرقصن خارج إطار الأسرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...