شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"كيف أكون مدرّسة، وأهزّ وسطي؟"... التحرر من الجسد في غرف سرّية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 7 أكتوبر 202103:44 م

تقف أمام المرآة، وتتمايل على نغمات الأغنية التي يتحرك خصرها مع كلماتها، ليقطع هذا الانسجام صوت باب الغرفة. تنهرها والدتها عما تفعله، وتطلب منها أن "تبطّل قلة أدب"، وتخرج، ليذهب إيقاع اللحن الذي كانت ترقص عليه بخفة.

ترى والدة يمنى صبحي، أن الرقص فعل يتنافى مع الآداب العامة، بينما تحب ابنتها تلك الهواية، التي تمارسها خلسة في غرفتها، فتشعر خلالها بأنها تخرج من جسدها الذي يخنقها طوال الوقت، حسب وصفها، وتصبح أكثر خفة. لكن تلك المشاعر تتعارض مع الأم، ومع المحيطين أيضاً.

تخرجت يمنى (31 عاماً) من كلية التربية، وعملت مدرّسة لمادة الدراسات الاجتماعية في مدرسة خاصة. تقول لرصيف22: "الجميع يرونني مدرّسة تحظى بقدر من الوقار، لكنني أحب الرقص من صغري، وأرقص في الأفراح والمناسبات الخاصة بالعائلة والأصدقاء، وأذهب إلى حجرتي عند سماع أغنية في مناسبة، أو فرح قريب من المنزل، وأرقص".

هواية منى بدأت تزعج المحيطين بها، وأولهم والدتها. "أطلقوا عليّ لقب رقاصة العيلة، وتسبب هذا بغضب والدتي، لأنها ترى الرقص فعلاً فاضحاً، فكيف أكون مدرّسة، وأهزّ وسطي؟"، لكن يمنى لا ترى أن هناك انتقاصاً للأدب في تلك الحركات: "عندما أرقص، أشعر وكأنني أطير في السماء. لا أعلم لماذا تزعج تلك الحركات الناس، خاصةً وأن الرقص فن قديم".

ترى والدة يمنى أن الرقص فعل يتنافى مع الآداب العامة، بينما تحب ابنتها تلك الهواية، التي تمارسها خلسة في غرفتها.

خلال حديث يمنى مع زميلتها في العمل، قالت لها ممازحةً: "ابحثي عن مدرسة رقص لتتعلمي"، ويمنى أخذت العبارة على محمل الجد، "ليه لأ"، وبدأت بالفعل البحث عبر الإنترنت عن أماكن لتعليم الرقص.

عارضت والدتها الأمر. "بدأت ثورة في المنزل، وترى والدتي أنني أُصبت بالجنون لبحثي عن تعلم الرقص"، لكن تلك الثورة لم تثنِ الفتاة، إلى أن وجدت مركزاً لتعليم الرقص في منطقة المقطم، وحجزت الحصة الأولى. ذهبت إلى هنالك لتجد عشرات السيدات الراغبات بتعلم الرقص الشرقي، وأيضاً التحرر مما فرضه المجتمع على أجسادهن، من ملبس ومظهر معيّنَين. "في المدرسة، رأيت سيدات وفتيات يرقصن، ليس حباً بالرقص فحسب، ولكن لكسر القيود التي يضعها المحيطون بنا، على أجسادنا".

بإيشارب رقيق تضعه على خصرها، وبعد ذهاب من في المنزل جميعهم في نوم عميق، تبدأ يمنى بمراجعة دروس الرقص أمام المرآة: خطوتان إلى الأمام، ومثلهما إلى الخلف، ثم حركات دائرية مع ذراعين مفرودتين. تحرص على ألا يعلو صوت الأغنية التي تذاكر عليها، حتى لا توقظ والدتها من النوم، وهي لا تعلم أن ابنتها تتقدم سريعاً في دروسها، وتبرر لها غياب ساعتين في الأسبوع عن المنزل، بذهابها إلى صالة الألعاب الرياضية، للتخلص من بعض الوزن الزائد.

"الحفاظ على السمعة"

الرغبة في التعلم والشغف، كانت تنمو أيضاً لدى هدى محمد (اسم مستعار)، وهي متابعة منذ الصغر لبرامج الرقص الشرقي كافة، ووصلات الرقص التي تذيعها القنوات لنعيمة عاكف، وسامية كامل، وتحاول تقليدهن، فتجد نفسها تتقدم يوماً بعد يوم، حتى شاهدت برنامج "هزّي يا نواعم"، الذي كان يقيم مسابقات للرقص الشرقي، فظلت متابعةً له على مدار عامين هي مدة عرضه، تتعلم منه، وتضع نفسها أمام لجنة التحكيم، كواحدة من المتسابقات.

