سألني صديق قادم من مصر هل أرغب بشيء معين يجلبه. "بدلة رقص" أجبته.
صديقة بجانبي استنكرت: "لا تمزحي بأمور كهذه، ستؤخذ عنك نظرة سيئة"، طمأنتها: "لم أكن أمزح".
لو كنت أتقن الرقص لربما سلكت سلوكاً مختلفاً في حياتي. نعم هذا الأمر أعشقه، وليت الليونة تعود يوماً.
حبي للرقص كان سراً خجولاً، لم أفشِ به إلا بعد درس قاسٍ علمني ألا أخشى شيئاً، كنت في الثامنة والعشرين.
قررت يومها أن أعلن: "نعم أحب الرقص". نشرت صورة لي وأنا أقف على تلة خضراء، رافعة ذراعي كما تفعل الراقصات. تنفست بعمق وكأن صخرة كبيرة أُزيحت عن صدري. شعرت نحو الرقص بامتنان.
ألجأ إليه في الأوقات السعيدة والحزينة على السواء، وحين أكون مريضة فإن شهيتي له تزداد.
في المطعم، الحجاب يقيدني و"ربنا ما يقيد إلا وحوش"، لكن سطوة الحجاب لا تمتد إلى قدميّ اللتين تعتزلان الجميع وتعيشان تحت الطاولة.
لم أدمن في حياتي شيئاً قط؛ لا التدخين ولا القات، لا التسوق ولا مشاهدة التلفاز. كل ما في حياتي استطيع التحكم به إلا الرقص وحده يتحكم بي... ليس في يقظتي فحسب، بل قد يتحرك رأسي وأنا نائمة استجابة لأنغام موسيقى انبعثت من سيارة مارة في الجوار.
يُصبح الخلق مُسبِحين وأصبح أنا أهزّ على أنغام المنبه.
لا اقتنع بفستان جديد إلا بعد أن أجرب الرقص به، ولأن رقصي لا إرادي فإن آخر القطع التي رقصت بها كانت ثوب صلاة أهدته إلي صديقة، أرادت المسكينة أن تفعل خيراً.
حين أذهب في رحلة، الرقص يسبق استكشاف المكان، ليس بالضرورة بحركات احترافية، يكفي أن أقلد صوت طبلة: تك تك دم، وأقوم بكم نطة.
يسوء يومي في المكتب إن تم تشغيل موسيقى راقصة، إنه التعذيب بعينه، لكني احتال على ذلك بإغماض عيني، كمن يفكر في مسألة ما، وأرقص بمخيلتي.
في المطعم، الحجاب يقيدني و"ربنا ما يقيد إلا وحوش"، لكن سطوة الحجاب لا تمتد إلى قدميّ اللتين تعتزلان الجميع وتعيشان تحت الطاولة.
إخفاء حبي للرقص يعود إلى البيئة المتشددة التي نشأت فيها، كل شيء موضع تحريم هناك؛ الموسيقى، الغناء، ناهيك بالرقص، والرقص الشرقي خصوصاً. يعتبر من يغني إنساناً من درجة رابعة، طبقاً لتقسيم اجتماعي عجيب!
لا أتذكر الأمر الذي أحدث هذا التغيير في عقل فتاة مؤمنة بأفكارها، على كل حال لم أكن على وفاق دائم مع الشيخات، بدأ الأمر بالتدريج، كنت بمخيلتي أصول وأجول مع كل الفنون، أتذوق صوت أم كلثوم، أقيّم خفة نجوى فواد، أرى نفسي على المسرح محل شيريهان تماماً
كبرتُ متشربة أفكار بيئتي، الحارة، المدرسة، المسجد. كان لنا -نحن الفتيات- أنشطة صيفية؛ دورات في حفظ القرآن ودراسة التجويد والفقه على يد شيخات. كنت من الاجتهاد والطموح بحيث رحت أحلم بأن أكون شيخة، غير أن ميلي للنقد والتشكك صعّب علي المكوث داخل الصندوق. كنت حينها أحاكي دور الداعية، أوزع النشرات وأشرطة "الكاسيت" الدينية، أصلي وأدعو بالهداية للصديقات اللاتي يسمعن الموسيقى طوال الوقت، لكن "العرق دساس"؛ جينات "الصياعة" انتصرت أخيراً.