الأمر لدى هدى (35 عاماً)، أكثر صعوبة من يمنى، فهي تقيم في صعيد مصر الذي تحكمه العادات والتقاليد، وفكرة اتجاه فتاة نحو الرقص هناك، مرفوضة، حتى لو بغرض الهواية فحسب. بدأت هذه الصعوبات، عندما اقترحت هدى على صديقة لها تخصيص جزء من الصالة الرياضية التي تديرها، لتعليم الرقص. رفضت في البداية، وبعد محاولات الإقناع وافقت، شرط عدم ارتداء ملابس مكشوفة، أو الإعلان عن الأمر على الملأ، للحفاظ على سمعتها، وسمعة المكان. "تم الاتفاق على تخصيص ساعة يومياً للسيدات، يمكن تسميتها بالساعة الحرة، ويمكنهن الرقص خلالها، كنشاط تابع للصالة"، تقول الفتاة لرصيف22.

التقت هدى، خلال تلك الساعة، بسيدات مثلها، يجمعهن الشغف، وحب التمايل على الأنغام، وطلبن منها تخصيص يومين في الأسبوع، لتعليمهن الرقص، نظراً لمهارتها. العامل المشترك الذي كان يجمع أولئك السيدات، هو رغبتهن في الرقص من دون معرفة الآخرين، لتصبح تلك المدرسة الصغيرة، والصالة التي تعلن من الخارج أنها مجهزة لاستقبال محبي الرياضة، بمثابة عالم سري لهن. "نسعى هنا لنتعلم كيف نتحكم بأجسادنا، لتجتمع الحركات مع الإحساس بها. هي ليست حركات عشوائية، وإنما أشبه بلوحات متحركة"، تقول هدى.

التصالح مع الجسد

تأتي صور الراقصات في الأفلام والأعمال الفنية، محببة للرجال، إذ يحبون النظر إليهن وإلى أجسادهن. هم على الأغلب، لا يحبون الراقصات، وإنما ما يصدر منهن من حركات. هذا هو حال زوج شريفة مهران (42 عاماً)، فهو يحب مشاهدة الرقص الشرقي، ولكنه يصف زوجته بأنها لا تستطيع تأديته، فما تفعله هو "عجين الفلاحة".

العامل المشترك الذي كان يجمع أولئك السيدات، هو رغبتهن في الرقص من دون معرفة الآخرين، لتصبح تلك المدرسة الصغيرة، والصالة التي تعلن من الخارج أنها مجهزة لاستقبال محبي الرياضة، بمثابة عالم سري لهن

تقول شريفة، إنها حاولت ارتداء بدلة رقص حمراء اللون اشترتها من منطقة خان الخليلي في القاهرة، للرقص لزوجها، لأنه من الأشياء المحببة إليه، لكنه قابل تلك المحاولة بوصلة من الضحك. "قال لي مفيش رقاصة بكرش"، لتأتي تلك الكلمات قاسية على مسمعها.

ذهبت شريفة إلى زوجها، لتخبره بأنها قررت الالتحاق بمدرسة رقص، لينهرها ويرفض الأمر: "قال لي إنه لن يقبل أن تتحول زوجته إلى راقصة، لأن الراقصات سيئات السمعة"، وهنا تحولت رغبة السيدة في تعلم الرقص إلى إصرار، حتى تتصالح مع جسدها، بعد رفض زوجها له.

"شعرت بأن الرقص سيساعدني على اكتشاف نفسي، والبحث عن امرأة تاهت مع مرور الزمن، والزواج، والإنجاب، ليرى زوجها أنها أصبحت سيدة بدينة لا يمكنها الرقص كبقية السيدات اللواتي يشاهدهن بإعجاب".

بدأت شريفة أولى الدروس، وهي "متجمدة"، لا تقدر على الحركة. "في الحصة الأولى، كنت مثل قطعة من الخشب. أنظر إلى ترهلات بطني، بسبب الولادة، وأتذكر حديث زوجي عن جسدي".

أغمضت شريفة عينها، وحاولت التمايل على نغمات أغنية "على رمش عيونها". وجدت نفسها تفك خصلات شعرها بشكل لا إرادي، وترتفع قدمها عن الأرض قليلاً، وتسير في حركة دائرية، ثم تثور على جسدها المتصلب، وتقرر الخروج منه. تشعر بأنها طفلة صغيرة، أو امرأة مثيرة، لتفتح عينها، وتقابل تشجيع المدرّسة التي أعطتها العصى لتكمل وصلتها.

أصبحت المدرسة التي تذهب إليها شريفة يوماً في الأسبوع، خلسةً، مكاناً للضحك، والصراخ، والتحرر، وهو ما تفعله بقية السيدات في تلك المساحة السرية لهن.

مساحة آمنة

تشير نورا سلطان، وهي مدرّبة رقص في مدرسة "بلاي دانس"، في القاهرة الجديدة، إلى أن السيدات يقبلن على تعلم الرقص بكثرة، في السنوات الأخيرة، فتقابل يومياً في المدرسة، عشرات الباحثات عن تعلم الرقص الشرقي، والغربي بأنواعه المختلفة.