لا أتذكر الأمر الذي أحدث هذا التغيير في عقل فتاة مؤمنة بأفكارها، على كل حال لم أكن على وفاق دائم مع الشيخات، بدأ الأمر بالتدريج، كنت بمخيلتي أصول وأجول مع كل الفنون، أتذوق صوت أم كلثوم، أقيّم خفة نجوى فواد، أفتتن لشقاوة سعاد حسني، أسرح أمام رشدي أباظة، أرى نفسي على المسرح محل شيريهان تماماً، ثم بتنهيدة "أستغفر" وأُنهي مروق عقلي وضياع وقتي في ملذات الدنيا الفانية مواسيةً نفسي: "في الجنة إن شاء الله".
حين كنت أشتاق لسماع أغنية، كنت أخوض مفاوضات في سري، تنتهي باتفاق أن أسمع ما شئت اليوم، على أن أكفر عن هذا الذنب بصيام ثلاثة أيام. منحت نفسي رخصة لسماع الأغاني والرقص ومشاهدة الأفلام والمسرحيات في فترة "الدورة الشهرية"، ذلك أن الله أسقط عني الصلاة خلالها، وهي عماد الدين، أفلا يسمح لي بسماع الأغاني؟
في إحدى السنوات شاع صيت برنامج "هزي يا نواعم"، لم أكن قد شاهدته، لكني سمعت كغيري من الطالبات في حصة الدين، أنه تجسيد عن "الغزو الفكري الماسوني الذي يقصد به إفساد الفطرة السليمة وتحويل المرأة المؤمنة إلى فاسقة". استمر الصراع بين نصفي المتدين الذي يرى الرقص -خصوصاً الشرقي- حراماً، ونصفي الآخر المفتون به.
يبدو أن محبتي للرقص فطرية. في الخامسة من عمري كانت والدتي تصطحبني معها إلى بيت الجيران، هناك كنت أعيش مجدي، تفرح بي الأمهات، يضعن على راسي القرقوش* وأشرطة ملونة لامعة، تبدأ الجدة بغناء ما يشبه الأهازيج الريفية، فيضعنني على طاولة دائرية ارتفاعها نصف متر، لأرقص، ويصفقن.
حذرتْ جارة خبيثة والدتي -ربما بنيّة طيبة- من فعلي، وصورت لها الأمر وكأنه نقيصة اجتماعية، "لن تتزوج ابنتك مستقبلاً" قالت الجارة. فتوقفت والدتي عن زيارة الجيران الطيبين، ومنعتني من الرقص أمام أحد.
منحت نفسي رخصة لسماع الأغاني والرقص ومشاهدة الأفلام والمسرحيات في فترة "الدورة الشهرية"، ذلك أن الله أسقط عني الصلاة خلالها، وهي عماد الدين، أفلا يسمح لي بسماع الأغاني؟
لا تزال المحرمات كثيرة في مجتمعنا، المرأة ضحيتها الأولى. ورغم أن هذا يكسبنا دلالاً من جهة فهو يسلبنا حياتنا بالمقابل، وقراراتنا، وميلنا نحو الأشياء، وتعبيرنا الصادق عنها، يسلبنا بشريتنا؛ فخطأ واحد قد يؤدي بنا إلى القبر، ولا أدري من أين وكيف جاء الاعتقاد بأن الله خلق النساء معصومات!
تمضي الأيام سريعاً... بالأمس كان الحديث عن الرقص تابو، اليوم يعد امتلاك الفتاة بدلة رقص شبهة أخلاقية، وكما تغيرت الفتاوى الدينية بخصوص الموسيقى سنشهد في الغد القريب فتاوى تعترف بالرقص فناً راقياً جميلاً... وإلى ذلك الحين سأبقى على قيد انتظار بدلة الرقص.
*القرقوش غطاء للرأس تضعه الأمهات على رؤوس أطفالهن لحمايتهم من البرد، يعود أصله إلى يهود اليمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...