تتفق نورا على أن الكثير من السيدات يذهبن إلى تلك المدارس، تحت عبارات خفية، منها الذهاب إلى صالات الجيم، أو التمارين الرياضية، لأن المجتمع لا يزال يرى أن الرقص أمر غير محبب، بل وسيئ السمعة، فصورة الراقصة تأتي دوماً في الأذهان، كامرأة لعوب تثير الرجال، وهو ما يدفع السيدات إلى تعلّم الرقص في الخفاء، للموازنة بين الشيء المحبب إليهن، والهروب من أحكام المجتمع.

تقابل نورا في الحصص اليومية في المدرسة، سيدات يبحثن عن مساحات آمنة للحديث، وليس الرقص فحسب، فمع تلك الحركات التي تتمايل بها النساء، تحكي إحداهن عن شجار دار بينها وبين زوجها، ومع صعود حدّة الشجار وهي تحكي، تزداد إيقاعاتها، وأخرى تحكي عن بحثها عن الحب، وغيرها تحكي عن تسلط حماتها، ليصبح المكان مساحة للتحرر من المشكلات والهموم، إلى جانب تعلم الرقص.

"المجتمع لا يحترم الراقصة"

فى تحقيق للكاتب المصري فاروق أباظة، بعنوان "الغروب الكبير فى شارع العوالم"، نُشر عام 1960، تحدث عن بدايات ظهور "العوالم" في شارع محمد علي، الممتد من ميدان العتبة حتى القلعة. يقول إن الرقص كان محرّماً على المصريات فى القرن التاسع عشر، وبالأخص المسلمات منهن، حتى كسرت فتاة جريئة القاعدة، وأطلقت على نفسها اسم مريم، وهى جدّة الفنانة سميحة توفيق.

بعدها، بدأ شارع محمد علي يعرف مواهب نسائية تجيد الرقص، مثل فايزة أم برقع، التي كانت تقدّم فقرتها بالبرقع، وتوحيدة، وسعاد محاسن، وزوبة الكلوباتية التي فاقتهن شهرةً، لأنها كانت تجيد الرقص، وهي تحمل الشمعدان على رأسها، بحيوية.

تقابل نورا في حصص تعليم الرقص سيدات يبحثن عن مساحات آمنة للحديث، فمع تلك الحركات التي تتمايل بها النساء، تحكي إحداهن عن شجار دار بينها وبين زوجها، وأخرى تحكي عن بحثها عن الحب، وغيرها تحكي عن تسلط حماتها، ليصبح المكان مساحة للتحرر من المشكلات والهموم

ربما يرجع رفض والدة يمنى، وزوج شريفة، للرقص الشرقي، للأفلام التي تصور الراقصة على أنها امرأة تثير الرجال فحسب، فتأتي معظم مشاهد الراقصات في تلك الأعمال، في الملاهي الليلية، وهو ما دفع الراقصة المصرية إيمي سلطان، لإطلاق مبادرة لتوثيق الرقص المصري، تحت اسم "طرب".

تقول إيمي لرصيف22، إن هناك العديد من مدارس الرقص، فهناك رقص "الغوازي"، والصعيد، والدلتا، والبدو، وغيرها، وكل نوع تحدده الموسيقى الخاصة به، فكان من الضروري حماية هذا التراث، خاصةً بعد دخول العديد من الأجنبيات هذا المجال.

بدأت إيمي برقص الباليه منذ صغرها، ثم اتجهت إلى الرقص المصري في الكِبر، وترى أن هناك العديد من الأمور الغائبة عن المجتمع الذي يحاول تقديم الراقصة في صورة واحدة، ولا يحترمها. "تسعى مبادرة طرب إلى تغيير هذه الصورة، والحفاظ على التراث، وتوثيقه، بالبحث في التاريخ والأرشيف، وتشكيل ملف، وتقديمه إلى اليونسكو، لتسجيل الرقص المصري كإرث ثقافي، مع إنشاء مدرسة لتعليم الرقص بالطريقة الصحيحة"، تضيف.

في عام 2014، علّقت قناة مصرية عرض مسابقة للرقص الشرقي، بعدما انطلقت أولى حلقاتها، وأثارت جدلاً كبيراً، وأصدر العلماء بياناً حينها، أكدوا فيه أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ما وصفوه بـ"الهجمة الشرسة على الإسلام، وأخلاقياته، وقيم المجتمع، وأعرافه"، كما تلقّى مكتب النائب العام أربعة بلاغات، من محامين ومواطنين، تطالب بوقف البرنامج الذي "يساهم في نشر سوء الأخلاق".

رغبة الفتيات والسيدات في تعلّم الرقص، وتغيير الصورة النمطية عنه، تفسّر مقاطع الفيديو التي ينشرنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهن يرقصن على أغانٍ مختلفة، لتقابل تلك المقاطع بهجوم واسع، وليصبح الملاذ هو المدارس التي تتحول إلى غرف سرية للراغبات في الحركة والتمايل على أنغام الموسيقى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image